نشرة “الإنسان والتطور”
الاثنين: 28-11-2016
السنة العاشرة
العدد: 3377
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (127)
عودة إلى المقابلة الإكلينيكية:
حتمية حضور الوعى المتبادل للعلاج
ورسالة رائعة من أ.د. صادق السامرائى
أنهيت نشرة أمس وأنا فى حيرة كيف أصيغ ما أريد إبلاغه عمليا وتحديدا فى كلمات عاجزة عن الإحاطة بالوعى، والإدراك، والنبض (إلا شعرا، وتسبيحا!!)، وعندما عدت إلى مئات الصفحات التى حاولت فيها أن أقدم خبرتى وفروضى، وجدت أننى كنت كلما شعرت بعجز الكلمات، أو وصلنى غموض الرسالة، استعنت بأشكال توضيحية أعتقد أنها قد قامت بالواجب ولو بدرجة نسبية
انتبهت إلى آخر شكل صدّرت به نشرة أمس، نبهنـْى إلى رسالة كريمة، علمية إبداعية، نشرتها شعن (الشبكة العربية للعلوم النفسية) بتاريخ (19/11/2016) للإبن والزميل المبدع الشاعر أ.د. صادق السامرّائى بعنوان: “فصام وإختصام”!!، وقد آنَسَتْنى هذه الرسالة من هذا الصديق بوجه خاص، وقد حضر يشاركنى حذرى وتحذيرى، تعالوا نقرأ بعض نص كلماته:
“..الاقترابات التقليدية تساهم فى التكرار والمراوحة والتخندق فى متاريس ذات مصدات وموانع سميكة، وقدرات دفاعية إنعكاسية فائقة، وهذا ما يدور فى أروقة العلوم النفسية والسلوكية، التى تستعبدها النظريات المستوحاة من رؤى وتصورات، ربما تفتقد للرصيد الواقعى الملاحظاتى السليم.”.
وأهمية هذه الرؤية أنها تصدر من وعى وعقل يعيش فى الغربة وهو يحمل كل آلام وتاريخ وعبقرية لغته ووعى وناسه باحترام وفخر بالغين، وفى نفس الوقت يساهم فى تعرية كل سلبيات قومه ونقد تخاذلهم عن مواصلة حمل رسالتهم البالغة الإبداع والدلالات، فى نفس الوقت أيضا هو يذكر الفروق الحضارية التى يمثلها مضيفه الشعب الغربى عامة أو الأمريكى خاصة، لكنه لا يتردد فى تعرية خطورة تسلطه المؤسساتى، فينقده بشجاعة وعدل لا مثيل لهما، فهو الذى يقول فى نفس الرسالة:
“….إن المشكلة التى تواجه العلوم النفسية هو الإمعان بالصندقة ورفض الزحزحة، والإنغلاق والمراوحة فى ذات البقعة المعرفية والنقطة الإدراكية، وفقدان القدرة على التحرر منأصفاد الرؤى والتصورات السائدة…..، ثم يقول:
“… فالتصنيفات والتوصيفات ما هى إلا مشتركات تخاطبية ما بين ذوى الإختصاص، لكى يتحقق العمل وتتواصل الأبحاث فى صناديق مقرر ما فيها مسبقا”.
فأطمئن لكل هجومى على أهمية وأولوية التشخيص والتصنيف، وعلى الاكتفاء بالاتفاقية reliability على حساب المصداقية Validity (أنظر مثلا نشرات: نشرة 6-9-2015 ونشرة 14-8-2016).
ثم يضيف:
“…إن الإختصاصيين النفسانيين قد وضعوا لأنفسهم مسارات محددة، وقرروا التحرك فيها وعدم النظر إلى ما حولها، وهذا يعنى أن كل رؤية محكومة بآليات مسبقة وثوابت راسخةلا يمكنها أن تأتى بجديد، وهذا من أهم أسباب جمود الحركة فى ميادين العلوم النفسية وإستنقاعها، مما يتسبب فى إعادة تصنيع ما تحتويه وتسويقه بأغلفة جديدة بين فترة وأخرى.”
ثم يتفضل وألتقى معه فى الاعتراف بالمساحة الأرحب التى نتحرك فيها فى علاج مرضانا، الامر الذى يتيح لنا فرصا أكبر مما لو كنا نسير مكبلين بقيود بشرية تحمى أحيانا وتعوّق الإبداع كثيرا، وقد عبرت عن ذلك مرارا بما أسميته “فضل التخلف“، هيا نسمعه وهو يقول:
“…ويبدو أن الإختصاصى النفسى فى المجتمعات الغير متقدمة يمتلك حرية أكبر وقدرة ملاحظاتية أوسع، لأن التفاعل بينه وبين ما يعاينه أكثر مرونة وأقل مسؤولية من الإختصاصى فى الدول المتقدمة، التى تتحول فيها العلاقة ما بين الإثنين إلى مسؤولية قانونية ومرهونة بمعايير كثيرة وأحيانا صعبة.”
وهو يختم رسالته برد الاعتبار لأبحاث وأطروحات ما يسمى “تقرير حالة ” قائلا:
“..وهذا يعتمد على دراسة الحالات الفردية وتدوينها والتعلم منها، ذلك أن العلوم الطبية بأنواعها قد إنطلقت من دراسة الحالات، وليس من البحوث المعقدة التى تدور فى عالمنا المعاصر، وتبقى الملاحظة السريرية وتقرير الحالة منطلق للمعرفة والإدراك النفسى والسلوكى الذى يعزز قدراتنا ويؤهلنا للإمساك بجوهر العلل والإضطرابات السلوك”.
فيفرحنى بالجهد الذى بذلت فى عرض الحالات فى باب “حالات وأحوال” التى لم يقدر على متابعتها إلى القلة الصابرة
وبعد
ما أجملك يا صادق وما أشجعك، بارك الله فيك، وسدد خطاك، وأعاننا على حمل الأمانة، وجزى د. جمال التركى خيرا أن جمعنا هكذا لنتبادل المعارف فتطمئن قلوبنا ونواصل بفضل الله.
ولى عودة لمناقشة هذه الرسالة العبقرية المؤنسة، ما ذكرت منها الآن، وما بقى فيها
من الكِتَابْ إلى المريض أم العكس؟
أرجع الآن إلى الشكل الذى بدأت به نشرة أمس، والذى نبهنى إلى أنه لا تقدم للطب النفسى بما نأمل فيه ونرجو منه إلا إذا اهتزت أصنام كثيرة حتى تحطمت، ومن ذلك تقديس الكلمة المطبوعة فى ورق مصقول مستورد، والانحناء التسليمى للعلم المؤسسى الذى أصبح أداة لغير ما هو علم، على حساب طمس الخبرة المباشرة المتاحة من واقع الوعى، أو كما يقولون فى القول المصرى العامّى الشائع الواقع: “من لحْم الحىّ”، يقصدون الأصل العارى، إلا من الحقائق المرعبة الرائعة الجميلة الهادية، ولعل تأثـُّرى بهذا الوعى الشعبى هو الذى جعلنى أصوِّر تعلّمى من مرضاى فى افتتاحية ديوانى “أغوار النفس” شعرا عاميا قلت فيه: “ييجى صاحْبَك “مَـلْط” إلا مالْـحـقيقهْ،ّ ييجى يزقُـلُها فى وشى وتـنه ماشي”. الأصل فى فن الطب والتطبيب هو المريض بكل ما هو، والعلاج الحقيقى هو ما يقوم به الطبيب من مشاركة وعيه بوعى المريض فى محنة إعاقته أو انحرافه، مستعينا فى ذلك بكل ما يصله من معلومات، وأبحاث، وأخبار، وإحصاءات، لكن يظل ما هو ماثل فى وعيهما المشترك (الوعى البينشخصى بين المريض والطبيب)، هو الأصل.
الذى حدث مؤخرا، هو العكس، أصبح الحديث يجرى على أن التطبيب لا بد أن يبدأ من المعمل إلى السرير، وقد حاضرت فى المؤتمر الدولى السنوى لكلية الطب جامعة الإسكندرية منذ سنوات مرتمرا عقد لهذا الطب المسمى الطبنفسى الترجمى Translational Psychiatry From Desk to Bed side, قدمت فيه محاضرة كاملة تؤكد العكس، بعنوان: (“الطب النفسى: من الممارسة إلى العلم، وليس العكس” بتاريخ 8/10/2014) مبينا فيها: “أن فن الطب العلمى، وعلم الطب الفنى، يبدأ من شحذ وعى وإدراك الممارس المشارك لرصد كل ما يصله من مريضه، ما يفهمه ويسارع بتسميته، كما يصله ما لا يفهمه، فيبدأ مشوار بحثه وتقصيه فى كل اتجاه: فى الأدب، والنقد، والعلم، والتاريخ، والتراث، ليعود بكل ذلك طول الوقت يطبقه ويختبره ويتعلم منه لصالح مريضه باستمرار، باستمرار باستمرار”
فى نشرة الأسبوع الماضى جعلت الشكل التوضيحى الذى تصدًّر النشرة يشير فى سخرية إلى كيف أن الطب النفسى المؤسسى الممنهج يبدأ من الكـِتاب المطبوع المصقول إلى المريض، مع أن الطب النفسى الحقيقى هو فن المداواة والتشكيل، “فن نقد النص البشرى”: يبدأ من المريض ثم يستعين بكل ما يعين، وكم اعترفت كيف تعلمتُ أكثر أبعاد النفس من الأدب ي سيكولوجية النقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سنة 2006">(1) ورفضت وصاية التحليل النفسى، على الأدب فى كثير مما يسمى النقد النفسى للأدب(2)وذلك حين تصبح، البداية من النظرية النفسية لنحشر فيها النص الأدبى حشرا وكأننا نعيد أسطورة بروكست قاطع الطريق الذى كان يقطع ساقى الضيف إذا كانت أطول من حجم سرير ويمطهما إذا كانتا أقصر.
ما يجرى الآن فى معظم التطبيب النفسى هو أن الطبيب النفسى، برغم كل برامج التدريب والإشراف، يظل خاضعا لمحكات مكتوبة، وأبحاث منشورة، وأرقام مرصوصة، يذهب وهو ممتلئ بها إلى المريض فيبحث عن ما يؤيدها، ويحشر المريض حشرا داخل أقرب قالب يقترب من مقاسه، وأكاد أرى بعض طلبتى وزملائى، وهو يحذفون ما لم يسمعوا عنه فى كتبه، ويقربون ما يثريهم إلى أقرب ما ورد فى هذه الكتب، ليخرجوا فى النهاية بلافـتة تشخيصية محكمة، تصلح لاستعمال عقار بذاته، أو تقدَّم لشركة تأمين لها اشتراطاتها ومواصفاتها حتى تقوم بتمويل العملية العلاجية .
من أين يبدأ الطبنفسى الإيقاعحيوى
بالتأكيد أنه لكى يكون هناك طب، لابد أن يكون هناك “طبيب”، له وعى وإدراك، ونبض وجدان حى، وشغف بالمعرفة، وسعى إلى المجهول، وهو بذلك يمكنه أن يشارك مريضه حيرته، ويفهم لغته، ويترجمها إلى أقرب إبداع محتمل، ويؤصلها إلى أعمق أصل ممكن، ثم هو يواكب مريضه فى رحلة العودة إلى “ربى كما خلقتنى” بوعى يجادل وعياً: إلى وَعَىٍ ثالث: فرِابع: فكثير: فمطلق: فممتد فى غيب إليه على أرض الواقع، مستعينا بكل ما يصل إليه، ويجتهد فى احتوائه من المعلومات والعلوم والخبرات والمعارف والإبداعات والإيمان،
حين استعنت بهذا الشكل السابق وكتبت عليه “أين المريض” فى محاولة التنبيه إلى أن كل هذه الكتب تسحق المريض سحقا تحت معلومات مرصوصة فى الكتب كثير منها لا يخصه، تذكرت فجأة أن نفس الكتب هى التى تسطـِّح وعى الطبيب فتبعده حتى عن نفسه حين تسجن إبداعه وحب استطلاعه، وتخفت شعلة شغفه بالكشف وارتياد الغموض ليقبع بين أوراق الكتب لامعا مرتعشا، هكذا رحت أكرر الشكل ليعبر على ما أعنيه من أن الطبيب الذى يمارس مهنته تحت كل هذه الوصاية المحكمة الصقل بلا مسام، هو أيضا غائب عن التطبيب الحقيقى، وعن فرصة إعادة تشكيل النص البشرى لمريضه، نقده، وهو أيضا يحرم نفسه من فرصة إعادة تشكيل نصّه البشرى الخاص نقدا أيضا.
الخلاصة اليوم، وبفضل الصديق المبدع الشاعر أ.د. السامرائى هى:
إنه إذا غاب المريض عن وعى الطبيب، أو بتعبير أدق، استــُبعــِدَ حتى تهمّش، وحل الرموز المتباعدة محل الكل الضام، وحلت المعلومات محل نبض الوعى، وحل اسم المرض محل لغة (بل لغات الألم) وحل التشخيص محل النفسمراضية التركيبية الغائية، فالذى يُمَاَرَسُ ليس طبا، أو على الأقل هو ليس الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى
كذلك إذا غاب وعى الطبيب وحلت محله ما حفظه وسمعه، أو خوارزمية التصنيف والتوصيف أو جدول ضرب الأرقام والجداول، غاب الطبيب نفسه عن نفسه، وعن مريضه، وعن مهنته.
ولنا مع رسالة أ.د. صادق السامرائى عودة، ففيها ما يستحق ذلك وأكثر.
[1] – يحيى الرخاوى “تبادل الأقنعة” دراسة في سيكولوجية النقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سنة 2006
[2] – يحيى الرخاوى: “إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبى” (المجلد الرابع – العدد الأول: 1983) – مجلة فصول.