الاهرام: 30/8/1998
السهل والصعب فى السياسه والحب
ما كان اسهل على نجيب محفوظ ان يقول للنقاش قصيده شعر فى بطوله وزعامه عبد الناصر، لو انه رضى ان يذكر بما ليس هو، وماذا كان يضيره لوانه سب اليهود مجتمعين، وليس فقط اسرائيل او الصهاينه، ثم انه اسهل واسهل لو انه انتهزها فرصه وشتم المتطبعين، وتغزل فى العمال والفلاحين، وايضا كان سهلا وبريئا ولطيفا ومهذبا ان ينشر محفوظ ثوبه الابيض (وهو ابيض فعلا) ويذكر لنا عددا من قصص الحب الحقيقى او المتخيل، وكم كان عذريا امرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حتى انه (من فرط عذريته) قد عوض ذلك بخياله الروائى الذى اراد ان يكشف من خلاله للشباب والعامه كيف يتجنبون المنكر جدا جدا، كان كل هذا سهلا يفعله الساسه فى مذكراتهم، وخاصه اذا كانوا من الضباط الاحرار، ويفعله المحبون فى سرد تاريخهم البريء امام الحبيب الجديد، وقد يتمادى المحبون- حسب مقتضى الحال- فيكذبون على الجاب الاخر، ان كان المحبوب يفضل صاحب الخبره السابقه، مع ان كذب السياسى المحب قد يكلفه كرسى الرئاسه فى اكبر دوله فى العالم.. الخ.
لكن محفوظ اختار الطريق الصعب، لانه الابقى والانفع، ولانه الاصدق والاشجع ولانه محفوظ، واذا تذكرنا ماعلمته لنا كتب الحديث الشريف من ان السيره هى قول او فعل اوتقرير، لوجب لزاما ان ننقل للناس، جنبا الى جنب كلام محفوظ وتسجيلاته، مايفعله محفوظ ويقره، حتى تكتمل الصوره، ومحفوظ فعل ويفعل الكثير فى ابداعه، وهو ايضا من القلائل الذين اتاحوا لكل الناس-دون استثناء- ان يروه كما هو، وهو ياكل ويشرب ويعمل عملا راتبا (روتينيا) ويمزح ويمشى فى الاسواق. فهذا الكتاب الجيد هو بعض محفوظ (على احسن الفروض) وهذا مااقره النقاش بامانه دقيقه فى المقدمه-، وهو كتاب حسن النيه كثير المحبه، لكنه كتاب ناقص حتما، لايكتمل الا بلاحق من صاحبه، او من راويه، او من كليهما او غيرهما، وهذا ماوعدنا به النقاش، اما بقيه الصوره، اما حقيقه الصوره، فهذا امر اخر. وقبل ان استطرد فى مناقشه بعض ماجاء فى الكتاب اود ان اشير الى افه الكسل التى صبغت حياتنا منذ لوح لنا النظام ان كل ماعلينا هو ان نهتف بحياه المنقذ الاوحد، وانه مقابل ذلك سيتكفل لنا بالمسكن والوظيفه ويزوجنا ايضا ببنت الحلال التى قد ينتقيها لنا لو عنده الوقت، ثم انه- مشكورا- سيقوم عنا بالتفكير بالمره، وقد تمادت هذه الافه ليس الى العمل فحسب (37 دقيقه عمل فى اليوم!! كما شاع) ولكن الى كل المجالات: فى البحث العلمى ولجان الترقى للاساتذه شخصيا، وسائر الانتخابات، و الاحصاءات ذات الارقام الرسميه، وغير ذلك بلاحصر، ممالامجال لذكره حالا، ثم ان افه الكسل هذه امتدت الى عقولنا ونحن نقرا، ونحن نفهم، ونحن ننقل مانقرا، ونحن نستسلم لما يكتب، الى اخر ماتجسد امام ناظرى وانا اتابع هذه الضجه التى اثارها كتاب النقاش ونجيب محفوظ، وفى البدايه عذرت القاريء بعض العذر، اذ ماذا ننتظر منه وهو يتلقى كتاب سيره ذاتيه عليها اسم اهم كاتب، (نجيب محفوظ) وقد حاوره ناقد من ابرع النقاد واحذقهم اعلاما (رجاء النقاش) ونشره ناشر موضوعى ملتزم (مؤسسه الاهرام: مركز الاهرام للترجمه والنشر)، ماذا ننتظر منه- منا- الا ان يفعل ما فعل، اى ان يلقى بكل اسلحه تحفظه جانبا لتنقلب كل خلاياه الى اذان صاغيه كما يقال. الا ان الاذان الصاغيه ليست- او ينبغى الاتكون- مثل الاوانى المستطرقه تتساوى فيها اسطح مايلقى اليها من اى منفذ، ومع ذلك فقد دلت التعقيبات التى نشرت، واكثر منها- طبعا- مادار فى المجالس الخاصه والعامه، ان اغلب الاذان لم تسمع الا ماانتقت ان تسمعه دون السياق الذى ذكر فيه، بل ان بعضها سمع مافى ذهنه هو دون مارواه النقاش عن الحاكي، ولنبدا من البدايه:
اولا: العنوان: لم يذكر النقاش ولامحفوظ- فى العنوان- ان هذا الكتاب هو سيره ذاتيه، بل انه كان مجرد صفحات من مذكرات، واضواء جديده على ادبه وحياته، والمتامل فى العنوان لابد ان يدرك انها مجرد صفحات من..، وليست صفحاته كلها، وانها مزيد من الاضواء الجديده (اذن فلابد ان تضاف الى هذه الاضواء الجديده الاضواء القديمه حتى تكتمل الصوره، فهل توقف احد عند العنوان اصلا قبل ان يزعم ان هذا الكتاب هو نجيب محفوظ شخصيا بكل ماهو نجيب محفوظ؟
ثانيا: لم يربط قاريء من القراء (او كاتب ناقد) بين ماورد فى هذا الكتاب، وبين اخر اروع ابداعات الرجل، خاصه واختار لها محفوظ شخصيا اسم اصداء السيره الذاتيه وكاننا باغفالنا هذا الربط، فصلنا الصدى عن الصوت الاصل.
ثالثا: لم يتوقف احد- بالقدر الكافي- عند مناقشه منهج الكتاب ومدى التزامه بالقدر اللازم من المصداقيه قبل ان يندفع ليناقش محتواه، فعلى الرغم من امانه وطيبه وحيره النقاش، وعلى الرغم من حبه لمحفوظ الذى لايخفيه، فان المساله تحتاج الى مراجعه بل مراجعات، فقد علمنا البحث العلمى ان نتاكد باديء ذى بدء من ثبات ومصداقيه الاداه التى نقيس بها سلوكا ما، او نحكى بها روايه ما، وذلك قبل ان نندفع لناخذ نتائج القياس بها وكانها الحقيقه، وهنا تطول الوقفه اذا اردنا بحث مصداقيه هذا العمل بجد لائق ولنفترض ابتداء- كما بدا لى اكيدا-ان الراوى نقل الحقيقه، ولاشيء غير الحقيقه، فهل يعنى ذلك انه قال كل الحقيقه، وانا لم افهم ضروره ذكر قول كل الحقيقه وليس فقط الحقيقه ولاشيء غيرها الا مؤخرا حين فهمت ان اخفاء بعض الحقيقه قد يصل الى نوع خطير من الكذب، واتضح لى ذلك جليا حين بلغنى كيف ان الوزراء فى البلاد المتحضره قد يستقيلون، بل ان الوزاره باكملها قد تستقيل اذا اخفت بعض الحقائق عن الشعب (اللهم الا الاسرار العسكريه التى تخفى بقوه القانون)، لكننا منذ اخفاء النتيجه الحقيقيه لحرب1956، حتى اخفاء كلينتون تفاصيل علاقته بالانسه (!!!) مونيكا لوينسكى رحنا نتعلم اسلوبا جديدا فى التعامل مع الحقائق.
ان علوم الحديث الشريف قد علمتنا كيف ينبغى ان يكون الحرص كل الحرص فى نقل مايروي، وكيف يستحيل اليقين كل اليقين بالنسبه لما يمكن ان يصلنا، وعلى الرغم من جهد علماء الحديث للتحقق من مصداقيه الرواه، الا ان الامر لم يسلم ابدا من ان تصلنا احاديث غفر الله لمن ابتدعها او تساهل فى نقلها، ولايتصور احد ان التسجيلات الصوتيه هى المنقذ من هذا الخلط، ولاحتى الكتابه الموثقه بخط صاحبها، ولامجال لتفصيل ذلك الان، فقد اعود له فى حديث لاحق، المهم، لقد بدات لقاءات النقاش مع محفوظ فى.. اول اغسطس سنه1990 وكان اللقاء يستغرق.. مايقرب من ثلاث ساعات، واستمرت هذه اللقاءات حتى اواخر عام1991 (ص7)، ومع ذلك لم نحصل الا على خمسين ساعه حسب اقرار الراوي!! وقد ظهر جليا فى المقدمه الامينه المحبه التى قدم بها النقاش الكتاب كيف انه وقع فى حيره منهجيه لم يجد منها خلاصا الا فى هذه الصوره البسيطه المتواضعه الصحيحه التى ظهر بها هذا الكتاب هكذا، ولايوجد اى مجال للومه او تكذيبه، اذ بدا واضحا وصريحا ان ظهور الكتاب بهذه الصوره كان المنقذ الوحيد ضد البديل السلبي، وهو الايظهر اطلاقا، ومع ذلك تعالوا نقرا بعض المقدمه:
(اولا) ذكر النقاش (ص7 ايضا): واحيانا كنا نعيد الاسئله، ونعيد تسجيل الاجابات طلبا لمزيد من الدقه والوضوح، (ثانيا) اثنى النقاش (ص9) على.. الاصدقاء الذين ساعدونى مساعده اساسيه فى تفريغ شرائط الاحاديث، وترتيبها ترتيبا موضوعيا (ثالثا) وعد النقاش بعوده ينتظرها الجميع قائلا (ص8)… اما التقديم لهذه الاحاديث والتعليق عليها والمقارنه بينها وبين اعماله الفنيه، فلم اجد مفرا من تاجيل هذا كله الى كتاب جديد، اذن فثمه مراجعه لبعض الاحاديث الغامضه، وثمه اخرون قاموا بالتفريغ (لا مجال للشك فى امانتهم)، وثمه اعتراف بنقص رائع متدارك باذن الله، ومع اليقين من حب النقاش لنجيب محفوظ، وحب نجيب محفوظ للنقاش وتقديره لجهده، فان المنهج البسيط الرائع الذى ظهر به هذا الكتاب، هكذا كان يقتضى فى ابسط صوره ما يلي:
(1) ان يحترم الراوى ان ما يقرب من ثمانى سنوات مضت بين تسجيل الاحاديث وبين نشر الكتاب، فكان ينبغى عليه ان يفترض تغيرا ما خلال هذه السنوات السبع او الثمانى من انسان عنده شجاعه التغير، وبالتالى كان عليه ان يرجع الى الحاكى فى بعض المسائل التى بدت فى صورتها الخام شائكه او ملغزه؟
(2) حدث فى هذه الفتره للحاكى ما لايمكن اغفاله، وهو محاوله الاغتيال، وما ترتب عنها من تمام الاعاقه عن القراءه، وعن الكتابه، بما لانملك معه الا حمد الله، وقد جاء ذكر ذلك ملحقا بالكتاب، افما كان الاولي، بعد هذه الخبره الخطيره، ان يراجع الحاكى لعل هذه الخبره قد انارت له بعض ما غمض عليه قبلها؟ اننى اعلم من موقع تخصصى ان مثل هذه الخبرات الجذريه، قد تعرى صاحبها حتى مرتبه النبوه، اذ قد تكشف عنه غطاءه، حتى اننا فى بعض الاحيان نسمى مثل هذه الخبرات الجذريه اعاده ولاده مهما بلغت السن، ونشر الاحاديث التى حكيت قبل الحادث يمكن ان يتناقض مع ما احدثته هذه الخبره الجذريه من كشف ومراجعه، فاذا كان الراوى قد خاف فتح الملف واحتمال التاجيل حتى التراجع، فلا اقل من الاستيضاح فى بعض ما هو ملغز او شائك، ليس فقط لمرور الزمن، وانما ايضا لوقوع الحادث!!!
(3) بلغنى من الحاكى شخصيا: نجيب محفوظ، وهو يلتمس العذر للنقاش ان الفاضله المسئوله عن النشر السيده نوال المحلاوى قد ارسلت له تطلب منه كتابه مقدمه للكتاب، وانه اعتذر لظروفه (طبعا)، لكن بعد ظهور الكتاب يبدو ان السيده نوال المحلاوى عادت فاوضحت انها مع طلب المقدمه طلبت بشكل مباشر او غير مباشره ان يقرا الكتاب على صاحبه، ثم انها فهمت من اعتذار محفوظ عن كتابه المقدمه، انه وافق على عدم قراءته عليه القراءه الاخيره قبل النشر مباشره، ولا مجال لتكذيب اى من هذه الروايات، الا انه يبدو ايضا ان شيخنا الجليل لم يبلغه هذا العرض (قراءه الكتاب عليه قبل النشر) بوضوح كاف، ولا من مصدر مسئول بشكل مباشر، وظروفه لاتسمح بالاستيضاح او الالحاح، افما كان الامر يستاهل بعد مرور هذه السنين، وبعد الحادث، وقبل النشر، ان يكون هذا الطلب مباشرا، ومحددا، ومن الراوى المحب شخصيا، دون سواه؟ اما كان الامر يستاهل ان يجلس هو شخصيا عددا اخر من الساعات يقرا الصوره النهائيه حرفا حرفا، والاستاذ مازال والحمد لله يحسن الاستماع (مهما كانت الصعوبه) اذ يستمع بكل اخلاص لكل غث وثمين نشغله به فى كثير من الاوقات.
واكتفى بهذا القدر فى مساله المصداقيه، وصدق الاداه، وما كنا نرجوه، وما كان ينبغي، ذلك انه على الرغم من كل ذلك، فان نجيب محفوظ بكل شجاعته وامانته وحبه للحقيقه وللراوي، صدق اولا باول متالما وغير ذلك على اى مقتطف روى له من الكتاب، وللامانه فان من يراه وهو يرفع حاجبيه دهشا حين يذكر له احدنا او غيرنا فقره من الفقرات المشكله، ثم وهو يتساءل (غير منكر) انا قلت هذا؟ فيقال له: هذا هو المكتوب، فيصدق على الفور، ويبتلغا المه صامتا، ثم يمضى فى الايضاح وذكر السياق المحتمل، من يرى هذا المنظر لابد ان يزداد احتراما لهذا العظيم، ولعله يتعلم منه الشجاعه وحب الحق على طول الخط فاذا انتقلنا الى محتوى الكتاب وجدنا انه اخذ عليه اربعه ماخذ رئيسيه:
اولا: قالوا ان اراء محفوظ تغيرت عن تصريحات له سابقه، واستشهدوا على ذلك، وهات يا اتهام بالتقلب والتناقض والتلون… الخ.
ثانيا: اخذوا عليه ما جاء فى نقده لحركه يوليو، التى ثوروها لاحقا، ثم تراجعوا عن هذا وذاك، وشددوا فى لومه على رايه فى تاميم القناه، وحرب الاستنزاف، وجمال عبدالناصر، ثم الحق بهذا الماخذ اضافه تكميليه تقول: واين كنت ايام عبدالناصر؟ ولماذا لم تقل هذا ايامها… الخ.
ثالثا: عابوا عليه ما صرح به شخصيا عن فتره من فترات حياته حين انطلقت طاقاته الجسديه اقوى من قدره ضبطها، ولم يتحرج فى ذكر مسارها هذا مباشره.
رابعا: لاموه على ما جاء من نقد مهذب، ومديح قيل انه زائد فى النظام القائم حاليا، وفى رئيسنا الحالى. وهنا اجدنى اتصدى بشكل عام للرد على بعض ذلك قائلا:
(اولا): من حيث المبدا، سوف نسلم بان نجيب محفوظ قال كل هذا، لكننا لابد ان نتوقف عند السياق الذى قاله فيه، وكثير منا، نتيجه الكسل الفكرى المخدر للوعي، لا يستوعب حكايه السياق هذه بالقدر الكافي، فثمه ايه كريمه تقول ويل للمصلين، ولولا علامه الوصل (صلى التى ترسم بعد هذه الايه) لحق للقاريء ان يتوقف وكان المعنى انتهي، الا ان الايه التاليه الموصوله تقول: الذين هم عن صلاتهم ساهون، وكل ما قاله نجيب محفوظ، وحاولوا اخذه عليه، نزع من سياقه قسرا، سواء بتعسف متحيز، او بكسل رخو، او باستسهال متعجل، ولابد من مقالات اخرى مستفيضه لضرب امثله تفصيليه لذلك.
(ثانيا): ان الانسان الصادق مع نفسه، الشجاع فى مواجهه الدنيا والناس، هو الذى يستطيع ان يغير موقفه، ليس فقط لانه بصفته كائن حى يتغير، وانما ايضا لان التغير واجب كلما تغيرت المعلومات زياده او نسخا او تصحيحا، ولابد اننا ننخدع كثيرا فى الهتاف القديم الذى يصيح انه يحيا الثبات على المبدء، ذلك لانه اما انه يشير الى المباديء الاساسيه فى الحياه، مثل الثبات على مبدا الصدق، او مبدا احترام الراى الاخر، او مبدا الحريه للجميع، واما انه هتاف طفلى يعنى الفخر بالغباء الساكن، والعناد المتشنج الذى يصبغ صاحبه صبغه واحده طول العمر، وهذا النداء فى صورته الطفليه لا يفخر به الا طفل علموه ان يفخر خطا بمثاليه بلهاء. اذن فتغير موقف محفوظ من الحماس لتاميم القنال والفرحه بالاتحاد مع سوريا الى التحفظ والمراجعه هو امر يؤخذ له ولا يؤخذ عليه، وقس على ذلك كل انواع التغير الذى صرح به، بل اننى على يقين من انه: لو ان احدهم شرح له اكثر كيف ان حرب الاستنزاف لم تكن نزيفا مزمنا يقصد به الهاء الناس دون حرب حقيقيه، بل انها كانت التدريب الطبيعى الذى بدونه ما كانت لتنجح حرب1973، وان من اهم ما قام به جمال عبدالناصر قبل ان يلقى ربه هو انه امر باستبقاء مجندى المؤهلات بعد انتهاء فتره تجنيدهم، وبالتالى تغيير نوعيه الجندى المصري، ثم تدريبه طول الوقت لعده سنوات متصله على ما يمكن ان ياتى بعد، لو ان هذه المعلومات وصلت اليه كامله هكذا، ثم اخذ رايه قبل النشر، لكان من الشجاعه بحيث يغير رايه فى حرب الاستنزاف، فما بلغنى مما قال مجتمعا ليس اعتراضا على حرب وانما هو اعتراض على احتمال الهاء الناس بحرب ليست بحرب، وليست اعدادا لحرب حقيقيه، فلو كان صحح لصحح.
(ثالثا) ان معايره البعض له بانه لم يقل رايه هذا فى عبدالناصر ايام عبدالناصر، وانه يقول رايا لينا جدا فى الرئيس مبارك، لانه مازال فى السلطه، هى معايره مضحكه، ينسى صاحبها ان محفوظ ليس رئيس حزب سياسى فى بلد غربى ديمقراطي، وان كثيرا من هؤلاء المعارضين الذين يزعمون بطوله غير مطروحه اصلا كانوا من اوائل الذين باعوا حتى الاشتراكيه او الشيوعيه بحركه تكتيكيه خائبه للنظام، وان كل من قال رايه فى النظام، حتى من داخل النظام ذاته حرم من ان يكون له راى اصلا حتى داخل حجره نومه، ومحفوظ الذكي، المبدع، الملتزم قال ما استطاع، بما كان يسمح به، بل انه قال ما يجدر به ان يقوله ابداعا لا جدال حوله، سواء فى ثرثره فوق النيل، او اللص والكلاب، او الشحاذ، من قبل الكرنك وميرامار، ثم انه حين نجح فى ان يضبط جرعه النقد ويحسن توقيتها تمكن من الاستمرار حتى اقتنص لنا نوبل (من فم الاسد)، وايضا استمر يثرى حياتنا بما هو اثمن من نوبل، فاذا قلنا فلماذا لا يهاجم مبارك الان بما يرى انه ليس صوابا؟ لجاء الرد ص231 وما بعدها فنرصد مقدار ذكائه والتزامه حين يعلن كل اعتراضاته على النظام الحالى بلهجه المتفائل بالتغيير، الواثق من حسن استماع السلطه له، او الامل فى ذلك على الاقل، من اول رفض استمرار قوانين الطواريء، حتى حتم تغيير الدستور، مارا بضروره نزاهه وتغيير نظام الانتخابات، وحتم اطلاق حريه اصدار الصحف بلا وصايه، وتكوين الاحزاب بلا لجان.
(رابعا) ان ما صرح به محفوظ بالنسبه لسلوكه الشخصى الباكر شابا ويافعا، هو من اقسى واروع ما جاء فى هذا الكتاب، صحيح اننا لم نعتد هذه الشجاعه العاريه، لكن من اخذ عليه هذا التصريح نسى ان يذكر انه اعلن (ص105) انه: لدرجه اننى كنت اتوجه بالتوبه الى الله يوميا وكذلك (ص296).. ان فى اعماق روحى وقلبى ايمانا بالله لم تنتزعه منى دراستى للفلسفه.. الخ، ولست ادرى الى متى نظل نكذب على انفسنا وعلى اولادنا، حتى تسخر فكاهاتهم منا حين يدعى كل اب انه اول فصله، فيسال الابناء: اذا كان كل الاباء اوائل فصولهم فمن كان الثانى فى اى فصل من فصول المدارس؟، او حين ينكر الاباء انهم انجبوا اولادهم بقوانين البيولوجى التى تحافظ على كل الاجناس فيدعون انهم وجودهم بجوار المسجد، او على قارعه الطريق، فيسال الابناء ذويهم الم يكن على ايامكم ما هو زواج خليق ان ينجبنا مثل سائر الاحياء؟ هذه الاخلاق المسطحه التى تظهر نحو حين يكتب الناس سيرتهم، هى اعلان لكسلنا العقلى عن احترام وعى الصغار قبل الكبار، ولاشك ان الصمت افضل من قصائد الفخر الكاذبه هذه، بل اننى ارى ان ما لحق ببعض كتب التراث من حذف وتشويه تحت زعم تجنب ما يخدش الحياء، لهو جريمه اخلاقيه لا يرضى عنها الحياء ذاته، والاولى ان نخجل مما نفعل بتاريخنا لا ان نفخر بتزييفه، فاذا تعرى محفوظ بما يتصور انه يجعله انسانا اقرب، وقدوه اصدق فى تعامله مع اخطائه وشطحاته، خفنا مما صرح به، ونحن لا نخاف عليه على صورته بقدر ما نخاف ان يضطرنا بصدقه هذا ان نتعرى مثله.
وبعد .. فاذا كنت قد دعوت كل من يهمه الامر فى بدايه حديثى الى اكمال الصوره، ولعل خير من يفعل ذلك هو النقاش نفسه كما وعد فى المقدمه، فاننى ابدا بنفسى لاشير الى بعض ما وصلنى من فعل شيخنا الجليل ومما تصورت انه اقره ويقره وليس فقط من قول (الذى اتناول بعضه فى قراءتى النقديه لاصداء السيره الذاتيه فى مجله الانسان والتطور حالا) اليست السيره هى قولا، او فعلا، او تقريرا، وبديهيا ان مصداقيه ما اقره قد تكون اضعف مما صرح به، لانها استنتاج صرف، وعذرى ان من يعاشر شيخنا الجليل مثلما نفعل، لابد ان يكون قد حفظ رموز وعلامات ما يقر وما لا يقر من الاراء دون ان ينبس، سواء تم ذلك بابتسامه هادئه، ام هزه راس، ام تعقيب فكه ام تحويل موضوع، وسوف اكتفى بذكر العناوين فى هذه المرحله كما يلي:
ان محفوظ مؤمن اشد الايمان واعمقه، وهو يحب الله، ويحبه الله.
ثم ان محفوظ قد احب عبدالناصر حبا صادقا، كما انه كرهه كرها صادقا.
كما ان محفوظ قد استهان بالسادات استهانه مبدئيه، ثم احترامه احتراما واقعيا، كما ظل ممتنا له بما حرره، داعيا له بالغفران لما شطح منه وبه.
وقد فرح محفوظ بتاميم القناه مثل كل مصرى واكثر، ثم راجع نفسه متالما الما حقيقيا، حين بدا له ان الثمن باهظ، وان الخديعه مره، وان الانتصار كذبه.
ثم ان محفوظا انسان يكره الحرب كرها شديدا، لانه يعشق الحياه والحضاره والانسان، ويتصور ان الحرب تدمر كل هذا، (وهذا ليس بالضروره صوابا!!) لكنه مستعد ان يكون اول المحاربين حتى فى هذه السن شريطه ان تكون حربا بحث لا نهايه لها الا بالنصر الحقيقي، او الاعتراف بالهزيمه، فهو مثل كل الابطال عبر التاريخ يقبل الهزيمه، بشرف المقاتل الذى اخطاه التوفيق، وهو يابى ان يسميها بغير اسمها، ذلك لانه يعتبرها البدايه الكريمه المؤلمه لكل من اراد ان يتعلم من خيبته البليغه.
وعلى قدر كراهيه محفوظ للحرب فهو يكره اكثر من يدعى الحرب وهو لايحارب، ولن يحارب.
كما اشهد اننى رايته يكره الشر اكثر من اى كاره، وهو لا يفتا ان يرى الشر كل الشر ممثلا ليس فى غطرسه اسرائيل فحسب، بل فى كل غطرسه بلا استثناء، سواء كانت يهوديه او صهيونيه او يوغوسلافيه او خليجيه او مصريه.
وهو يعبد الديمقراطيه ويدافع عنها حتى لو ادت الى ان يتولى من حاولوا قتله مقاليد الحكم، لانه على يقين من شعبه وناسه، وانهم (ناسنا الطيبين) سيزيحون اهل البغى والفساد متى ثبتوا انهم كذلك، حتى لو اختباوا الى حين تحت دعاوى الدين، سيزيحهونهم بالديمقراطيه وليس بغيرها ولو بعد حين (لست ادرى كيف؟).
اما نجيب محفوظ الحقيقي، الذى هو ليس تسجيلا على شريط، وليس تصريحا فى صحيفه، وليس اداه تستعمل من الظاهر تاخذ منه ما شئت لما شئت، وليس شهاده من مثلى تغلفها العواطف ويتحكم فيها ما تيسر من معلومات، اقول اما نجيب محفوظ الحقيقى فهذا هو ما لا نعرفه حتما (من يعرف من؟؟)، بل لعله هو نفسه لا يعرفه يقينا.
فكل منا يولد وينشا، ويسير بين الناس، يحضر ويمضي، يقول ويحاول، يخطيء ويصيب، يبدع ويكمن، ثم هو لا يكون الا بقدر ما يتخلق ويعاود ولاده ذاته باستمرار.
ثم لا يبقى منه الا ما ينفع، ويغير.. وليس ما يوصف به او يحكى عنه.
ان الانسان ليس الا مشروعا دائم التكوين، ومحفوظ هو خير مثال لذلك، فلا توقفوا الزمن لتجسدوا ما تتصورونه، او تخافون منه، او تخبئونه، تجسدون فى هذا الشخص الرائع الذى لم يتوقف عن اعاده ايجاد ذاته حتى هذه السن.
ان اعظم ما فى هذا الكتاب على قصوره هو التحدى الذى القاه فى وعينا: ان نحاول ان نكون فى شجاعته. …. لعل وعسى.