جريدة التحرير
6-10-2012
تعتعة التحرير
“السـَّـكْـلرية” ضد القدسية، وليس العلمانية ضد الإسلام
كان ذلك منذ خمس عشرة عاما، حين طلب منى الأهرام ويكلى كلمة بالإنجليزية أبدى فيها رأيى فى مسألة العلمانية والإسلام، ونشرت بتاريخ 8- فبراير1996، وكنت قد تهربت بما استطعت لأننى لا أحب الإنجليزية ولا أكتب بها إلا الطب أحيانا، ولم يفلح الهرب، فاستخرت الله ورحت أكتب ما تيسر بما لا أحب، كان علىّ أن أرجع إلى أصل الكلمة بالانجليزية التى أعلم أنها ترجمت إلى العربية ترجمة غبية مضللة، قلت أتعرف على الكلمة من ضدها، فبضدها تتميز الأشياء، ووجدت أن ضدها فى لغتها الأصلية هو “المقدس” (secular = not sacred)،والتقديس هنا ليس بمعنى التنزيه والتأليه فقط، وإنما بمعنى الثبات وعدم المساس والتسكين أيضا، وبما أن الدين الإسلامى هو دين يدعو إلى الحركة والتغيير إلى ما هو خير الناس دائما أبدا، وإلى المباشرة الحسية، وإلى تأكيد العلاقة بالطبيعة، فهو “واقعىّ حضارىّ إبداعىّ حركىّ مرن”، كما أعرفه وأمارسه، فإننى انتبهت مجددا إلى هذا الجهل المطبق الذى يضع الإسلام وكأنه التقديس الجامد مقابل ما اسموه العلمانيه خطأً، حاولت أن أجد مقابلا لكلمة secular باللغة العربية يزيل هذا اللبس، فلم أجد، وزاد رفضى لاستعمال كلمة العلمانية خاصة وأنها تختلط بشكل ما “بالعلم” و”العالم”، وهكذا قررت أن أغامر بتعريبها مثلما أفضل لكثير من الكلمات الإنجليزية التى تفسد معناها إذا ما ترجمت، قلت: ماذا لو عربتها إلى “سكلرية” بدلا من هذه الترجمة المضلله: سكلريه مشتقة من الفعل: سكـْلـَرَ يـُسكلـِر: لتعنى: حرّكه بعيدا عن الجمود إلى مرونة بديعة متجددة !! أنا أعرف أن الخطأ الشائع يُفَضَّل عن الصحيح الغريب المهجور، لكن إذا كان هناك فى هذا الخطأ الشائع ما يخل بالمعنى، حتى تترتب عليه مواقف عبثية وتشنجية ضارة، فلا بد أن نغامر بقبول الغريب لتصحيح الوضع.
الإسلام ليس دينا ساكنا ولا متجمدا، وإلا ما صنع كل هذه الحضارة الحية عبر التاريخ، برغم أفولها مؤخرا، ولكن المتأمل فيما يجرى الآن سوف يُرَوَّع حين يجد أنه أصبح دينا موصى عليه من أبعد الناس عن حركيته وإبداعه حتى لو سَُموا مسلمين. ثم إنى قرأت فى الموسوعة البريطانية أنه قد نشأ مؤخرا ما يسمى بالمسيحية السكلرية، فتعجبت أن الآية انقلبت: الإسلام أصبح يرزح تحت كهنوت كنيسة القرون الوسطى، وبعض الكنيسة تحررت لتصبح أقرب إلى الإسلام الحقيقى، هذا وقد شاع مؤخرا -خصوصا بعد ما جرى فى تركيا- مصطلح العلمانية الإسلامية، فرأيت، برغم توقعى الاستغراب المبدئى أنه قد آن الأوان لتبنى مصطلح الإسلام السكلرى، أى المرن المتفتح المواكب للطبيعة المؤكد للمباشرة وخير الناس “هنا والآن”.
لكن إن جاز أن يقبل اقتراح أن يوصف الإسلام بأنه سكلرى، فماذا لو أننا اكتشفنا أن أحد الشهود الأجانب الشرفاء الذين اقروا بعظمة نبينا الكريم ووضعه على رأس قائمة المؤثرين فى العالم عبر التاريخ قد رأى أنه علمانى رائع أيضا؟ ذلك أنه وقعت بيدى مؤخرا النسخة الانجليزية لكتاب مايكل هـ. هارت Michael H. Hart وعنوانه “المائة: ترتيب أكثر الأشخاص المؤثرين عبر التاريخ،” هذه هى الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب بالإنجليزية الذى ورد هكذا: The 100 A Ranking of the Most Influential Persons in History، وقد ترجم العنوان المرحوم أنيس منصورللأسف إلى “الخالدون مائة: أعظمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلمً، وقد رأيت أنها ترجمة غير دقيقة، ولا أقول غير أمينة، وقد بدأ الفصل الأول وهو خاص بنبينا عليه السلام بقول المؤلف: “قد يندهش كثير من القراء من وضعى محمدا على رأس القائمة، لكنه الشخص الوحيد عبر التاريخ الذى نجح نجاحا منقطع النظير على المستوى الدينى والعلمانى (السكلرى) معا، (الترجمة حرفية لـ supremely successful on both the religious and secular levels) وقد ترجم أنيس منصور ذلك إلى أنه:- لا بد أن يدهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق فى ذلك، ولكن محمدا هو الإنسان الوحيد فى التاريخ الذى نجح نجاحا مطلقا على المستوى الدينى والدنيوى”، والفرق بين الترجمة إلى “المستوى الدينى والعلمانى”، وبين ترجمتها إلى “المستوى الدينى والدنيوى” فرق هام، لأن النص الذى استعمله المؤلف الإنجليزى يمكن أن يسمح أن يصف سيدنا رسول الله عليه السلام بأنه علمانى، وحسب الاقتراح الجديد: سكلرى، فى حين أن ترجمة المرحوم أنيس منصور تضع الدين فى مقابل الدنيا بما يكرس للاستقطاب المرفوض، فما يقابل الدنيا استقطابا هى الآخرة، وليس الدين، فالدين – أيضا – هو جزء لا يتجزأ من الدنيا.
لا أظن أن هذه مجرد فذلكة لغوية، لأننى حين هممت بكتابة هذا المقال، كنت أود عنونته بما يفيد أن نبينا عليه السلام كان علمانيا بشهادة هذا المؤلف الأمين، لكننى تراجعت نتيجة لما لحق بكلمة علمانية من سوء سمعة عند أغلب عامة الناس، حيث أصبحت كلمة علمانى، تجرى على لسان أغلب من ينتمون إلى ما يسمى التيار الإسلامى مرادفة لغير المتدين، وأحيانا للمتحرر، وأحيانا للمتحلل، ولا مانع من أن يصل الأمر إلى أن تصف ضمنا منكر الدين دون تمييز، ولم أستطع طبعا أن أصف نبينا عليه الصلاة والسلام بالسكلرة تجنبا لاستعمال كلمة علمانية خوفا من جهل آخر يتصور ما يشاء كما يشاء.
المهم، إن المسألة لن تحل باستعمال كلمة السكلرة بدلا من العلمانية، لكن لا بد أن نبرئ ديننا الحقيقى من تهمة التقديس والجمود، وأن نفخر بنبينا الكريم عليه الصلاة والسلام انه كان قائدا سياسيا وحربيا، بقدر ما كان هاديا للتى هى أقوم، وأنه استطاع أن ينجح فى تكوين هذه الدولة العظمى بنفس قدرته التى استطاع بها أن يهدى كل هؤلاء الناس إلى هذا الدين الحضارى القوى البديع، وأن الذين همشوا الدين حتى فى الخارج، خوفا على السكلرية، بالغوا فى المضى فى الاستقطاب إلى مدى أبعد من مجرد التخلص من تقديس سلطة دينية بشرية متجمدة تمثلت بشكل محدد فى سلطة الكنيسة فى القرون الوسطى فتمادوا حتى تخلصوا من الدين والايمان معا ليتركونا نهبَا لهذا الدين العولمى الجديد، نعبد الدولار، ونقدس اللات والعزى بالأسماء الحركية الجديدة: سورس والبنك الدولى.