الاهرام: 11 /12 /1977
السلام هو الجهاد الأكبر الذى ينتظرنا
نحن نعيش هذه الايام حقبة رائعة من حياتنا .. رائعة بصحوتنا وأستمرار وعينا وضخامة مسئوليتنا وصدق ألمنا وشجاعة مخاطرتنا وعمق تحدينا، واذا اجتمع كل هذا فى آن واحد فأنها يقظة نمارس فيها كتابة التاريخ، أو بتعبير أدق نصحح فيها مسيرة التاريخ.
وحين يكتب لجيل من الاجيال أن يعى أيامه بهذا الوضوح، وأن يحدد مصيره بهذه المسئولية، فهو جيل محظوظ، ولكنه فى نفس الوقت جيل مسئول مسئولية مضاعفة، لأن ما يفعله اليوم قد يحدد مصير أجيال مقبلة، فما أروع الاختيار وأصعبه : أما الى التقدم الانسانى الحضارى الاصيل، وأما الى السكون المستسلم المخادع.
ومن واجب كل منا – بكل ما أوتى من يقظة – أن يبسهم فى هذه المرحلة بالكلمة والفعل والمسئولية، ليعرف أن ‘مشكلة الشرق الاوسط’ – كما أرادوا أن يسموها حقبة من الزمان تميعا واخفاء لوجهها الحقيقى – أنما هى مشكلتى ‘أنا’ و ‘أنت’، مشكلة الانسان المصرى – والعربى – تعلن هذه الايام بالذات : اما أن يعيش انسانا حضاريا: أى انسانا بحق، وأما أن يعاش شيا ما’ تحت أوهام بالية بدائية، وعلينا أن نختار ..
واختيار السلام الذى عرضه قائد الامة على أمته فاستجابت حقا وصدقا، ثم فرضه على عدو أمته فاضطره هو أيضا الى مواجهة ذاته لتحديد مسئوليته هو الاختيار الاصعب، وسخيف .. بل وضعيف العقل كل من يتصور أن الحل الاسهل هو السلام، وكان اختيار السلام هو هرب من مسئولية الحرب أو مجرد خوف من عواقب الدمار، لانه بالتالى لا يعرف أعباء السلام ولا يعرف أن حسابات العصر تؤكد كل يوم أن الملهاه المأساة المسماة بالحرب كادت تصبح بعد تطور أسلحة الدمار مجرد حل انتحارى سهل للاطراف جميعا، وأن البديل الاصعب هو الاستمرار على هذه الارض رغم اختلافنا دون أن يقتل أحدنا الاخر أو يسخر – الى الابد – أحدنا الاخر.
مخاطر الاستسهال
ومن موقعى كمواطن مهمته الاولى هى الاستماع والنظر فيما وراء الكلمات وجدت أن هناك ما ينبغى أن ننتبه اليه .. وأن على أن أحذر منه فى هدوء واصرار معا، فان فكرة أننا اخترنا الحل الاسهل لم تأت من الرافضين المذهولين فحسب، بل أنها ظهرت بطريق غير مباشر فى أقوال وتصرفات بعضنا من المتحمسين والمتسرعين رغم حسن نيتهم وصدق فرحتهم .. ولكن علينا فورا أن نراجع أنفسنا فردا فردا لتعرف ما ينتظرنا من مسئولية لا مهرب من التصدى لها بما يناسبها.
فالسلام الذى نحن بصدده ليس بداية استرخاء واعلان قدوم الرفاهية كما يخيل للبعض، بل هو مضاعفة المسئولية والغاء تبريرات التخلف.
وهذا السلام ليس اتفافا وتعاونا مع العدو على طول الخط، بل هو تغيير فى أسلوب الصرع : من صراع بربرى بدائى غاضب الى صراع حضارى شريف منافس.
وهنا لابد أن أحذر من تصوير الخير الذى ينتظرنا بعد السلام فى صورة السمن والعسل حقيقة أنه من حق أى منا أن يأمل فى الخير .. ولكن من واجبه أن بتحمل مسئولية تحقيقة أولا وقبل كل شيء.
المعركة مستمرة
اذن فالمعركة مستمرة بأسلوب اعمق وأصعب، ولكنه أشرف وأصرخ، اذ نحن ننتقل من الصراع المسلح الى الصراع الحضاري، وبالتالى فان تصوير الامر على أنه مجرد اتفاق وتعاون بين المتخاصمين هو تصوير ينقصه الالتزام بشرط ‘الندية’ فالامر ليس تعاونا بين عبقرية اليهود وقدرات المصريين والعرب، وهو ليس أيضا تعاونا بين مال العرب وعقول اليهود ولا هو تعاون بين ثروة اليهود العالمية وعبقرية المصريين الحضارية، الى آخر هذه التباشير الجميلة! بل الامر هو الانتقال بأسلوب الاختلاف الذى لا يحله الا القتل .. الى الاختلاف الذى ينتصر فيه الانفع والاعمق .. وأى تعاون لا يفنرن .
السلام اما جماهيرنا بدايه مسئولية مضاعفة
وفى مثل هذا فليتنافس المتنافسون – وحتى نحقق الندية لابد أن نبدأ بمعايشة الالفاظ الضخمة التى نستعملها هذه الايام بحقها علينا – مثل كلمات ‘الانسان’ و ‘الحضارة’ .. الخ لتصبح هى هى وجودنا ووعينا ومسئولياتنا فى آن واحد.
فاذا كان لنا أن نرتفع الى مستوى هذا الاختيار الذى استلهمه القائد الرئيس من وجداننا، فعلينا أن ندرك تماما أن السلام لم يعد سلسلة من فض الاشتباكات المسلحة بل انه اعادة التشابك الحضارى المتحدي* وعلينا أن نستوعب أن الفرق بين الصراع المسلح والصراع الحضارى هو فرق جوهري، وأن كان التعارض بينهما ليس مطلقا فى كل المراحل.
الصراع المسلح والصراع الحضارى
وما دمنا لا نعيش فى الجنة بعد، ولكن ينبغى أن نسعى اليها دائما – فانه علينا أن نعرف أن الاختلاف وارد لا محالة وأن الاسلوب هو الذى يتغير بتغير الازمان وطبيعة صراعات البقاء واليك بعض الامثلة:
فى الصراع المسلح أفرح حين أقتل عدوي، أما فى الصراع الحضارى فانى أتحمل مسئولية انتصارى على عدوى .. من حيث هو انسان يشترك معى فى هدف تحقيق انسانيتا.
فى الصراع المسلح أقتل الانسان الذى يختلف معى – أو يقتلنى – أما فى الصراع الحضارى فانى أحاول الانتصار عليه من واقع اختلافنا ولكن نتاج هذه الاختلاف والصراع هو الخير لكلينا المنتصر والمهزوم فى الصراع المسلح يكون الهدف دائما هو الانتصار. أما فى الصراع الحضارى فيكون الهدف الحقيقى هو التصاعد المستمر من خلال التغير الى أعلي، وما أصعب التغير لمن يعرفه ..
فاذا كان قانون الحرب هو قانون الغابة وأن البقاء للاقوى فان قانون السلم هو قانون الانسان وأن البقاء للانفع والاكثر وعيا .. فالقانون الاول يجعل بقاء فرد أو شعب يتوقف على انتصار معركة أو كسب جولة، ولكن القانون الثانى يعنى أن بقاء فرد أو شعب يتوقف على مدى تكامله وأصالة انتاجه ودرجة فائدته للاخرين من خلال اسهامه الثقافى – فنا وعلما – فى خلال اسهامه الثقافى – فنا وعلما – فى تعميق وعى الانسان والارتقاء بجنسه جميعا دون تعصب أو عنصرية.
والسلام اذن ليس أن ينقلب العدو صديقا استجابة لمبادرة شجاعة كانت التحية فيها بالايدى أقرب الى لعبة الذراع الحديدية (براديفير) كما وصفها صديق.
والسلام ليس تخطيط جنة الشرق الاوسط بمجرد التوقيع على معاهدة.
ولكنه بداية جديدة، وواقع جديد، وتحد جديد، بل لعله هو هو – بما يشمل من جهاد النفس – هو الجهاد الاكبر.
فلندع الله أن يعيننا عليه ونحن يسعي.