“يوميا” الإنسان والتطور
10- 9 – 2007
(10) الشرق الأوسط : تلفيق خطر (2)
الشرق الفنان: زكى نجيب محمود
اسم الكتاب الذى قدمناه فى ندوتنا الثقافية يوم الجمعة الماضى – كما ذكرت أمس- هو “الشرق الفنان”، للراحل الأستاذ الدكتور زكى نجيب محمود، وهو – كما ذكرت أيضا- هدية مجانية مع جريدة القاهرة. الناشر: “دار المدى” للثقافة والنشر”. (لمن أراد الرجوع إليه).
كتبه الراحل العظيم وهو فى عز نضجه، ربما فى بداية الخمسينات (ولد سنة 1905 ونشر الكتاب سنة 1960 ولا أعرف متى كتبه تحديدا).
المعروف (أو لعله الشائع) عن الدكتور زكى نجيب محمود أنه كان من الرواد المتحمسين للمدرسة الفلسفية المسماة بـ “الوضعية المنطقية”، لكن يبدو أنه مع تواصل النضج، تحرك فيه ما هو عكس ذلك (مثل كل من لا يستسلم لما وصل إليه من فكر وعلم وتنظير، فى منتصف العمر خاصة)، تحرك به الحس الآخر (العقل الآخر) ففاض كيانه باحترام الحدس، والجمال، والنظرة الكلية، كوسيلة معرفية أسماها هو (بحسب ما كان فيه) الفن، وأحيانا الدين، ونادرا التصوف، فبدا لى أن حركة هذا الحس إنْضَاجاً بهذه القوة والإلحاح لم تنجح أن تسمح له بمراجعة موقفه من الوضعية المنطقية وما تمثلها، وهو الموقف الذى دافع عنه حتى النخاع، قبل أن يقدم لنا أعماله التوفيقية المتأخرة نسبيا، وهى الأعمال التى حسبتُها – أثناء حياته، ومن خلال متابعتى له فى الأهرام أساسا- أنها تسوية ساكنة ظننتها علامة من علامات التقدم فى السن التى قد تجعل الكثيرين ينحون هذا النحو من باب أن “الاحتياط واجب”. من هنا تصورت أن هذه الجرعة المعرفية الأخرى (التى أسماها هو: الفنية أو الدينية أو الصوفية) قد ضغطت وألحّت حتى ظهرت فى هذه الرسالة الحماسية المباشرة، فأخذ حذره واعتبرها من البداية (كما ذكر فى المقدمة) ليست إلا
“…أقرب إلى السمر، أسمر به مع القراء..”، منها إلى البحث العلمى : ص6
هل يمكن أن يحوى السمر كل ما جاء بهذه الرسالة من وثقانية (دوجماطيقية)، ودلائل وإثباتات وتعريفات مهما بدت الاستشهادات طريفة وخفيفة.
أعتقد أن ما قفز من داخله فى مرحلة النضج هذه كان حقيقيا ومُلِحَّا لأنه يمثل الجانب الكلى الذى غَمَرَ داخله – فأسقطه- وأسماه فنا أو تدينا أو شَرْقًا أو دينا، وكان بعض نتاجه هذه الرسالة، هكذا.
اعتبرت هذه الرسالة إعلانا عن التهديد بتصادم هذا الجانب الآخر من وجوده الكلى الرائع، وهى ما كادت تتحرك حتى لحقتها الأخرى الراسخة وصيَّةً عليها، دون تفاعل حقيقى، فكانت النتيجة أن تولَّد هذا الفرض الاستقطابى من البداية (أقصى الشرق الأقصى مقابل =أبعد= الغرب الممنطق المرموز).، وحين حاول الكاتب أن يوفَّق بينهما خلّق منطقة محايدة أسماها الشرق الأوسط، وهو شرق أوسط ليس له وجود إلا فى ذهن الكاتب، ربما يقابل ما نعيشه الآن فى دنيا السياسة، من فتور وحكمة وعقل وكلام من هذا، أو حين يحاولون تخليق شرق أوسط جديد، بالمقاس، ليس له وجود أيضا، يفرضُونه علينا فرضا ليصبح فى النهاية – بفضل الست كونداليزا وأسيادها- كيانا هلاميا يستعمل من الظاهر بعد أن يختلط الحابل بالنابل، فتكون النتيجة آلة ساكنة مفرغة صالحة للملء بما يريدون، والتشغيل لما يرسمون.
الكاتب هنا ليس خبيثا ولا مغرضا مثل هؤلاء الأوغاد العباقرة، لقد وجد نفسه (ذاته) مشدودا يكاد يتمزق بين قطبين متنافرين تماما: الوضعية المنطقية من ناحية والحس الجمالى الإيمانى الفنى الكلى من ناحية أخرى، وبدلا من أن يتعهد الجدل البازغ ويحيطه فيحاط به وهو يتحمل آلام النمو، تخلقت في داخله – رغما عنه غالبا- منطقة وسط، ربما هى التى صبغت حياته وفكره بعد ذلك حتى رحل عنا ونحن فى أمس الحاجة إلى استمرار مسيرته فكرا وعطاء. أقول تخلقت فيه ومنه تلك المنطقة الوسط وقد لاحت أنها توفيقية، لكننى حين تابعتها رجحت أنها انتهت لتكون تلفيقية متجاورة لا متفاعلة، مجرد “منطقة وسط” وليست حركة جدلية نمائية تطورية مؤلمة رائعة صعبة. الفرق ليس هيّنا، بل إن الناظر بعمق سوف يكتشف أنهما عكس بعضهما البعض، وهكذا تصور الكاتب وألح أن هذا “الشرق الأوسط” المتجاور (كما عاشه فأسقطه) هو الحل، أى والله !! لا ننسى أن هذا خطأ استسهالى شائع، وهو ما حاولتُ أن أذكّر به حضور الندوة إشارة إلى ما حاوله توفيق الحكيم فى فلسفته المقترحة التى أسماها التعادلية، والتى أضاف إليها فى طبعة لاحقة، ما يبررها بتفسيره بوضع أمة الإسلام “أمة وسطا”.
لا يخفى أن كثيرا من المسلمين يفرحون فرحا شديدا بحكاية الوسطية هذه وهم يفسرونها بنفس التفسير “المكانى التجاورى التوفيقى“:، وليس التفسير الجدلى التطورى، أنا لا أتصدى للتفسير طبعا، لكننى أدعو من توقف عند “جعلناكم أمة وسطا” أن يكمل الآية الكريمة “لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”، تصورت أن الآية هكذا تنبهنا إلى معنى آخر للوسطية إذا تَمَثَّلنا كيف يكون الوسط شاهدا على الناس، وليس مجرد متفرج يصدر الأحكام، أو يهدئ اللعب والحركة. خطر ببالى الآن كيف أن خطّ الوسط فى كرة القدم هو الأهم وهو قلب الفريق، أذكر أيضا أننى توقفت كثيرا عند لفظ “الشهادة“، وأنا أركز فى كيف تصورت أن ركن الإسلام الأول هو “شهادة ألا إلا الله: وأن ذلك يختلف عن “الاعتقاد أنه لا إله إلا الله” ، أنت تعلن (لا تقول) أنك “تشهد أنه لا إله إلا الله”، فتكون مؤمنا مسلما، لو قلت “أعتقد أنه لا إله إلا الله”، أو “لقد فكرت فثبت لى أنه لا إله إلا الله”، دون أن تدرب حسك وحركتك وعقولك الآخرى “معا” على السعى كدحا إليه، فإنى أرى أنك تحتاج مرحلة تالية من الكدح حتى لا تكون كالأعراب الذين لمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم.
هذا الموقف – حيرة العالم النحرير- بين ما حصّل من علم، وما يتحرك فى داخله، بل فى كله من نزوع نحو ما هو حق سبحانه، وما هو إيمان، خاصة فى منتصف العمر، يحله كثير من العلماء، وبالذات الذين نشأوا نشأة دينية، بحلول مختلفة أغلبها سلبى النتيجة، برغم حسن النية، وأهم مثال على مثل هذه الحلول التلفيقية، غير ما عرض الكاتب فى رسالته: هو “فض الاشتباك” لتجنب الالتقاء حتى فى المناطق المنزوعة المنطق والبرهان، وهو ما تمثله العلمانية: (شيل ده من ده، يرتاح ده عن ده)، ثم خذْ عندك الحل الشائع أيضا تحت مسمى “التفسير العلمى للدين“، أو “للنصوص الإلهية”، ناهيك عن ادعاء النص الدينى بالتنبؤ العلمى بشكل ساذج مسطح بما يهين العلم، ويختزل الدين معاً.
الشرق الأسط الذى ابتدعه الكاتب ليمثل الفرض الأساسى فى الرسالة ظهر باكرا -ص 5- على الوجه التالى:
“..ولقد التقى الطرفان فى الشرق الأوسط طوال عصوره التاريخية ، ففى حضاراته القديمة تجاورَ الدين والعلم كما تَجاور الفن والصناعة ثم شاء الله لهذا الشرق الأوسط أن يكون مهبطا للديانات المنزلة جميعا، فلم يلبث رجال الفكر فيه أن حلواعقائدهم الدينية هذه بحيث أقاموها على أسس عقلية كما هى الحال عند فلاسفة المسلمين..” إلخ
تبدت لى هذه التوفيقية المكانية (غير الجدلية أصلا) باستعمال تعبير “تَجَاَوَرَ- ..تَجَاَوَرَ”، بما يرجح ظنى فى طبيعة فرضه الذى غلب عليه مجرد “التجاور المكانى” حتى فى الفكر نفسه – ثم تأكدت من ظنونى حين ارتضى الكاتب، وشجع، وصاية العقل (النظرى الغربى غالبا) على الدين باعترافه الضمنى بفضل رجال الفكر وقدرتهم على أن يحلوا عقائدهم الدينية حتى يقيّموها على أسس عقلية مستشهدا بفلاسفة المسلمين، لاحظ تعبير “يحلو عقائدهم … حتى يقيّموها على أسس عقلية”، هذه المحاولة قد حلت العقائد فعلاً، (حتى حللتها تحليلاً لا حلالا) لكنها عجزت أن تقيّمها على أسس عقلية طالما أن العقل المستعمل هو ذلك العقل النظرى الذى أشار إليه الكاتب، ثم إننى لا أعتقد أن هذا التعميم عن جهد فلاسفة المسلمين صحيح. ومن ناحية أخرى، فإن الكاتب جعل المتصوفة مستبعدين من الإسهام فى حل هذا الإشكال، مكتفيا بوصاية هذا العقل النظرى كما أسماه، والذى لم يفعل شيئا بالدين إلا أنه قزّمه، واختزله، إلى محدودية مجاله، وأبجدية لغته، وهى حدود وأبجدية مختلفة تماما عما تصدى لتفسيره.
ظل هذا التوجه هو هاجس الكاتب طول الوقت حتى النهاية ص 79
“..إن ثقافة الشرق الأوسط قد جعلت الوقفتين جنبا إلى جنب، فنرى الدين والعلم معا متجاورين، بل ترى الدين نفسه يناقَشُ بمنطق العلم، فتندمج النظرتنا فى موضوع واحد.. “
(ذكرها الكاتب فخوراً الشرق أوسطه!!)
أنا لا أنكر أننى لمحت قلقا هنا وحيرة هناك طول عرض الفرض برغم الحماس لإثباته، ولم يخفَ علىّ كيف راح يحذرنا المؤلف من اضطراره للتعميم، أو ينبهنا إلى عدم استعمال لغة منظومةٍ لشرح وتفسير وتقديم منظومةٍ أخرى مختلفة عنها تماما، إلا أننى – بصراحة- وجدتها تحذيرات متناثرة، لم تنقذنى من رؤيتى لهذا التلفيق التجاورى “جنبا إلى جنب“، فى شرق أوسط متخيل، بأفكار آمِلةَ لا أظن أنه يمكن أن يخرج منها إلا تسطيح الجانبين معا.
* * *
قبل أن أطرح تعقيبا نهائيا أود أن أعترف للكاتب والكتيب بالفضل فيما اقتطفه من هنا وهناك، وأعترف أننى كنت أقرا المقتطف بشغف ، وخاصة بعد أن أنجح فى فصله بعيدا عن السياق الذى اقتطف من أجله، وإن كنت تعجبت كيف استشهد بكونفوشيوس فى حديثه عن الصين، مع أن الأقرب إلى إثبات فرضه هو “لاو تسو”، الذى كان محور استشهاد “فريتجوف كابرا” صاحب محاولة الربط بين التصوف والفيزياء الحديثة
ولا بد من الإشارة أيضا إلى أن هناك فقرات انزعجتُ منها حتى كدت أن أعتبرها خطأ مطبيعا متضخما مثل قوله: ص 41
“لو كانت المتعة مما يدوم (كما فى الفردوس) لما كان فيها عند الشرقى من بأس، لكنها فى هذه الدنيا متغيرة متحولة شأنها شان الظواهر الجزئية العابرة، ولذلك ازدراها الشرقى فى مثله العليا وغض عنها الطرف”
من قال أن الشرقى ازدرى المتعة واشترط دوامها حتى يسمح لها أن تندرج فى منظومته الحياتية أو مثله العليا؟
ثم خذ عندك: ص44
“أليس العلم عند أصحاب النظرة العلمية منتهيا بهم إلى معرفة العالم معرفة كاملة؟”
هل هذا كلام ؟ وهل هذا هو العلم كما يقدمه لنا فيلسوف رائع، يعلمنا دائما أن العلم لا يكون علما إلا إذا كان ناقصا مفتوح النهاية؟
ألستم معى أنه خطأ مطبعى.
* * *
وأخيرا، فثم أمران لا مجال لاستشهادات تفصيلية للإشارة إليهما، فأكتفى بالتنبيه إلى حاجتنا إلى مراجعتهما نقدا حتى الرفض: أولهما: هو ما وصلنى من تمجيده المفرط للسكون (لا الجمود) أكثر من الحركة، توجها إلى “نرفانا” بدت لى خاملة غير النرفانا الخلاقة.وثانيهما: تهميشه للجسد كمشاركٍ فاعلٍ فى المعرفة والنمو.
وبعـد
أكاد أجزم أنه لو كان هذا الراحل العظيم بيننا الآن، وبلغه ما وصلت إليه تطورات مناهج المعرفة، وتعملق أدوات وقدرات التكنولجيا التى مكنتنا من التعامل مع ملايين العمليات “معا” حتى بزغت علوم مثل علوم الشواش والتركيبية، وما أضافته الطبيعة الحديثة والرياضة الحديثة من فرص التصالح والتكامل الخلاق مع منظومات معرفية أخرى مثل الفلسفة والتصوف، لو حدث ذلك ، ونمى إلى علمه، طبعا، إذن لأسهم فى استيعابه، ودفَعِهِ وتنميتهِ ، وبالتالى لم يكن ليحتاج إلى هذه التسوية الحلْوسَطَيِة المكانية التجاورية.
وأيضا لو كان الله سبحانه قد أطال عمره حتى رأى كيف اندفعت الصين – مثلا- إلى التنافس التجارى الكمى الاستهلاكى مع الولايات المتحدة، اندفعت بكل هذا العنفوان الجارى حالا، إذن لانتبه وكان يمكن أن يقرّ أن الشرق الأقصى (بما فى ذلك اليابان والنمور الأسوية بدرجة أو بأخرى) ينتمى (أو: قد انتمى) إلى الغرب التجزيئى، والعقل النظرى، لخدمة الحياة الكمية الاستهلاكية على حساب تنمية الجمال والتناغم والجوهر والحدس والإيمان.
ما هو الحل؟
طبعا لأ أعرف، وربما أنا لم أكتب هذه الزاوية إلا لنحاول معا البحث عن حل وحلول، مثلما يفعل أمثالنا عبر العالم، شرقا وغرباً ووسطا بكل لغة، وحس، ونبض، ووعى، وفن: طول الوقت، رغم أنف العباقرة الأوغاد قاتلى البشر عملاء الانقراض.
رحم الله الراحل الكريم وجزاه عنا خيراً.
اللهم لا تحرمنا أجره، (أجر اجتهاده بغض النظر عن النتيجة)، ولا تفتنّا بعده (بالتوقف عند تقديسه ومدحه دون تجاوزه ونقده) واغفر لنا وله (فكم أخطأ، وكم أخطأنا وسنخطئ).