نشرة “الإنسان والتطور”
30-11-2010
السنة الرابعة
العدد: 1187
الفصل الأول
الصحة النفسية (8)
تصحيح الفرض الأساسى وتحديد المعالم
تمهيد
انتهت الحلقة السادسة من هذا الفصل الذى يتناول أبعاد الصحة النفسية وماهية المرض بما يلى:
- إن استعمال لفظ “الجنون” لوصف حالة دورية سوية (فى نهاية النهاية) هو خطأ منطقى يستحسن تجنبه.
- إن البحث عن اسم آخر أو وصف آخر أو صياغة أخرى، قد يساعد على بداية النظر، فاحتمال تقبل فكرة الفرض.
ثم أدى ذلك، إلى احتمال العدول عن استعمال هذه المصطلحات منعا للبس، حتى قدمت فى الحلقة التالية (السابعة) تعديلات بديلة على الوجه التالى :
- حالة العادية الدفاعية (لتحل محل “حالة العادية “).
- حالة التفكيك التنشيطى المغامر (لتحل محل “حالة الجنون”)
- حالة إعادة التشكيل الإبداعى (لتحل محل “حالة الإبداع”)
وحين بدأت فى كتابة هذه الحلقة الثامنة، وجدت مقاومة شديدة، لأننى اكتشفت أننى باستعمال هذه المصطلحات المقترحة، ابتعدت عن الفرض الأصلى، وتعجبت ورحت أتساءل: هل يمكن أن يكون لأى لفظ فى ذاته، مع احتمال الالتباس والخلط، هذه القوة القادرة على توصيل معنى يكاد يتعارض مع المنطق السليم، والمضمون العلمى أو المعجمى الشائع؟ لكنه يوصل المعنى المراد بكفاءة كافية؟ لكن يبدو أن هذا هو ما حدث فعلا، وقد تيقنت من احتمال صحة ذلك من بعض الرسائل التى وصلتنى من أشخاص أصغر سنا، ليسوا متخصصين أصلا، وقد سبق أن أكدت أننى أستلهم فروضى من واقع الناس، مرضى وأصحاء، أكثر مما استلهمها من الكتب أو من مختصين، وأننى أستعمل مصطلحاتى حسب ما تنبض به، ومع تزايد مقاومتى رحت اراجع التراجع، ولكن قبل أن أعرض ما تطور إليه الأمر دعونا نقرأ معا تعقيبان من صديقتان للموقع تدلان على ما قلته حالا:
أ. شيماء احمد عطية(1)
أعذرنى يا دكتور انا مش شايفة ان يكون فيه تراجع او مراجعة لمصطلح “حالة الجنون” واستبداله بمصطلح “حالة التفكيك التنشيطى المغامر” تجنبا لاختلاطه عند البعض، أنا أرى أنه يمكن إبقاؤه ووضع المصطلح البديل بين قوسين، لانه اذا كان هناك خلط ما، فيمكن أن يتم توضيحه فقط لمن يختلط عليه، لكن بصراحة مصطلح “حالة الجنون” والفرق بينه وبين الجنون المرضى واضح لا التباس فيه.
…
وقد رددت عليها قائلا:
بصراحة أنا معك يا شيماء، فقد فزعت وأنا أواصل الكتابة تحت هذا الاسم الجديد الخائب، وشعرت أننى سوف أبتعد عن ما أريد تقديمه كما وصلك أنت وغيرك من غير المختصين خاصة
لا اعرف ماذا أفعل!
ربما يكون الحل هو أن أتمسك بمصطلح “حالة الجنون” وأكرر تبيان كيف أنه مختلف تماما ومنذ البداية عن متضمن كلمة “الجنون” (كما أن “حالة الذات” Ego state مختلفة عند “إريك بيرن” تماما عن معنى “الذات” Ego، ولعل هذا هو ما دفعنى أن يخطر ببالى أن أضيف عامودا رابعا لجداول المقارنة التى نشرت مع أطروحتى الباكرة (1986) التى طرحت فيها هذا الفرض، أعنى عامودا باسم “حالة الجنون“، غير عامود “الجنون“، بل إنه قد خطر ببالى أيضا أن أضيف عمودا خامسا عن “فرط العادية “.
وفى تعقيب آخر تقول: الصديقة/ أ. إيمان سمير(2)
إنني اتفق تماما مع الفكرة ……. وربما ….. يرفضها الكثيرون عندما يمرون بها و يفضلون القبول “بالعادى\” لأنها تشعرهم أنهم فى طريقهم للجنون . ولكن هذه الحالة (حالة الجنون)، كما ذكرت فى الفرض، هى ضمن الدورات الطبيعية لأى فرد، بالنسبة لى، هى أصل طبيعة انسان دون تأثير البيت أو المجتمع أو “الميديا”media هى \”حالة استنارة\”، حالة رفض العادى، محاولة، أو بالأصح فرصة لاكتشاف الذات ومعرفة الهدف من وجودى على الأرض. فعند الوصول لهذه الحالة و قبولها والقدرة على التعامل معها يبدأ الانسان فى ممارسة الحياة الطبيعية (الحياة الحقيقية).
فجاء فى ردى عليها ما يلى :
د. يحيى:
……ثالثا: فرحت بالتقاطك تعبير “ضمن الدورات الطبيعية” وتظل الصعوبة فى كيف نجعل الحياة الحقيقية طبيعية، كيف نعبر عن ما وصلك بطريقة ليس فيها لبس ولا تصفيق لحل سلبى يسمى الجنون؟
…………
وبعد
وجدت أن الحل الأمثل هو أن نميز بوضوح بين “الجنون” و “حالة الجنون” كما ورد فى ردى على الصديقتين، وترتب على ذلك أننى رحت أراجع أطروحتى الباكرة، وبالذات الجداول وشرحها ، وأضيف خانة لما هو “حالة الجنون” تختلف تماما عن خانة “الجنون” فتصبح المقارنة بين أربع حالات للوجود، ووجدت أن هذا تمييز مهم ، وقد يحل الإشكال، لكن قفز لى أيضا – كما ذكرت فى ردى – أن أميز بين حالة العادية وبين “فرط العادية”، ولكن هذه المرة بأن أحتفظ لتعبير “حالة العادية” بأحقيته فى الإشارة إلى “السواء الإحصائى“، (السوى: هو الذى مثله مثل أغلب الناس!!) وبالتالى نُحسن سمعته على أرض الواقع، وأن أستعمل مصطلح “فرط العادية” Hyper normality ، بما يعنيه من اضطراب دخل حديثا بين الاضطرابات، وهو يعنى حالة الإفراط فى استعمال الميكانزمات التى تحول دون انطلاق وتفعيل النمو، والتى أراها من منظورى أنها دورات الإيقاع، فتجمد الشخصية تجميدا ليس فى نمط بذاته إلا “فرط العادية”.
وبالتالى تصبح التفرقة المطلوبة هى بين خمس مصطلحات، ثلاثة منها تمثل الإيقاع الحيوى الصحى (الصحة النفسية)، وأحدها على أقصى طرف يمثل واقع الاغتراب البالغ لدرجة اضطراب فرط العادية، والآخر على أقصى الطرف الآخر يمثل الجنون بسلبيته، وخموده وتفسخه وعجزه.
….
هذه النشرة هى شرح مبدئى لهذه المحاولة ، ونبدأ بالتعديلات التى طرأت على الفرض لعل الأمور تتضح
الفرض بعد التعديل:
الصحة النفسية هى ناتج انتظام الإيقاع الحيوى بالتبادل الإيقاعى بين حالات الوجود الثلاثة : “حالة العادية”، و”حالة الجنون”، و”حالة الإبداع”، (بالتعريف المتضمن فى الفرض الأصلى) دون التوقف عند أى منها على حساب كفّ الإيقاع الحيوى أو إنكاره أو إبطال مفعوله، ودون الانحراف بأى منها (من هذه الحالات بما فى ذلك حالة الإبداع المستمر) لتحل محل الأخريتين.
وهكذا يضاف إلى الفرض الأصلى أن نستبعد من حظيرة الصحة النفسية الاضطراب الذى سمّى مؤخرا “فرط العادية” Hypernormality، وكذلك نستبعد المآل السلبى المسمى “الجنون” الذى يعلن فشل “حالة الجنون” أن تتبادل – مشاركة – مع حالة الإبداع، أو أن تتراجع مسلمة لحالة العادية ولو مؤقتا، فتتمادى إلى التفسخ أو التناثر أو الانفجار أو الشطح فيما يسمى “الجنون” وليس حالة الجنون
(ملحوظة هامة : كل ذلك باستثناء حالات المرض العضوى الناتج عن تلف أو إصابة أو ضمور خلايا المخ مباشرة وهو ما نفينا أننا سنتناوله فى هذا الكتاب)
وفيما يلى تحديد جديد للمصطلحات التى استقر الرأى عليها، والتى سنعيد مقارنتها مجدولة تصحيحا للوضع السابق، قبل أن ننتقل إلى الفصل الثانى:
فرط العادية | حالة العادية | حالة الجنون | حالة الإبداع | الجنون |
- حالة العادية : هى إحدى مراحل دورة الإيقاع الحيوى العادى، وهى أطول عمرا وأكثر تواترا، وأقرب إلى الواقع الممارس، وأقدر على الإنجاز الراتب، وهى تتصف أيضا بالمرونة والمسامية، ومستعدة للتناوب مع حالتى الإيقاع الأخرى حسب القوانين الفسيولوجية، والنفسية، والظروف الملائمة لتنشيط الحالة التالية المناسبة، وهكذا.
- حالة الجنون : هى إحدى مراحل دورة الإيقاع الحيوى العادى كذلك، وهى تتصف بكل من : التحريك والتفكيك والتنشيط والوعود، لكنها لا تخلو من مخاطرة، كما أنها لا تقدم ضمانات مسبقة، وعادة ما تكون الأقصر زمنا، والأخفى ظهورا، لكن نتائجها الإيجابية تدل عليها
- حالة الإبداع : وهى إحدى مراحل دورة الإيقاع الحيوى أيضا وتشمل حالة التحريك والتفكيك لإعادة التشكيل وتحمل التناقض والتوليف القادر على تخليق مستويات أخرى من الوعى: الذى يتجلى فى اضطراد النمو، ومن أبسط علاماته: إبداع الذات أثناء دورات: النوم/ الحلم/ البعث الصحى الوقائى، أو أى ناتج إبداعى مسجل بأدواته المناسبة.
- فرط العادية : Hyper-normality هو اضطراب وصف مؤخرا، وهو يشير إلى تضخم الآليات الدفاعية حتى إغلاق مسام إدراك الخارج والداخل، وتجميد المرونة، وإحكام الإقفال، وثبات الوجود، وإخفاء آثار الإيقاع الحيوى، حتى الفسيولوجى (النوم/الحلم/الصحو)، ثم التمادى فى التكمية، والاغتراب، والتعصب، والثبات. وهذه الحالة يمكن أن تمتد لتشمل أغلب أنواع ما يسمى باضطراب الشخصية، وأيضا العصابات المختلفة، وخاصة العصاب المزمن.
- الجنون : هو المرض النفسى الجسيم، الهزيمةـ الكسرةـ النكوص، الاندمال، الشطح الخطر، و/أو التفسخ المتمادى.
وبعد
نأمل أن يكون فى إضافة مصطلحىْ فرط العادية، والجنون، واستبعادهما من حظيرة الصحة، أن تتاح الفرصة للتفرقة بين مفهوم الصحة كحركة متسقة مع برامج النمو، وآليات التطور
كما نامل أننا بذلك نستعيد التمسك بحق الشخص العادى بالمعنى الإحصائى الساكن، أن يوصف بالصحة كما هو عادى دون إبداع ظاهر (بمعنى الناتج الإبداعى)، ودون مخاطرة الدخول فى خبرة الجنون (بالمعنى السلبى للجنون) بمعنى أن يتمتع بالحق فى أن يعتبر متمتعا بصحة نفسية مرنة إيقاعية متطورة ما استمرت مسيرته دون الإفراط فى التحوصل والجمود فيما سمى أخيراً “فرط العادية”،
وبرغم أن هذا المفهوم (فرط العادية) يعتبر حديثا نسبيا، إلا أنه يمكن أن يشمل كلا من العصاب (خاصة المزمن) وكثيرا من اضطرابات الشخصية، لأن التغير المرضى الذى يحدث فى هاتين المجموعتين هو إفراط فى استعمال الميكانزمات الدفاعية حتى الإعاقة النسبية أو العجز عن التكيف أو الرضا، دون تغير جسيم سلبى فى نوعية الوجود، أو انقلاب وتشويه فى معالم وسمات الشخصية ككل أو فى قوانين ومحاور العلاقة بالواقع، (أى دون حدة ذهانية) وهذا يتفق مع المفهوم الأقدم الذى كان يضم كلا من العصاب مع اضطرابات الشخصية (ماير جروس 1954)(3) فى فصل واحد(4)
أما فصل مفهوم “الجنون” عن حالة الجنون بشكل فارقى فى عامود مستقل فى الجدول فهو يخدم التحفظ الذى تناولناه طوال النشرات الثلاثة السابقة .
فى نفس الوقت علينا أن ننتبه أن الجنون بكل هذه السلبيات التى أشرنا إليها قد يبدأ بدايته فعلا بحالة تشبه الحالة التى أسميناها هنا “حالة الجنون” دون الجنون، وهى التى أسميتها فى موقع آخر، “اضطرابات مفترقية”(دراسة فى علم السيكوباثولوجى)الصفحة (42-43) أو اضطرابات مفترق الطرق، Cross- roads Disorders وأهمية ذلك تكمن فى ضرورة الوعى بالتشخيص المبكر لمثل هذه الحالات مثل الفصام المبتدئ incipient schizophrenia أو إرهاصات الاكتئاب الدورى، لأنه فى هذه الحالات يمكن أن يساعد العلاج النمائى والمكثف فى تحويل “حالة الجنون” إلى الانتظام فى دورتها الإيقاعية دون التمادى إلى مرحلة الجنون السلبى.
وبنفس القياس وتطبيقا لنفس الفرض، فإن العلاج المكثف، والعلاج الجمعى، وعلاج الوسط، جنبا إلى جنب مع التنغيم فى العلاج بالعقاقير وبمنظمات الإيقاع، يمكن أن يعكس “الجنون” المستتب كما وصفناه هنا، إلى “حالة الجنون” ، ومنها – بمزيد من المواكبة وإعادة التنظيم- إلى العودة إلى الانتظام فى الإيقاع الصحى بين الحالات الثلاثة
تطبيقات محتملة
من هنا يمكن أن نسنتج أن هذا الفرض، حتى قبل أن تثبت صحته بشكل جازم، يمكن أن يساعد فى المجالات التالية:
أولا: ترشيد الوقاية ، فى مجال التربية بالسماح والمواكبة والمسامية وتدعيم أية درجة من الإبداع النمائى فى الفعل اليوماوى العادى، وبالتالى تتم الوقاية من الجنون ويضطرد النمو.
ثانيا: الانتباه – تربويا أيضا- إلى عدم المبالغة فى تقديس العادى(5) حتى لا نواجه بالاغتراب وفرط العادية فى صورتى العصاب واضطرابات الشخصية كما ذكرنا
ثالثا: التركيز على الوعى بالحالات المفترقية فى بداية الاضطرابات المرضية أملا فى أن ننجح فى تحوير المسار السلبى المحتمل إلى مسار إيجابى إيقاعى حالا أو مستقبلا
رابعا: احتمال تحريك المآل السلبى (الجنون) إلى “حالة الجنون النشطة” وأيضا احتمال الإحاطة بالظهور الخطر الانفجارى للجنون والتدرج به إلى “حالة الجنون” دون الجنون، بمساعدة العقاقير مرة أخرى: أملا فى استعادة حالة الجنون بديلا عن الجنون، فى الحالتين، ومن ثم العودة إلى تحقيق الصحة النفسية بانتظام الإيقاع وليس بمجرد التسكين الذى يهدد بالتمادى إلى فرط العادية ، أو التراكم حتى التفجرات لاحقا ثم الانزلاق إلى مسار الجنون.
وبعد
نأمل أن نبدأ غدا فى المقارنة الممتدة بين الحالات الخمس وهى عملية ليست سهلة ، ولا أعرف ملاءمة موقعها الآن فى هذا النشر المتتابع، خاصة وأن نشرة الغد سوف تبدأ فى تناول المقارنة بين المصطلحات الخمس فيما يتعلق بحالة “الوعى” فى كلٍّ منها، وهو بعد شائع الاستعمال شديد الغموض فى آن.
فى انتظار تصحيحكم وتوجيهاتكم.
[1] – أثبت اسم الصديقة صاحبة التعقيب على عكس ما تحفظت عليه فى النشرة السابقة، وذلك اعترافا بفضلها، وللانتباه لسنها (24)، وعدم تخصصها، وسوف أتبع مثل ذلك فى هذه النشرة تحديدا.
[2] – أ. إيمان سمير، (السن: 32 سنة – غير مختصة).
[3] – هذا هو أول كتاب مرجع قرأته فى الطب النفسى سنة 1958 طبعة سنة 1954 وله ذكريات قد أعود إليها، ولم أـجد فى مكتبتى حاليا لأثبته كمرجع محدد السنة ومكان النشر، وآمل أن أجده قبل النفشر الورقى
[4] – إن هذا يذكرنا أن التخلص من مفهوم العصاب بعد تفتيت الفئات المرضية التى كانت تقع تحت مظلته هو من مضاعفات التفتيت الذى لحق بتصنيفات الأمراض النفسية مؤخرا تحت زعم التمييز الأدق.
[5] – المثال المجسد لذلك حضر فى رواية حضرة المحترم عند نجيب محفوظ.