الأهرام: 13 / 7 / 1998
السياسية، بمقياس مشاعر الشخص العادى وأخلاقه
بمكن أن يقال : إن السياسة هى لعبة الحاذق فى ملعب الممكن،
فهل يعنى هذا أنه ليس لمشاعر الشخص العادى موقع فى السياسة؟
وهل يعنى ذلك أيضا أن يتخلى الشخص العادى عن قياس الرأى السياسى أو الموقف السياسى أو الزعيم السياسى بمقياس الأخلاق التى تنظم حياته وحياة ذويه؟
وهل معنى هذا وذاك أنه علينا أن نترجم أحداث السياسة إلى أرقام ومصالح، وأن نكتفى بممارسة الأخلاق والمشاعر فى مجال الحب ، أو الرقة شبه الحضارية؟ ودمتم؟
لست متأكدا من أن الإجابة عن كل هذه الأسئلة ينبغى أن تكون بالإيجاب، بل لعل العكس هو الأقرب لما هو صحيح .
فأنا لا أتصور أن المواطن العادى لا يمكن أن يقرأ الأخبار السياسية إلا وهو يتقمص هذا، ويحاور ذاك، ويمتليء غيظا من خبر هنا، وينحنى احتراما لزعيم هناك، ويبصق قرفا على سياسى بعينه، ويمتلئ زهوا بموقف سياسى آخر، وإن لم يفعل ذلك فلا أظن أنه يمارس حقه السياسى الطبيعى كمواطن عادى مشارك، كما أنى أتصور أن من يتخلى عن حقه فى حوار ذاتى كهذا، هو لايؤدى صلاته العصرية كما أوصى بها هيجل، حين نبه أن قراءة الصحف اليومية هى صلاة الإنسان المعاصر، وأولى بمثل هذا الشخص الذى يقرأ السياسة من موقع المتفرج عن بعد، أن يضع أخبار السياسية جانبا كما يفعل أغلب الناس هذه الأيام بما فى ذلك الشباب، أو، وخاصة الشباب.
وأنا -شخصيا- أقر وأعترف أننى لا أستطيع التخلص من هذا الذى يغمرنى وأنا أقرأ الأخبار مهما حاولت أن أنفصل عنها، كما أقر وأعترف أننى أضبط نفسى متقمصا هذا السياسى أو ذاك وأنا أحاول أن أفهم مشاعره وهو يقدم على هذا العمل أو يصرح ذلك التصريح، ثم إنى ، رغم صدق المحاولة، أفشل فى أغلب الأحيان فى فهم أو تصور مشاعر كثير من الساسة فى عديد من المواقف، فأهمس لنفسي: لا بد أن هؤلاء الساسة العظام مصنوعون من طينة بشرية أخرى تساعدهم على فعل ماعجزت عن فهمه، أو عن تصوره، ناهيك عن مجاراته.
لكننى فى أحيان أخرى أنجح فى التقمص لدرجة تقربنى مما أقرأ أو اسمع أو أري.
وإليكم بعض ذلك لعل الأمر يتضح أكثر :
(1) غمرنى زهو بشرى راق وأنا أرى نيلسون مانديلا وهو يتحدث عن الوفاء للجماهيرية الليبية وإيران فى حضرة الشاب السعيد المجامل (حتى النفاق) السيد كلينتون شخصيا، وتساءلت : هل هذا الإعلان الوفى فى هذا الموقف الدقيق هو نبل إنسانى واجب أم أنه حسابات مصالح سياسية ؟
ورجحت أنه نبل إنسانى رائع، بل قلت : إنه لا بد أن شيئا إسمه ‘الوفاء السياسي’ موجود فى معجم السياسة قبل أن يعاد تحديث، وقد لا قيت شخصيا بعض مصل هذا الوفاء (الاقتصادى السياسى الإنسانى معا) حين كنت أتحدث مع أحد شيوخ الخليج، وهو يذكر أنه لولا مدرسوا مصر الذين كانوا يتطوعون للتدريس فى إمارات الخليج، ولولا أموال الكويت التى كانت تبنى المدارس، لما استطاع هذا الشيخ الوفى أن يتعلم ، وأن يدخل الكلية الحربية فى مصر بمنحة مصرية، وأن يرجع مثقفا قائدا فى بلده، كل ذلك قبل أن يتفجر البترول فى إلإمارات، أما عن وفاء أهل اليمن فحدث بلا نهاية حتى يذكرك الحديث بوفاء أهل الجزائر لمصر وهى تقف بجوار ثورة اليمن ، وتحرير الجزائر.
ولم أستطع أن أميز بين وفاء الرجل العادى ، ووفاء رجل السياسة، لأن ثمة صلة حتما ،من باب كيفما تكونوا يولى عليكم (فى الأغلب).
وأرجع إلى موقفى الأول: هل الحديث عن الوفاء ، وعدم الوفاء، سواء كان بالنسبة للشخص العادى أم لرجل السياسية يصلح فى المعجم السياسى ، أم أنه مثالية، وطفولية لا مكان لهما فى المعجم السياسي.
(2) ومثال آخر : حل بى خزى لزج حتى تمنيت الاختفاء عن الأعين وأنا أحاول أن أتقمص السيد الرئيس كلينتون وهو يتراجع عن إعلان مبادرته، مجرد إعلانها وليس الاصرار على تنفيذها، وذلك بعد أن ألمح وصرح (ولا أقول هدد وتوعد) أنه : ‘سوف : جدا فعلا إلخ ‘، ثم أجده فى آخر لحظة قد عاد يصرح تصريحا خطيرا يقول فيه : ‘إنه، نظرا لأنه نعم، فإنه سوف لا، وهكذا.. ‘، ويسكت الرئيس الشاب متراجعا أمام نتانياهو العايق وهو يلعب له حاجبيه، أو يخرج له لسانه أو وهو يتمايل دلالا، أو يهدد استهانة، أو يتوعد إنذارا. فأشعر بصعوبة متزايدة فى الفهم والتقمص طول الوقت. لكننى أتمادى فى التقمص أكثر وأكثر متسائلا:
على ماذا يحرص هذا الشاب الحلو (كلينتون) وهو لم يبق له على كرسى الرئاسة سوى عامين وبعض عام؟
وماذا فى الدنيا يساوى أن يقبل هذه الإهانات من هذا الإنسان المغرور (نتانياهو) الذى هو ليس بشيء حقيقة وفعلا؟
وماذا لو كنت مكانه ووضعوا لي- أو لولى عهدى آل جور- ملء الأرض أصواتا انتخابية، هل كنت أقبل أن أنحنى هكذا وأتذلل دون حياء؟
وهل نسى هذا الرئيس ، الشاب جدا، أنه على رأس الدولة صاحبة اليد العليا على هذا الذى يمارس طول الوقت لعبة’حسنة وأنا سيدك’، أو كما يقول الموال المصري؟ ‘والله ان كسيت الخسيس حرير من الهندي، ياكل فى خيرك وعند الناس يدم فيك ..؟ ‘
الإجابات واضحة مثل الشمس لكن السيد كلينتون لا يملك إزاء كل هذه الإهانات ، والاستهانات، إلا أن يهدد بكل تصريح، : أنه إن لم يستجب نتانياهو لرجائه، ويسمح له بإعلان مبادرته (لا متابعة تنفييذها، ولا فرض ذلك) فسوف يخاصمه (كلينتون يخاصم نتانياهو) حدايه حدايه ولن يكلمه إلا السنة الجايه!!.
ما الذى حدث لـلمشاعر (العادية) لهذا الرئيس جدا ؟ ماذا جرى لكرامته الإنسانية؟
أليس هو بشر مثلى ومثلك؟ وما الذى استفاد-شخصيا- من توليه هذا المنصب الأعلى ثمانى سنوات، إن كان فى النهاية يتنازل عن أبسط ما يتمسك به راعى غنم فى دهب فى جنوب سيناء، أو بائعة خضار فى السيدة زينب؟ وأى سياسة فى الدنيا ، وأى فرحة بالنجاح فى انتخابات حرة جدا، ممولة جدا، ديمقراطية جدا جدا، إن كانت النهاية هى يقبل الذل علانية هكذا مثل امرأة جائعة مهجورة ؟
وأتراجع معتذرا، إذ لا بد أن أخلاق الساسة ومشاعرهم هى صنف آخر لا نعرفه نحن العامة
(4) ويغمرنى شموخ تعويضي- محوط بحذر واجب- وأنا أتقمص الرئيس الباكستانى وهو يرد ببساطة وقوة على الهند ردا سريعا مناسبا بنفس اللغة، وأهتف فى صمت: هكذا يكون الحساب خالصا، وفوريا، وليس هناك أحد أحسن من أحد، وأكاد أمد يدى إلى كتفي، وأنا ما زلت متقمصا نواز شريف لأبعد ذراع أمريكا عن ظهرى وهى تربت على بعد تفجير الهند، تنصحنى أن أظل مطيعا وشاطرا وغير نووى حتى تحبنى الولايات المتحدة شخصيا، بل إنها سوف توصى العالم بحبى جدا جدا، فأدفع ذراعها دون شماتة، ولكن من موقف من يريد أن يحترمه الناس بما أنجز، لا بما أطاع، وأشير إلى الدكتور عبد القادر خان بعلامة البدء فى التفجير.
أليست هذه المشاعر الإنسانية من صلب السياسية ؟
أليست كرامة الشعوب هى دافع الإنجاز؟
أليس قبول التحدى هو وقود الإبداع ؟
فلماذا يفصلون السياسة عن مثل هذا الزهو بالكرامة، والثورة للإهانة، والغيظ من السبق ..إلخ .
(4) ثم إنى لا أكاد أفيق من تقمصى لنواز شريف وعبد القادر خان حتى أرتد أحاول أن أفهم بعض الزعماء العرب وهم يفعلون عكس ذلك تماما، فأفشل تماما فى معرفة سر الفرق; وأتساءل : أليست عندنا الثروة وعندنا العقول، فما الذى ينقصنا؟ الكرامة ؟ آلام الجرح ؟ وكيف تنقصنا الكرامة ومعاناة الألم والسيد نتانياهو لم يقصر فى تذكيرنا بذلك ، فهو لم يبخل علينا بالجرح، والبصق ، والصفع ليل نهار، أم أن كثرة الصفع والدق جعلتنا مثل وتد وحادثات السلام أو عير الجامعة العربية ؟ (ولا يقيم على ضيم يراد به ، إلا الأذلان عير الحى ، والوتد)
كيف نجحنا – نحن العرب دون خلق الله- أن نفصل المشاعر النبيلة، والغيظ الكرامة، والأخلاق الغيور عن السياسة هكذا ؟؟ يا سبحان الله
(5) ثم يبلغ حنقى مداه، وكذلك عجزى منتهاه، وأنا أبحث أيضا عن الغضب المناسب الذى لا يمكن أن يقل أو ينسى مهـما طال الزمن حين أتقمص فيصل الحسينى أو حنان عشراوي، وجنود اسرائيل يدفعونهم بكعوب البنادق، وأتساءل هل بعد هذا سبيل للتفاوض؟ وكيف يمكن أن ينطق مفاوض بأى كلمة قبول أو رفض على مائدة المفاوضات وهذه الصورة ماثلة أمامه؟ وهل أصبحت كل أمانى` العرب هى دفع مسيرة السلام، حتى دون تحديد: دفعها إلى أين؟ بل إننى من فرط تقمصى لفيصل الحسنى وحنان عشراوى أشعر بآلام جسدية فى نفس مواقع دفع كعوب البنادق فى صدري، صدورهم .
وأخيرا:
ألستم معى فى أن ربط السياسة بالمشاعر الانسانية العادية ، والأخلاق الكريمة(وغير الكريمة) الشائعــة ، خليق بأن يساعد أولى الأمر على اتخاذ القرار المناسب ، وعلى فعل الإجراء المناسب
ملحوظة : أعترف أننى منتبه طول الوقت للفرق بين هذا الذى عرضت حالا ، وبين التصرفات التى تسمى ‘رد الفعل’ أو القرارت التى يمكن أن تتهم بالانفعالية !!
ولإيضاح الفرق، يحتاج الأمر إلى حديث آخر.