نبذة: على فرض أن السلام تحقق بعد استشهاد الألاف والملايين (ودفع الثمن) فسوف نواجه بتحديات أكبر على مسيرة التطور، والمقال يحفز الاسراع بأن يكون تحقيق السلام الشريف بأسرع ما يسمح لنا (للبشر) بمواجهة مصيرنا التطورى فعلا.
الاهرام 21-10-2002
السلام: غاية أم وسيلة ؟
ألفاظ كثيرة رنانة وبراقة نرددها حتي نكاد نقدسها، مع أنها تحتاج مراجعة، وتحديثا، وإعادة تضمين ومحاولة اتفاق. الذنب ليس ذنب الألفاظ ولكننا نحن -البشر- الذين انحرفنا بها، أو امتهنا حضورها، أو لطخنا سمعتها. خذ مثلا ألفاظا مثل ‘الحرية’، و’الديمقراطية’ بل زالحب’ و’العلم’، ناهيك عن ‘الحق’ و’العدل’…إلخ، لا مجال طبعا في هذا الحيز المحدود من مراجعة كل ذلك، لكنني سأتناول لفظا واحدا، وهو لفظ ‘السلام’، في محاولة تحديد موقعه: ماذا يعني عند كل فريق ممن يستعمله، وهل هو غاية أم وسيلة؟.
من حق كل إنسان يريد أن يعيش، ويتقدم، ويضيف، ويبدع، أن يبحث عن السلام، وأن يتكلم عن السلام، وأن يأمل في السلام، باعتباره الخطوة الأساسية التي تسمح بقدر من الوقت والمال، يستطيع الإنسان بحسن استعمالهما أن يحقق ما يطمح إليه، مما يعده به تاريخه من حضارة ومدنية وإنجاز وإبداع. هذا اللفظ الساحر يكتسب أهميته ويحمل نبض إيحاءاته ليس فقط من ذاته، ولكن من تصور عكسه. السلام عكس الحرب، وهي ذميمة طول عمرها، لم يكف إنسان عن لعنها طول الدهر، وفي نفس الوقت لم يكف الإنسان عن خوضها طول الوقت.
لكن التاريخ يؤكد – للأسف – علي أن الأرجح والأغلب أنه لم يتحقق سلام دون حرب، وكأن الحرب – علي بشاعتها – هي الثمن الذي يدفعه من يريد السلام. أبسط وأقرب الأمثلة هو حال مصر بواقعها الصبور المثابر في الحرب والسلام علي حد سواء. ما لم تكن حرب 1973، ما تحقق سلام 1978، إن كان قد تحقق.
إن هذا الاستقراء للتاريخ لاينبغي أن يكون مبررا تلقائيا للتسليم بضرورة الحرب سبيلا أوحد للسلام، لكنه ينبغي أن يكون تنبيها ضمنيا للحذر من منح السلام التي تزعم القوي الكبري أنها توزعها علي المحظوظين مجانا، أو مكافأة علي حسن السير والسلوك وقلة الإرهاب. إنه بقدرحرصنا علي تجنب الحرب، ينبغي أن يكون حرصنا علي تجنب الخداع.
علينا أن نعتبر أن الحرب ليست سوي أزمة وجود شاملة، ونكسة تطور اضطرارية، وأن السلام هو تصحيح لهذا الاضطرار لننطلق منه إلي ما بعده. السلام (مثل الحرب) لا ينبغي أن يكون غاية في ذاته. الإنسان لم يوجد علي هذه الأرض ليحقق السلام، وإنما ليعمر الأرض بحسن استعمال وقته وجهده وإبداعه، في ظل السلام، ما أمكن، ولو بعد الحرب اضطرارا.
نحن لم نسع للسلام من أجل السلام، ولم يضح ناسنا، جيشا وشعبا وقادة، بما ضحوا به من أجل أن يوقعوا معاهدة، أو يتبادلوا أنخاب الاتفاقات، أو يحصلوا علي الجوائز والرضا السامي من المندوب السامي. نحن حاربنا لنحقق السلام. ثم فاوضنا لنؤكد حقنا في السلام . ثم إن ما يجري علي أرض فلسطين بواسطة الشهداء الأبطال، والمناضلين المرابطين، هو أيضا من أجل السلام الحقيقي الذي يسمح للإنسان – علي الجانبين – أن يكمل المسيرة. إن السلام الذي يتحقق بالاستشهاد والتضحيات، غير السلام الذي يزعمون أنهم يحققونه بالضغط علي الأزرار القاتلة عن بعد، وبتصفية الأبرياء بلا محاكمة، وبتجريف الأرض وهدم المنازل على رؤوس الأمهات والرضع.
حين يتحقق السلام الحقيقي الأشمل، وسوف يتحقق مهما طال الزمن وبلغت التضحيات، فسوف يواجهنا السؤال الأخطر: إذن ماذا ؟ ماذا يمكن أن نفعل بما تحقق ومن خلاله؟ كيف سنواصل رسالة من استشهد منا؟ كيف – بلغة العصر- نجاهد الجهاد الأكبر؟
علينا أن ندرك من الآن أن تضاؤل المسافة بين البشر يسمح للكافة أن يعيدوا النظر معا في غايات الوجود من أصله . لم تعد شعارات مثل ‘مجتمع الرفاهية’ ‘وشكل الديمقراطية'(حسب مواصفاتهم’) أو ‘علم السعادة’، أو ‘تشكيلات ‘العولمة’..إلخ، لم يعد كل ذلك قادرا أن يستمر يتردد كما هو هكذا بعد أن أسيء استعمال أغلبه، كما أفرغ الباقي من فحواه.
الأسئلة التي تثار الآن بشكل أكثر جدية وعمقا، (وهي أسئلة الأطفال والفلاسفة علي حد سواء) بعد وأثناء كل آلام الحروب وتضحيات السلام، هي أسئلة ملحة مهما تصورنا أننا نعرف إجاباتها. لا بد أن يعاد النظر فيها من خلال معطيات الأدوات والمعارف الجديدة. علينا جميعا أن نواجه تحديا يقول : هل يمكن، وسط كل هذا الجاري والذي سيجري، أن يظل الإنسان قادرا علي تحمل مسئولية ما أبدع عقله؟ على حسن استعمال ما صنعت يداه؟ لخدمة غاية وجوده كما خلقه الله؟ نحن نريد السلام لنساهم في المسيرة البشرية إبداعا وإنجازا ما دمنا نعتقد أن عندنا ما نضيفه مما سيكتملون، ونكتمل، به.
هل يمكن أن يكون تحقيق السلام الحقيقي هو الخطوة الأولي لإعادة النظر في علاقة الإنسان بالكون، وبالامتداد، وبالامتلاء، وبتاريخه الزاخر بالفشل والنجاح طول الوقت ؟
علينا ونحن نتجرع كل هذه الآلام، ونحلم بكل هذه الآمال أن نعمل لنكون بشرا أفضل بعد ما امتلك الإنسان من أدوات المعرفة والتواصل ما فاق كل خيالاته وأحلامه عبر تاريخه المؤلم الرائع معا.