نشرت فى جريدة الوطن
10/1/2001
الصحة النفسية والإنسان المعاصر
ماذا يمكن أن يقال عن الصحة النفسية فى ظروف العصر الجديدة؟
أنا لا أحب أن أكثر من الكتابة بصفة مهنتى الأصلية – الطب النفسي- خوفا من أن يحسب القارئ أن ما أكتبه وما يكتبه مثلى هو: “فصل الخطاب، فى السياسة والحب ومعرض الكتاب” !!! . هذا أمر فيه خداع كثير. إن الطب النفسى حرفة مثل كل الحرف، هو أحد فنون التطبيب الذى وصفه العرب من قديم بأنه “مداواة ومواساة”. صحيح أنه فى الطب النفسى تزيد جرعة المواساة أكثر من فروع الطب الأخرى، إلا أن هذا لا يعطيه الحق أن يجلس فى موقع الفتو ى فيصبغ وجودنا بما سمى أخيرا: ‘نفسنة الحياة المعاصرة” Psychiatrization of Modern Life إذ تكتسب كل سلبيات الحياة اسما نفسيا رشيقا، يـــنطق بحروف أجنبية، ويكون تبريرا لمزيد من السلبية والتبرير عادة.
هذا الخطر جعلنى أبتعد عن الكتابة المباشرة بصفتى المهنية حين أكتب فى الصحف السيارة للشخص العادى، و مع ذلك فلا بد مما ليس منه بد بين الحين والحين. ومن هذا: الرد على التساؤل عن ما هية ما يسمى “الصحة النفسية فى العصر الحديث”، وهل تغيرت المفاهيم مع تغير كل شئ؟ هذا التساؤل يرتبط بمسئوليتنا ونحن نخوض حربا حضارية طويلة المدى مع أعداء لا يكفون عن الغـطرسة والاستعلاء والتلويح لنا بأنهم يمثلون كل الصحة وغاية التطور. لقد أشبعونا ثرثرة حول مسائل التوتر، والقلـق، والسرعة، والضغوط. كلام كثير معاد، وصحيح بعضه (للأسف) لكنه أبدا لا يصل إلى مستوى المواجهة التى ينبغى أن نتحمل مسئوليتها أمام إيقاع العصر، وجهاد الاستمرار.
لم تعد المسألة مسألة توازن داخلى، وتكيف خارجى. وسلام ساكن، وراحة بال. لم تعد الصحة النفسية هى فن الاسترخاء والتدليك الفكرى، والتبرير التحليلى النفسى.
الأمر أصبح يحتاج إلى شكل آخر من الوعى، وشكل آخر من العلاقات، وشكل آخر من الانتاج. إن نجاح هذا الشكل الآخر هو الذى يمكن أن يرتقى بنا إلى ما يناسب الإنجازات اللاهثة و المتلاحقة. الصحة النفسية لا تتحق بخدعة طمأنينة سلبية تحت أى اسم علمى أو سياسى، وإنما تتحقق الصحة بدرجة التناسق الحركى المناسب فى علاقاتنا ببعضنا البعض، وفى علاقاتنا بالطبيعة وإيقاع الزمن على حد سواء.
الصحة ليست مجرد الخلو من الأعراض التى نكرر تسميتها وكأنها مبررات قعود، وليست علامات عجز، وإنما هى تتحق بالقدرة على استيعاب معنى المعاناة ومسئولية الرؤية.
إن منظمة الصحة العالمية تؤكد أن مجرد الخلو من الأعراض ليس كافيا لأن نصف إنسانا ما بأنه صحيح (نفسيا أو بدنيا). وهى تؤكد على المعنى الإيجابى للصحة عامة، وتقرر أن ما يسمى ‘نوعية الحياة’ هى التى يمكن أن تميز الصحيح من العليل.
فما هى نوعية الحياة التى يمكن أن يتصف بها الإنسان المعاصر ليكون صحيحا نفسيا؟
سوف أكتفى بذكر عينات لخطوط عريضة تنفى هذا الوهم القائل “دع القلق وابدأ الحياة“، ليحل محله الوعى المجاهد “استوعب القلق واقتحم الحياة”. ومن ذلك:
أولا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يتمكن من تحمل مسئولية المعلومات المعاصرة، من ناحية الانتقاء والاستعمال على حد سواء. (أشرنا إلى ذلك قبلا)
ثانيا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا بقدر ما يحافظ على مرونة الحركة بينه وبين الناس، بينه وبين الطبيعة، بينه وبين ربه سبحانه وتعالى. ومرونة الحركة تعنى الحوار والتصالح والقدرة على التغيير المتبادل فى آن.
ثالثا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر “إيجابية موقفه من الزمن”، بمعنى حرية التعامل مع الزمن ذهابا وجيئة، وعلى مستويات مختلفة، وهذا ما يقابل حركية طبقات الوعى معا فى اتساق الإيقاع الحيوى فى تبادل النوم واليقظة، وتبادل الاستيعاب والإبداع، وتبادل الكمون والانطلاق، وتبادل الحل والترحال، بحيث يصبح الحاضر المتحرك حاويا للماضى والمستقبل معا فى إيقاع دائم متجدد.
رابعا: يكون الانسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يصبح الوجه الآخر للعقل جزءا من وجوده، بمعنى أن الصحة ليست هى فرط التعقل وإحكام ضبط الداخل، وإنما هى القدرة على التكامل مع الوجه الآخر للوجود بالسماح بالتناوب المرن، والامتداد فى يقين واعد.
خامسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما ينجح فى مصاحبة الموت حالا واقعا رائعا. فالموت – بالمفهوم الأحدث، وبالمفهوم الإيمانى الحقيقي- ليس سلبا للحياة، لكنه واقع يعمق معنى الحياة “الآن”، حتى نلقاه بإذن الله.
سادسا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يرعى ما وصله من معارف كقاعدة إنطلاق إلى ما لا يعرف (الذين يؤمنون بالغيب).
سابعا: يكون الإنسان المعاصر صحيحا نفسيا بقدر ما يتمتع به من حرية واعية، وليس بقدر ما يتصايح حوله من ديمقراطية مظهرية.
هذه مجرد عينات قد تحتاج إلى عودة، وقد تكون مجرد دعوة للنظر والمراجعة والمواجهة معا.