نشرة “الإنسان والتطور”
26-10-2010
السنة الرابعة
العدد: 1152
الفصل الأول:
الصحة النفسية (1)
بين سجن الأيديولوجيا وحركية الإبداع
عن المنهج والمسار
1) لست ملزما بما جاء فى المحتوى من قبل، إذ يمكن أن يعدل أو يستبدل أو يزيد أو ينقص.
2) حتى عنوان الفصل ، فهو يمكن أن يتغير، كما يمكن أن ينتقل الفصل كله إلى مكان أنسب.
3) سوف أنشر ما يتصادف لى أن أجده، أو وأضيفه بأى من اللغتين: العربية أو الإنجليزية، مع حرصى، كلما سمح الوقت، بأن أسارع بترجمة إحداهما للأخرى (دون التزام أو منتظم).
4) أرحب بأية مساعدة ، أولا بأول، للقيام بهذه الترجمة، (وإلا فقد يكفى النص العربى).
5) طبعا: أرحب – ما أمكن ذلك – بأى رأى أو نقد أو اقتراح، وسوف أضمنه فى السياق ما أمكن ذلك.
6) سوف أحرص ألا أزحم المتن باستشهادات من التراث العلمى، أو توثيق، وقد ألحق ما أجده مناسبا فى الملحق، أيضا بإحدى اللغتين أو بكلتيهما، دون التزام بترجمة مواكبة طول الوقت (كما ذكرت).
7) آمل قبل أن تصدر الطبعة الورقية، أن يكون قد تم تحرير الكتاب كله “ثنائى اللغة”.
8) الاستشهاد بأقوال وحالات المرضى وارد طول الوقت، وإن كان ذلك سوف يكون أكثر فائدة وتناسقا فى الكتاب الثانى الذى تأجل (السيكوباثولوجى الوصفية).
9) قد يصل الملحق (أو الملاحق إلى ما يربو عن حجم المتن)، ولن يدفعنى ذلك (غالبا) أن أتراجع عن كونه مجرد ملحق.
10) من الطبيعى أن يحدث بعض التكرار مما جاء خلال السنوات الثلاثة فى يومية “الإنسان والتطور”.
(ملحوظة: عدلت عن كتابة الكتابين معا، وسوف أكتفى بهذا الكتاب ينشر يومىْ الثلاثاء فالأربعاء، وحين ينتهى قد يلحقه الثانى إن كان فى العمر بقية!!!)
الفصل الأول
الصحة النفسية بين سجن الأيديولوجيا، وحركية الإبداع
“سقراط: لقد كنت أدرك أيها الصديق أنك لن تقنع برأى الآخرين فى هذه المسألة.
جلوكون: ذلك لأنه لا يليق بمن قضى حياته مثلك وهو يفكر فى هذه المسائل، أن يكتفى بعرض آراء الآخرين دون أن يعرض آراءه هو.
سقراط: ولكن أتظن أنه يليق بالمرء أن يتحدث عما لا يعلمه وكأنه يعلمه؟
جلوكون: كلا، لا يصح أن يتحدث وكأنه يعلمه، ولكنه يستطيع أن يقول ما يعرفه على سبيل عرض رأيه الخاص”
أفلاطون- محاورة الجمهورية
الكتاب السادس
الطبيب أداة العلاج الأولى، فكيف هو؟
الفكرة الأساسية التى اكتشفتها باكرا جدا هو أن الطبيب النفسى الحقيقى إنما يعالج المريض (وخاصة الذهانى: المجنون) بما “هو” كله، وليس فقط بما يعرف، أو بما يحفظ، أو بما يبحث فيه بأدوات العلم المتاحة، فما بالك إن كان تصوره انه إنما يعالجه بما يقرأ ويسمّع ويُفرض عليه من قوانين وتنظيمات غير نابعة من ثقافته، ولا من ممارسة إمبريقية موضوعية مستمرة، المفروض أنه لا يوجد تناقض بين هذا وذاك، لكن الأمر عند التطبيق شديد الصعوبة.
الحوار الدائر بين مستويات وعى المعالج ومستويات وعى الطبيب أعمق وأوثق من تصور كل النظريات المتاحة، من خلال الممارسة النشطة عبر عشرات السنين تأكدت من حجم مشاركتى الشخصية فى العملية العلاجية، ومسئوليتى المتجددة تجاه الأداة التى أستعملها – أنا – بالإضافة إلى علمى ومعلوماتى وأبحاثى وما إلى ذلك، نقلت يقينى هذا إلى زملائى الاصغر وتلاميذى، وأنا أشعر أننى مسئول عن شحذهم وتدريبهم، لعلهم ينصقلون كأدوات سوف أسأل عنها، كما أسأل عن نفسى، ولو ألقيت معاذيرى، وهى فى هذا الصدد أبحاث موثقة منشورة، وكتب مطبوعة مغلفة مشهورة، لكنها تظل معاذير غالبا.
التطبيب النفسى (وهو اسم ينبغى أن يكون أكثر شيوعا من العلاج النفسى، حتى لو لم يقم به طبيب) هو فن وحرفة يقوم بها فنان مبدع، يستعمل كل ما عنده من أدوات ومعارف، مما يعرف ومما لا يعرف، ليتقن بها عمله، ويساعد من يطلب حذقه ومهارته وعلمه، وعلى رأس كل هذا يستعمل نفسه كأداة لخدمة مرضاه، فى طريقهم نحو الشفاء.
هل ثَمَّ مبرر لتعريف الصحة النفسية
أحيانا يبدو لى التوقف عند تعريف الصحة النفسية تزيّد لا معنى له، قبل أن يوجد شىء اسمه الصحة النفسية، كان الناس – أغلب الناس- يعيشون حياة طيبة، منتجة، قاسية، كريمة، صعبة، وكانوا فى امتحان دائم مع ظروف لا تسمح لهم بذلك، وظلم يحول بينهم وبين ذلك، وحرمان يقلل فرصهم فى ذلك، ومع ذلك يعيشون بكفاءة مناسبة، صحيح أن منهم من يتعثر، ومنهم من يتوقف، ومنهم من ينحرف، ومنهم من يتراجع، ولكن أغلبهم يكمل حياته هو يمارس دوره جيدا، دون حاجة لأن يعلق على جبهته لافتة تثبت أنه يتمع بما يسمى “صحة نفسية”، للأسف تطور الامر حتى أصبحت أغلب مناحى الحياة، والناس، يمكن أن توصف بما هو صحيح نفسيا، وما هو غير ذلك، وأصبح مصطلح الصحة النفسية يترادف مع مصطلحات أخرى ليست أفضل كثيرا منه مثل “السعادة”، و”الرفاهية”، و”الطمأنينة”، والفرح، والعيش فى التبات والنبات، وإنجاب صبيان وبنات!!!
فرويد كان حكيما تماما حين صرح قبيل وفاته أن الصحة النفسية هى “أن تعمل، وأن تحب”، وخلاص!! واعتقد أن هذا هو خلاصة الأمر، على شرط أن ننتبه أن يكون العمل عملا بحق، أى أن يكون غير مغترب كثيرا (يمكن أن يكون مغتربا قليلا)، وان يكون الحب ناضجا نسبيا (مع أنه يمكن أن يكون غير ناضج نسبيا).
فرويد بكل موسوعيته، وتاريخيته، وخبرته، ونظرياته، وإبداعه، استطاع، قرب نهاية حياته، أن يلخص ما هو صحة نفسية بهذه البساطة، والعمق، والمسئولية والعملية، والموضوعية، أنا لم أتبين أنه كان علىّ أن أبدأ منه، لكننى انتهيت تقريبا إلى نفس الموقف، وهو ما وصلت إليه من مسالك أخرى، فى ثقافة أخرى، بعد رحلة أخرى.
قبل ان ننتقل إلى التفصيل اللازم لمن يلزمه، يمكن أن نصيغ الخطوط البسيطة العامة لما هوّ صحة نفسية كما انتهيت إليها على الوجه التالى:
(1) إن من يذهب إلى عمله، ويعمل، (هذا إذا وجد عملا، وإلا فيكفى أن يبحث جادا عن عمل).
(2) ويتواصل مع من حوله ويستمر، (مما يسمى الحب أحيانا)، وهو يحتمل أن يختلف ويتفق مع من يحب لكنه يستمر،
(3) ثم هو ينام ليلا، فيتوازن نهارا،
إن مثل هذا الشخص هو يتمتع بصحة نفسية مناسبة،
وذلك: بغض النظر عن وجود ما يسمى أعراض نفسية أو أمراض نفسية.
هذه هى نقطة انطلاقى فى هذا الفصل، قبل وبعد كل التفاصيل (المهمة غالبا).
إذن: فمهمة الطبيب النفسى، (والمعالج النفسى، ولن أكرر بعد ذلك أن المعالج هو طبيب) هو أن يساعد مريضه على:
(1) أن يعاود العمل، أو يبادر به ، أيا كان العمل (المذاكرة للطالب هى العمل ، أليس كذلك؟).
(2) وأن “يأخذ ويعطى” وهو يعيش بيننا، بينهم : بما حوله ومن معه.
(3) وأن ينام طبيعيا بما يكفى “لإعادة تنظيم إيقاعه” مع نفسه ، ومع “ما” و”من حوله”.
وكل ما عدا ذلك ، يأتى بعد ذلك، أو لا يأتى إطلاقا.
فماذا يحدث فى الطب النفسى – الآن– غير ذلك؟
كل (أو أغلب) ما يحدث هو غير ذلك:
(1) فالطبيب النفسى الآن يتعلم التركيز على أعراض المريض واسم مرضه، أكثر من التركيز على فاعليته ودوره
(2) وهو يتصور أن مهمته أن يعدل مواد كيميائية معينة يعتقد أنها اختلت عند مريضه، وأنها سبب مرضه، فيضيف ما نقص من مواد، أو ينقص ما زاد، أو يعادله، أكثر من أنه يستعمل ذلك ليتواصل مع مريضه، ويتواصل مريضه مع من حوله (ومع نفسه)، وهو يقوم بعمله.
ما الذى أوصل الطبيب إلى مثل ذلك، ولماذا؟
الطبيب هو فرد فى مجتمع، وهو ممثل لثقافته بشكل أو بآخر، سواء كانت ثقافته المحلية، أو ثقافة عصره، وللأسف فهو معرَّض – مثل غيره وأكثر– أن ينتمى إلى سلبيات ثقافة عصره (العولمة كمثال) على حساب ثقافة ناسه الأقربين. وإذا كان الإنسان المعاصر قد انحرف به المسار – بفعل فاعل غالبا– بعيدا عن أبسط قواعد المنطق السليم، والناتج العملى البسيط اللازم لاستمرار الحياة والحفاظ على البقاء ودفع التطور، فالواجب أن نعيد النظر بدءا من جذور المسألة
من هنا تصورت أن الأنسب أن نبدأ هذا الفصل بالنظر فيما آل إليه حال الطبيب قبل أن ننظر فيما آل إليه حال المريض، وكلاهما ضرورى، لا يغنى أحدهما عن الآخر.
الأيديولوجيا الشخصية والطبيب النفسى المعاصر :
لفظان شاع استعمالهما فى مجال الطب النفسى وغير الطب النفسى، مع أنهما لم يحظيا بقدر كاف من الوضوح والتحديد، سواء عند الشخص العادى، أو عند المتخصص، ألا وهما “الأيديولوجيا” و”الفطرة”. سندع الآن لفظ الفطرة جانبا، وغالبا سوف نعود إليه تفصيلا فى فصل “الغرائز”، برغم أن علاقته وثيقة تماما بالقضية التى نحن رهن بحثها “الصحة النفسية”، وسوف نكتفى بأن نتناول “الأيديولوجيا” هنا.
ما دمنا قد أقررنا أن الطبيب هو أداة العلاج الأولى، فعلينا أن نفحص هذه الأداة جيدا، وأن نفك شفرتها ظاهرا وباطنا.
الأيديولوجيا الشخصية بالمعنى الذى سوف نقدمه هنا هى العمق الأخطر لما هو طبيب نفسى، فهى برنامج غائر من التشكيلات والمفاهيم، قد تمّت صياغة الطبيب به، بوعى أو بغير وعى، وتعتبر هذه الأيديولوجيا هى العامل الفاعل طول الوقت فى انتقاء الطبيب للنموذج العلاجى الذى يمارسه، بما يشمل معايير الصحة والمرض، والتخطيط نحو الشفاء، وهدف الممارسة، ونوعية الحياة وغير ذلك.
ما هى الأيديولوجيا ؟
يتصور الأطباء أن التنظير حول هذا الموضوع هو تزيُّد لا لزوم له، حيث يعتقد بعضهم أنه يعرف عن ماهية التكنولوجيا ما يكفى، فى حين يعتقد الباقون (أو أغلبهم) أنهم ليسوا فى حاجة لمعرفة ماهية التكنولوجيا أصلاً، وهم يتصورون أنها لفظ أقرب إلى السياسة أو الفلسفة، لهذا سوف أبدأ بتقديم بعض “ما اخترت” للتعرف على هذا اللفظ البراق، الغامض معا (دون إضافة أو تعديل تقريبا):
- الأيديولوجيا هى رؤية تصبغ فكر شخص ما أو مجموعة من الناس.
- الأيديولوجيا هى تصور تنظيرى معين.
- الأيديولوجيا هى مجموعة من المعتقدات والغايات ، (خاصة حين تستعمل فى مجال السياسة).
- الأيديولوجيا هى رؤية مشتملة لطريقة التعرف على الأشياء والعالم.
- الأيديولوجيا هى مجموعة أفكار تعكس آمال واحتياجات وتطلعات فرد أو مجموعة أو طبقة أو ثقافة معينة.
- الأيديولوجيا تشير إلى كيفية فهم العالم الذى نعيش فيه، وهذا الفهم يشمل التفاعل بين منظومتنا النفسية الفردية، والتركيبة الاجتماعية من حولنا.
- الأيديولوجيا تتضمن أن ترجح وجهة نظر بذاتها على كل ماعداها، وأن تتمسك بوجهة النظر هذه (عادة حتى التعصب).
- الأيديولوجيا هى جـُمّاع منظومة من المفاهيم حول الحياة والثقافة.
- الأيديولوجيا هى كيفية ترتيب محتوى الفكر ظاهرا أو باطنا أو كليهما.
- الأيديولوجيا هى تأكيد متماسك لثوابت ونظريات وأهداف تمثل برنامجا ثقافيا اجتماعيا بذاته.
الأسئلة البديهية تأتى بعد ذلك لتقول:
1)هل يوجد شخص على وجه الأرض يعيش دون “أيديولوجيا” (بأى من المعانى السالفة الذكر؟)
2) هل يمكن لطبيب أن يمارس مهنته، فضلا عن أن يعيش حياته، دون أيديولوجيا؟
3)هل يوجد مريض يحضر للعلاج دون أن تمثل أيديولوجيته – الظاهرة والخفية – محورا هاما لا بد أن يوضع فى الاعتبار؟
4) كيف يمكن أن يتحكم الطبيب، وكذلك المريض، فى حوارهما على أكثر مستوى من مستويات الوعى، فى ضبط جرعة تأثير أيديولوجية كل منهما على الآخر؟
5) ماذا عن من يدعى – تحت زعم الموضوعية أو التعادلية – أنه ليس عنده أيديولوجيا معينة؟
6) أليس من المحتمل أن يكون الموقف “اللاإيديولوجى” هو أيديولوجيا خفية، أو أيديولوجيا عدمية، تؤثر بطرق خفية أخطر، لأنها أبعد عن التحكم والانضباط؟
7) وماذا عن تصارع الأيديولوجيات وعلاقة ذلك بالحوار العلاجى على مختلف المستويات، وخاصة بين من يملك القوة والسيطرة فى مقابل من يملك الحق ويضطر للتبعية، تعرض هنا كأمثلة ما يلى:
- بين الطبيب فى مقابل المريض،
- بين قوة شركات المال الدوائية فى مقابل حاجة العلماء المشتغلون عندهم لما يحتاجون إليه،
- بين سلطة وفرص النشر شبه العلمى، وتسويق المنشور فى مقابل الخبرة غير المكتوبة ..بطيئة الانتشار.
….إلخ
8) ثم ماذا عن تغطية مواقف خطيرة بشعارات أيديولوجيا زائفة مثلا:
- أيديولوجيا العلم المنشور تغطى تسويق نتائج الأبحاث.
- أيديولوجيا حقوق الإنسان المكتوبة تحرم الإنسان من حقوق الإنسان الأعمق.
- أيديولوجيا زعم الديمقراطية تغطى عمق حركية الحرية.
9) وهل الطبيب، وهل المريض، من خلال خبرة المرض فالعلاج، هل كل منهما معرض لتغيير أيديولوجيته، بوعى واختيار، أو بدون وعى لكن نتيجة لصدق الممارسة، أوغير ذلك
10) وما هى علاقة كل ذلك بالدين (والإيمان) ؟
نتوقف هنا قليلا ، ونعتذر عن الإجابة المباشرة، ولعلها تحضرنا فى سياق هذا العمل، أو فى أعمال لاحقة،
أبعاد خاصة فى علاقة الأيديولوجيا بمفاهيم هامة:
الدين والأيديولوجيا والطب النفسى
يعتبر الدين المؤسسى، وعادة الدين عامة، من أهم ما ينطبق عليه كل ما جاء فى محاولة التعرف على (وليس بالضرورة تعريف) ما هو “أيديولوجيا”. الإلحاد الذى يبدو أنه تخلص من وصاية الدين، وهو أيديولوجيا مضادة بشكل حاسم عادة ، وقد حاولت ثقافات أخرى (الثقافة الغربية خاصة) أن تحل هذا الإشكال بالإنكار (انظر بعد).
الأيديولوجيا والسياسة:
تمنع الممارسة الطبية فى الدول الغربية أيضا ذكر المذهب السياسى للمريض أو سؤال المريض عنه ، بدرجة ليست أقل من سؤاله عن دينه، والمبررات – على ما أعتقد – واحدة، وبالتالى يمكن أن نتصور مشروعية وتجهيز ما أسميه ممارسة هروبية ناقصة بشكل أو بآخر مما سوف نعود إليه أيضا حين نناقش المتغيرات الثقافية والتطبيقات الثقافية.
العلم والأيديولوجيا:
أغلب ما يسمى النشاط السائد حاليا تحت اسم “العلم” يتجه نحو مزيد من اللاموضوعية، باسم الموضوعية، وخاصة فيما يتعلق بتصور المؤسسة العلمية الرسمية إحكام إغلاق المنهج، واحتكار طرق البحث، وهو نشاط يمكن أن يندرج بسهولة تحت مفهوم الأيديولوجيا كما قدمناه الآن، وبالتالى يصبح أبعد ما يكون عن الموضوعية التى يزعمون أنه من دعائمها الأساسية، الأرجح عندى أن الأيديولوجيا المالية (وليست بالضرورة المرادفة للرأسمالية) تمارسُ برمجة العلماء، ثم الأطباء لصالح المال فى المقام الأول، وهى تسهم فى إحكام السيطرة ووأد الإبداع الذى يهددها أولا بأول، فيصبح العلم بذلك ليس مرادفا للمعرفة ولا هو أحد تجلياتها، بل يصبح أيديولوجيا تبلغ أحيانا قوة أكبر من قوة الدين كأيديولوجيا، فى حين تخدم أغراضا أكثر اغترابا، وأخطر انقراضا.
لا ينبغى أن تشجب هذه الحقائق فضل العلم والأبحاث العلمية، لكن لعلها تساعد على أن توضع نتائج العلم، وباستمرار، من جانب اصغر ممارس إلى أكبر عالم موضع الاختبار العملى، الذى يتجاوز الجداول المعاملة إحصائيا، والمعلومات المنشورة،
إن الممارسة العلمية التى تضيف عقارا جيدا بين الحين والحين، تحتاج أن تتخلص من الاختناق وراء أسوار الأيديولوجية العلمية، وأن تسمح بتقييم نتائجها لكل الممارسين، حتى يمكن انتقاء الأصلح من الحقائق النافعة والباقية من كوم الإضافات المحكومة بهذه الأيديولوجيا المالية العمياء .
هذه المهمة أولى بالقيام بها الفقراء أمثالنا الذين لا يمتلكون أدوات ولا إمكانات الأبحاث الباهظة التكلفة، فى حين أنهم قد يتمتعون بفرص أكثر رحابة فى التفكير والإبداع، ويمارسون علاقات أكثر حميمية مع مرضاهم.
اللغة والأيديولوجيا:
أية لغة تحدد نوع التواصل، كما تؤثر بدرجة ما على الوجدان والمعتقدات التى تمثلها أية أيديولوجيا، حين استعملت لفظ الوجدان لأصف به بعدا من الأبعاد التشخيصية لم أجد لفظا بالإنجليزية يقابل استعمالى الخاص للفظ الوجدان (أنظر بعد) لذلك استعملته بحروف لاتينية مع شرح المعنى الذى أريده، WIJDAN ،
كذلك أنا أمارس تحريك ما هو “حزن” فى الممارسة الإكلينيكية، حتى فى المقابلة الأولى مع المريض، وأميزه للمريض على أنه ليس “الزهق”، ولا “الهم”، ولا “الغم”، ولا “النكد”، وأنه أيضا ليس حزنا “على”، ولا حزنا “لأن”، (عشان) ويستجيب أغلب مرضانا لما أريد توصيله لهم عن “حقهم فى الحزن” كما خلقه الله، كما خلقنا الله ، لكننى حين حاولت أن أترجم هذا اللفظ (الحزن)، بمضمونه الخاص جدا فى لغتنا العامية ، والعربية، لم أعثر حتى الآن على كلمة بالانجليزية تنبض بما ينبض به لفظ “حزن” بالعربية.
إن اللغة بقدر ما هى أداة للتواصل هى أيضا سور أيديولوجى محكم، يمكن أن تتشكل المشاعر داخله باختناق معطل لحركية النمو، كما أنها هى هى التى قد تتيح تحريكا مرنا لبسط مستويات الوعى لاحتواء الوجدان فعلا (أنظر إشكالة مخاطر الترجمة)
المال والأيديولوجيا :
إن ما ذكرناه فى فقرة العلم والأيديولوجيا ، ينطبق بشكل مباشر على هذه الفقرة فى حدود ما يخص الطب النفسى بالذات، أما فى مجال الاقتصاد والسياسة والجارى فى العالم طولا وعرضا، وهو ما يقبع وراء الحروب المبيدة والاستباقية، والتطهير العرقى، والاستعمار الظاهر والخفى مرورا بالاستعمار الماحى الاستيطانى، كل ذلك له علاقة بهذه الأيديولوجيا التى تهدد الجنس البشرى بالانقراض، إن ما يسمى “سياسة السوق”، بقدر ما يدور حولها من نقد ومراجعة، تمثل كارثة بكل معنى الكلمة وهى كارثة لها تأثيرها على العلم والعلماء والبحث العلمى والنشر العلمى، ومن ثم العلاج، وعلى الهدف منه، ومحكات قياسه ، ومآل المرضى، بل هى مسئولة عن ما آل إليه الطب النفسى من سلبيات معاصرة، لقد أثرَّت هذه الايديولوجيا حتى على توجه تصنيفات معينة، ووضع مواثيق بذاتها للمارسة الطبية ، مما ترتب عليه، وسوف يترتب عليه أخطر الآثار على الإبداع فى مجال الطب النفسى كمثال، وفى الأغلب على الحياة المعاصرة عامة.
إن هذه الأيديولوجيا المرتبطة بالمال الأعمى والعلم الزائف هى ما يصبغ معظم ممارساتنا الإكلينيكية بشكل أو بآخر وبالتالى هى التى تتحكم فى مدى انتشار كثير من النظريات العلمية دون غيرها.
الأيديولوجيا والوعى:
من معظم التعريفات السابقة وما تلاها من إشارات يمكن أن نتبين أن الأيديولوجيا ليست بالضرورة ماثلة ظاهرة فى الوعى المتاح، بل إنها فى واقع الأمر غائرة فى الداخل تتحكم فينا مرضى وأصحاء، علماء وممولين، أطباء ومتعالجين، غائرة داخل داخلنا دون أن ندرى عادة، بل إن الأيديلوجيا المعلنة قد تكون أقل تأثيرا من تلك الأيديولوجيا الغائرة الخفية لأنها على الأقل، قابلة للحوار، وربما التغيير.
حتى تلك الأيديولوجيات الظاهرة التى يمكن أن تعلن على الملأ مثل الموقف الدينى أو الموقف السياسى، بل حتى الموقف العرقى والثقافى، حتى هذه الأيديولوجيات، يمكن أن تخفى وراءها عكس ما هى، أو غير ما هى .
إن التأثير الأقوى فى الممارسة الإكلينكية خاصة ، هو للأيديولوجيا الخفية عن صاحبها، بشكل أقوى من الأيديولوجيا المعلنة لصاحبها . ونعيد من جديد: إنه حتى الذين ينكرون أنهم لا ينتمون إلى أيديولوجيا معينة – وأنا منهم – هم ينتمون إلى أيديولوجيا قد تكون أقوى وارسخ من كل الأيديولوجيات الشعورية المعلنة، إن هذه الأيديولوجيات الخفية يمكن أن تقرر للطبيب النفسى من بداية ممارسته، أو أثناء تطور ممارسته تحت كل التأثيرات المعلنة والخفية السابق الإشارة إليها تقرر له أيا مما يلى :
1) المدرسة (النفسية) التى يفضلها وتقنعه
2) النموذج العلاجى الذى يمارسه
3) نوع التدريب الذى يكمله والذى لا يكمله
4) مفهوم “الصحة النفسية” الذى يقتنع به دون غيره
5) التقسيم (التصنيف) الفئوى الذى يتبعه
6) الهدف من منظومة العلاج ككل
7) المحكات التى يقيس بها تقدم مرضاه على مسار العلاج
ولا يخفى بعد ذلك أن نفس الأيديولوجيا هى التى تصبغ حياته الخاصة، وتوجه خطواته إلى مساره الذى اختاره، حتى على مستوى من الوعى غير محدد تماما.
اعتبارات ثقافية خاصة:
كما ذكرنا يعتبر الدين المؤسسى وعادة الدين عامة، من أهم ما ينطبق عليه كل ما جاء فى محاولة التعرف على (وليس بالضرورة تعريف) ما هو “أيديولوجيا”. ذكرنا كيف أن الإلحاد الذى يبدو أنه تخلص من وصاية الدين هو أيديولوجيا مضادة بشكل حاسم عادة ، وقد حاولت ثقافات أخرى (الثقافة الغربية خاصة) أن تتجنب مواجهة هذا الإشكال بالإنكار المبدئى، فشطبت كل ما يتعلق بالدين من المشاهدة الإكلينيكية ومن الأوراق الرسمية من قبيل أن الاحتياط الواجب!! أو “الطيب أحسن”.
على الجانب الآخر، شاعت ممارسة الطب النفسى ، والعلاج النفسى، تحت عنوان دين بذاته (الطب النفسى الإسلامى، الطب النفسى المسيحى، العلاج النفسى الإسلامى ..إلخ) وكأنها ليست ممارسة أيديولوجية متحيزة لكنها على الأقل معلنة مسئولة بشكل ما، وقد تجاوزت بعض هذه الممارسات شكلية الدين إلى تحريك الوعى . وهذا ما سوف نعود إليه – غالبا– فى فصل الغرائز
فى ثقافتنا، وفى ممارسة فى مؤسسة خاصة عنيدة، تعمدت أن أدرج – ضد كل توصيات الثقافة العربية – ما يسمى “التاريخ الدينى” فى بنود المشاهدة، أسوة بالتاريخ الجنسى، باعتبار أن التوجه الدينى (الإيمانى) هو برنامج بقائى (غريزى) مثله مثل الجنس والعدوان، بدءًا بالسؤال عن التجليات السلوكية فيما هو دين وعبادات، وقد نحيت جانبا اعتراض أصحاب الأيديولوجيات الخفية، ممن يفضلون الهرب مع سبق الاصرار، بأن ذلك ضد التعادلية فى التعامل مع المريض، وهم يتصورون أن التعامل الأهم هو ما يثبت فى الأوراق، أو ما يعلن بالكلام، (وسوف أعود إلى مناقشة ذلك أكثر تفصيلا فى فصل الغرائز والطب النفسى)
باختصار شديد، وفى حدود التعرف على ماهية الصحة النفسية، فإن الدين المنغلق المحكوم بحدود سلطوية محكمة، هو أقرب إلى الأيديولوجيا، فى حين أن حركية الإيمان سعيا وكدحا وإبداعا هى أقر إلى إيقاعية النمو.
وبعد
من كل ذلك تبينت لنا مخاطر الممارسة العمياء تحت اسم الموضوعية، أو حتى الإنجاز العلمى الأحدث، إن أى نموذج طبى أو طبنفسى أو تحليل أو نفسى، ليس إلا نوع من الأيديولوجيا وبالتالى ينبغى أن يعمل على أنه كذلك، وكل هذا يؤثر فى الممارسة الإكلينيكية بشكل مباشر أو غير مباشر، نحن لا نعالج مرضانا إلا بما هو نحن.
هذه المقدمة الطويلة نسبيا هى التمهيد الضرورى الذى ينبهنا إلى أننا حين نعدد مدارس علم النفس والطب النفسى لا نعددها لنقارن بينها فقط، وإنما لنتعرف على اختياراتنا لنماذج العلاج الذى نمارسه،
وهذا ما سنواصله غدًا.