نشرت فى جريدة الأخبار
30/12/1979
الصورة المعاصرة.. للمهدى المنتظر
لن يأتى المهدى المنتظر مادمنا فى انتظاره.. وعلينا أن نواجه واقعنا وأن نفجر امكانياتنا ليصبح كل منا هاديا مهديا بلا انتظار..
لم يظهر المهدى المنتظر فى الحرم الشريف قادما من قبيلة عتيبة، ولا فى جوايانا نت قبيلة جونز، وأنما ظهر فى أنفسهم – أنفسنا – من قبيل الستسهل والتعجل للتخلى أمام واقع ساحق.
ولاشك أن من حق الناس أن تحلم حين يواجهون الظلم يحيق بهم من كل جانب، وذلك أذ يرون كيف تختل حسابات الواقع، وكيف تفرغ الألفاظ من معانيها، وكيف تتسطح الأفعال حتى تؤتى لملء الوقت وليس للوصول الى غاية.
أقول أنه فى وسط هذه الدوامه المتوه، لابد أن يطل الحلم بزينته ورونقه وكأنه الواقع الممكن لمصير الإنسان المغلوب على أمره، ويغريه بالإستمرار فى اتتظار المنتظر لعل وعسى، وطبيعى أنه يحمل مثل هذا الحلم السعيد ما يتناسب مع فرط الإنهاك الذى استجلبه، ولمثل هذا الإنسان المغلوب أن يتمنى كأن يأتيه الحل جاهزا فى صورة قوة هادية مهدية قادرة سحرية، عادلة فبية، وماعليه الا أن يسير وراءها أملا أن يعوض مالحق به من ظلم متعطشا الى التمرغ فى خدر الرفاهية ومثالية العدل بأقل جهد وأخطر استسلام. وقد تجسد هذا الحلم فى وعى الشعوب فى صور المننقذ والقادمو المهدى، وأرتبط هذا التجسيد بنصوص دينية حقيقية أو مفتعلة، وكان ذلك طبيعيا فى قديم الزمان بما يتناسب مع الأطوار البدائية للوجود البشرى، حين كان الإنسان نهبا لتقلبات الطبيعة بما فى طبيعة ذلك أخيه الإنسان، فأذا كان هذا هو الأصل التاريخى للفكرة، وإذا كان ظهورها مجسدة بين الحين والحين هو الحل الدفاعى الوسط بين العجز والأمل، بين السحق والخلاص، فما هو الوضع الآن وقد تغير الحال فير الحال، أو ينبغى أن يكون كذلك.
لاشك أن الإنسان المعاصر قد تنازل بعض الشئ عن هذا النهج الإستسلامى الإعتمادى التأحيلى ولكنه قد احتفظ بتهويمات الحل السحرى المنتظر، وأن كانت قد ارتدت اثوابا عصرية حتى بدت وكأنها ليست هى، الصور المعاصرة والخفية والصور المعاصرة لمثل هذا الدفاع الهروبى نظهر فى أكثر ن مجال ولكن بشكل يحتاج الى عمق الرؤية وحسن التبصر:
(ا) فالفن الشكلى الذى يقدم البطولات الخرقة ابتداء من جيمس بوند حتى المرأة الخارقة ليس له وظيفة الا أن يسمح بتقمص هذا الحل السحرى المنتظر، فيخدعنا بامكان تحقيق مثل ذلك فى يوم ما بشكل ما، والمصيبة أن الخدعة أصبحت تقدم للكبار بعد أن كانت صالحة للصغار فقط فى صورة الشاطر حسن وعلى الزيبق حتى ميكى والسوبرمان.
(2) والفن الأعمق الذى يرسم المستقبل – دون الإسهام المباشر فى تحقيقه ـ لايخلو من هذه الصور الآمله صراحة، وليس أدل على ذلك من يوميات صلاح عبد الصبوا عليى لسان نبى يحمل قلما ينتظر نبيا يخمل سيفا، اذ هو يبشر به.. ثم يستغيث به.. يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة ويغنى بالسيف ياسيدنا القادم ن بعدى هل أسرجت جوادك…، ياسيدنا هل أشرعت حسامك.. الخ الخ، هذا كله طيب ما دام شعرا غير ملتزم الا بالصدق والجمال، ولكن أن يطفى هذا الموقف على الموقف اليومى للكافة فهذا أمر أخر.
(3) الحلم التكنولوجيا العلمى وأحلام العلماء تجسد مهديها بصورة متنوعة، كل فى مجاله، وهى أكثر طموحا وأكثر واقعية فى نفس الوقت ومن بينها ما تحقق فى شكل سفينة الفضاء التى تلوح بحل مشاكل الأرض هناك على شمال السماء ومن بينها ما ينتظر الحل السعيد. ولا أملك الفتوى الا فيما يخص تخصصى فنحن نعيش – فى مجال الطب النفسى مثلا – حلما ليس أقل هزلا وخداعا من اسطورة المهدى المنتظر، اذ نحن ننتظر عقارا سحريا نضعه على المخ يبرد، وهذا العقار السحرى الذى تلوح لنا به المعامل والأبحاث هنا وهناك هو حل سهل، يلخص المشكلة الإنسانية ويوجزها فى وجود كيميائى ميكانيكى يافه. ويعررضها لمخاطر أكبر من قدرة الكيمياء وطموح العلماء لأن ماقد يفعله عقار سحرى منتظر فى سراديب المخ البشرى قد لايقل خطرا عما فعله المأسوف على ثوريته فى سراديب الحرم الشريف
(4) تقديس البطل: وفى مجال السياسة يقوم تقديس البطل وعبادته مقام المهدى المنتظر، وذلك حين تلتقى جحافل الظلام مع شلل العجز يولف بينهما حلم الحل السرى فلا يملك الجميع الا أن يتطلعوا حولهم فى انتظار المنقذ، والمتجول فى شارع التاريخ لابد وأن يلاحظ على الجانبين تماثيل وأصناما وهياكل عدد من المهديين (الذين كانوا منتظرين يوما) الناجحون منهم والفاشلون على حد سواء، فلم يكن المرحوم هتلر لينجح ويؤدى بالإنسانية الى ما أدى اليه من كوارث لمجرد أنه فرد متحمس أو حتى مجنون مهما بلغت قدرته الفرديه الخاصه الا أن السبب الحقيقى فى نجاحه هو أن شعبه وربما العالم – كان ينتظر وينتظر، فلما لوح له بما ينتظره حقا وباطلا انساقت الجماهير الى الحل السعيد المزعوم… ومن ثم الى الهاوية، ولعلنا ظلمنا زعيمنا الراحل جمال عبد الناصر لأننا كنا ننتظر المنتظر أكثر مما كان نتصور، وحين ظهر ضابطا مخلصا متواضعا ليسهم فى حركة مباركة اذا به يجد نفسه قائد ثورة وصاحب فلسفة وقائد أمة تنتظر بحجم آمال شعبنا وطول تفسيره باعتبار أنه القاء بالمسئولية بأكملها على كاهل الإنسان فردا وجماعة دون انتظار أو تأجيل مخدر واستسلام لقدر قادم مجهول.
الطفل المنتظر مهرب الحاضر
بل أن خدعة المهدى المنتظر قد تأخذ شكلا أخفى يظهر فى المبالغة فى قيمة الإهتمام بالأطفال باعتبارهم أهل الحل والربط- مستقبلا – الذين سيأتون بما لم تستطعه الأوائل، ورغم مافى هذا الكلام فى ظل حقيقة ومسحة تفاؤل، الاأنه قد يكون صورة خفيه للمهرب من واقع الآن حيث كلما واجهنا مصيبة أو منينا بهزيمة لجأنا الى تتصور ظاهر أوخفى ان أطفالنا سيحلونها – ان شاءالله -، وقد بلغ التظاهر بالإهتما بالأطفال والإختباء فى العناية بهم مبلغا أخذ اشكال الدعاية التى لبثت ثوب العلم أحيانا، حتى خصص لها عام بأكمله، والتاريخ أوعى من أن ينسان وراء مثل هذه الهوجات الا بمقياس التطور البشرى الحقيقى الأنفع، وإلا فقد يثبت أن ما ندعيه من أساليب التربية الحديثة ليس سوى مجرد مهرب فى الطفل المنتظر بعيدا عن مشاكل أنية تنازلنا عن شرف مواجهتها.
الأن أو أبدا
وبعد ذلك لابد أن نراجع بأمانه وبمسؤولية مدى حقنا الحالى فى مهرب التأجيل المستمر والإنتظار المترقب الى مالا نهاية.
فإذا كان اجدادنا الأولون قد حق لهم أن ينتظروا المهدى تلو المهدى والمنقذ تلو المنقذ فقد كان هذا بسبب وجودهم كريشة فى مهب الريح أمام تقلبات مزاج الطبيعة الأرعن.
وإذا كان ضعف الطفل يبرر له أحلام الإنتظار السعيدة وإذا كان وجدان الفنان يكتفى برسم المستقبل عن تنفيذه…..الخ
فإن كل ذلك لم يعد يبرر التمادى فى التأجيل أو المبالغة فى الإنتظار فقد ملك الإنسان ناصية الطبيعة وسيطر على مواردها حتى أصبح مشاركا ايجابيا فى صنع قدره فلم يعد من حقه ولامن شرفه أن يؤجل أو ينتظر أى مهدى حقيقة أو مجازا ذلك أنه قد أن الأوان ليكون الأن وهو أروع الممكن وهو هو صانع المستحيل كما أصبح الشخص العادى بال بطولة ولا تقديس وهو أصل التفجير وثروة الحضارة.
أما إذا أردنا التحديد على مستوى مصرنا الغلية وربما يرى ذلك قريبا على أخوة لنا فى الوطن العربى ان شاءالله – فإننا نستتطيع الجزم بأن الأمر لايحتمل أى تأجيل أو انتظار بأى حال من الأحوال لان عدونا الصديق الجديد يحلم بقيادتنا ويتلمظ لتوجيهنا الى حيث يريد، ولذلك أصبحت الأحلام بأنواعها مصيبة ومهلكا لايحتمل، وأصبحت دقيقة الآن أهم وأخطر من عام الغد. وعلينا أن ندرك بوعى كامل أن من يفرط فى دقائقه حالا تحت أى وهم من الأوهام سوف يظل ينتظر سنوات العدل فى غابات جوايانا وسراديب الحرم الى ما لانهاية ولن يأتى المهدى المنتظر. فلنواجه واقعنا الآن لتتفجر امكانياتنا حالا ويصبح كل منا هاديا مهديا بلا إنتظار.