نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 12-12-2020
السنة الرابعة عشر
العدد: 4851
الزمن والسياسة والموت! (1)
فى ملحمة حرافيش – نجيب محفوظ – كان الوعى بالموت هو حفز الحياة، وكان وهم الخلود فى هذه الحياة الدنيا (ممثلا فى جلال صاحب الجلالة) هو الموت نفسه. لست متأكدا إلى أى مدى يسمح الواحد منا، أو يستطيع، أن يستوعب ماهو “زمن” حقيقى إيجابا وسلبا. أحسب أن “محطة الموت”، وحدة الوعى بها كحقيقة لا جدال فيها، هى من أهم المعالم التى يمكن من خلالها أن نعرف أن ثَمّ زمنا يمضى، وأنه كما قال الشيخ درويش: فى خاتمة زقاق المدق (محفوظ أيضا). أليس لكل شئ نهاية، بلى لكل شئ نهاية ومعناها بالانجليزية “end وتهجيتها e n d”.
أستسمح القارئ أن يصحبنا قليلا بأكبر قدر من الخيال، لا، أكثر من أكبر قدر قليلا، لا، لا، أكثر كثيرا، لنقرأ معا هذه الأرقام: التقريبية، لكنها علمية: عمر الكون هو 9- 20 بليون سنة، وعمر الأرض: 4-6 بليون سنة، وعمر الحياة على الأرض 1-2 بليون سنة، وعمر الإنسان كما نعرفه هو 600 ألف سنة، أما جذور السلوك الطقسى الأشبه بالتدين فيرجع إلى 300 ألف سنة، ثم إن اللغة – كما نعرفها- لم تنشأ بداياتها إلا منذ 100 ألف سنة، فى حين أن عمر الأديان السماوية العظيمة هو أربعة آلاف سنة، أما عمر العلوم الحديثة فهو 200 سنة ، وعمر العلوم الأحدث جدا هو خمسون عاما لا أكثر.
هل ما زال القارئ بعد قراءة هذه الأرقام يتمتع بمثل نفس الغرور الذى كان يخفيه عن نفسه قبل أن يقرأها، وهل يمكن لمتدين فاضل، أو عالم جهبذ، أن يتعصب لما هو فيه جدا جدا وهو يراجع هذه الأرقام؟
أتصور- أو آمل- أن يستفيد من الوعى بهذه العلامات (وليس مجرد قراءتها، أو حتى حفظها) كل عالم ، وقائد، وحاكم، وفقيه، ويائس، ومتعجل، وعاشق، وثائر، وعادى!!
أقوال كثيرة، وحِكَمٌ عديدة، وأمثال عامية سائرة، ومغزى أحاديث شريفة، وإبداعات مخترقة، وأبيات شعر وأساطير خالدة، تشير جميعا إلى نفس ما يفيده الوعى بهذه المعلومات ، ومن ذلك كأمثلة: “يا مستكتر الزمن اكتر”، أو ” اصبر على جارك السو يا يرحل يا تجيله مصيبة تاخده” أو “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر” أو”يا ظالم لك يوم”أو ” الله – سبحانه – يمهل ولا يهمل …، وكذا “ولكم أقول غداً أتوب، غداً غداً والموت أقرب” … الخ
المتابع لحركة الشارع السياسى هذه الأيام، لا بد أن تصله رسالة تقول : إن ثمة حركة حقيقية، وأملا يلوح، وتغير محتمل، وتغيير وارد، لكن متعجل النتائج لا بد أن تساوره شكوك من احتمال الإجهاض تلقائيا أو بفعل فاعل، أو أن يئدوا المولودة (الحرية) قبل أن يشتد عودها، أو أن يتم تغيير الأسماء دون الأحوال، أو غير ذلك مما هو محبط ومؤلم. هذا المتعجل معه حق فى لهفته، لكنه ليس من حقه أن ينسى أن الزمن هو لصالح الخير والبشر والتطور والإبداع طوال التاريخ. صحيح أن أحياء كثيرة انقرضت (الأغلبية انقرضت، ولا أريد أن أذكر النسبة المئوية خوفا على روح التفاؤل فى هذا المقالة)، لكن صحيح أيضا أن من تبقى من أحياء – ومنها الكائن البشرى – يصارعون الشر، والهلاك وقوى الإبادة، والعمى طول الوقت، وأن الزمن فى صالحنا.
“فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” (الرعد:16)،
“وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ” (القصص: 5).
[1] – نشرت بالأهرام بتاريخ: 22-8-2005