نشرت فى الدستور
3-8-2005
الريح تفعل ما تشاء !!
(أضواء من أصداء محفوظ على ظاهرة الإرهاب)
الست كونداليزا رايس تتكلم عن “الفوضى الخلاقة”، يا ترى هل هى تعرفها؟ كيف تجرأت على استعمال هذا الاصطلاح الرائع، وهى تمسك بملعقة السلطة الذهبية ذات الأسنان المسمومة (الوعد والوعيد)، تقلِّب بها النظم الساكنة الحامضة، فتفوح منها رائحة طاردة، هذه ربكة غبية، وليست فوضى خلاقة.
الفوضى التى يمكن أن تكون خلاّقة (ويمكن أن تكون هلاكا سلبيا إذا لم نفهمها أو نتحمل مسئوليتها) هى مرحلة تلقائية على مسار النمو، وهى مرحلة تعلن تفكيك تركيب سكن حتى آل إلى خمود فاسد، هى مرحلة إعلان أنه “كفاية” ولا يتوقف عند ذلك بل يعيد تخليق الجديد من التناثر العشوائى.
بعد كل الذى حدث من الأقصر إلى نيويورك حتى شرم الشيخ وبالعكس، علينا أن نعيد النظر فى كل شئ يتعلق بالظاهرة الحالية المسماة “الإرهاب” وأيضا علينا أن نتوقف طويلا أمام طرق تعاملنا معها بالمؤتمرات والحشد الإعلامى والأغانى، والاجراءات الأمنية والتضامن العالمى الشكلى.
ليست المسألة إرهابا فى مقابل إغارات إبادية استباقية شاملة التدمير !! هى حرب عالمية تختلف عن الأولى والثانية فى كل شئ، حتى الردع المتبادل لم يعد كافيا لوقف هذه الحرب لأنها حرب بين ظالم مغرور أعمى، وظلام عشوائى عدمى متفجر، وهى حرب ليس لها قوانين، كما لا تبدو لها نهاية.
لعل نجيب محفوظ قد رأى مسبقا بحدسه فى أصداء السيرة الذاتية بعض معالم ما يجرى حين رسم (فقرة :54) عملاقا جبارا يسحق ضعيفا هزيلا فى وضح النهار، ليتوارى الناس فى برج الخوف، مهملين الدرويش الذى بدا أبلها حتى تفجر فى وعيه غضبا كمدا. فيختفى الدرويش من داخله ولا يبقى إلا الأبله وقد امتلا بالغضب والكمد، ومن ثم الانفجار العشوائى “…. كلما واتته فرصة قضى على رجل أو امرأة وهو يسبح الله”. هذا الحدس الإبداعى يشير إلى أن القهر الظالم، والاستهانة العامة التى تنفى الأضعف، هى وراء هذا التفجر العشوائى، برغم التسبيح.
يضيف محفوظ بعدا محليا جاء فى فقرة (37) وهو يشكل “…منظر كف الضابط العمياء وهى تهوى على خد أبيها العليل، وبقدر ما كانت تحب أباها وتقدسه، خاصمت كل شئ ونفسها والعالم”.
لكن لا القهر العام المعلن، ولا الإهانة المحلية الظالمة، تكفيان تبريرا للظاهرة التى أسموها الإرهاب، ذلك لأنها أصبحت أقرب إلى الفوضى الخطرة التى لا يمكن التنبؤ بطبيعتها أو توجهها لا بالتفسير ولا باالتبرير. إن الأهداف والأعداء والأسباب التى تتردد لتفسير الظاهرة هى من اللاتجانس بحيث يصعب جمعها جمعا سببيا جبريا غبيا، وبالتالى يستحيل التعامل معها من نفس المنطلق بنفس الطريقة فى كل مكان وزمان، علينا أن نتساءل ما الذى يجمع مصر مع إنجلترا، أو شرم الشيخ مع لندن، أو تركيا مع إسرائيل، أو مدرسة أطفال مع مركز شرطة، أو مسجدا مع سفارة؟ إن الإسراع بالتعميم وكأنها أصبحت ظاهرة عالمية واحدة تحتاج إلى معاملة واحدة، هو ليس أقل خطأ من الاختزال إلى أسباب ثأرية أو طائفية أو موقفية أو محلية أو نكوصية. لعل هذا الموقف الغامض الذى يقفز فيه سفك الدماء عشوائيا هو ما رسمه محفوظ أيضا فى فقرة (93) بعنوان “الريح تفعل ما تشاء” : ” ….. حملتنى ريح الغربة فوق السحاب صادعة بأمر المجهول. لم يكن فى نيتى ما أفعل، ولا فعلت ما كنت نويت. وانتفض رفيقى الرقيق من غفوته قائلا “غدا نسفك الدماء”، فقلت مشهدا الكون على استسلامى المطلق. “لتكن مشيئة الله”.
لم يقصد نجيب محفوظ أن سفك الدماء هو “مشيئة الله”، لكنه ينبه أن هذه المرحلة من الحيرة بها مؤشر ينبهنا إلى مسئوليتنا عن الاستسلام المطلق لما هو سلبى زاعمين أنها “مشيئة الله”.
إذا كنا لم نتبين تحديدا كيف نواجه هذه الفوضى المحيرة ، فلا أقل من نتوقف عن التخبط فيما لا طائل وراءه حين نستغرق فى التفسير التبرير والمهرجانات والمؤتمرات والأغانى (التى هى لسّهْ ممكنة) أو فى إصدار التصريحات الأمنية أو فى التعميم الاستسهالى.
علينا أن ننتبه إلى ما يجرى باعتباره النذير الأشمل الذى ينفخ فى الصور ليتجمع كل البشر لإنقاذ جنسهم من الانقراض. هى حرب أشمل من كل تصور: بين الظلم الأعمى والظلام العشوائى المتفجر، بين نيازك الطغيان الهابطة من آلهة زائفة، ونيازك الظلام النافرة من ظلم ساحق.
لا حل لهذه الفوضى إلا بإبداع يستوعبها ليلمها فى نقلة تطورية تبدأ بإرساء العدل فعلا وعموما (مثلا بإلغاء حق الفيتو) و بمحاكمة القتلة الرسميين الذين يقتلون الناس فى بيوتهم دون محاكمة فى إلى المحكمة الجنائية الدولية (دون فيتو أيضا) ! يفعل المجتمع الدولى ذلك جنبا إلى جنب مع محاكمة المتهيمن بالتفجير القاتل بنفس القانون.
هذه مجرد بداية يمكن أن يقتنع من خلالها الأطفال والشباب بإمكانية أن يكونوا بشرا وسط البشر، يحكمهم قانون واحد، فيحافظون على الحياة، حياتهم وحياتنا، لأنها تستأهل.