نشرت فى الدستور
17 – 5 – 2006
الذكاء والغباء فى السياسة والحكم !!
يحسب الناس وبعض المختصين أن النفسيين قد استقروا على تعريف للذكاء. هذا ليس صحيحا تماما برغم صحة بعضه. التعريف التقليدى للذكاء هو أنه “القدرة على كشف العلاقات الأساسية، بما فى ذلك التعلم من الخبرة السابقة، والتصرف ببعد نظر”، لكنه تعريف يحتاج إلى تحديد للمراد بالكلمات والتعبيرات التى وردت فيه مثل ماهية “العلاقات الإساسية” و “الخبرة السابقة” و “بعد النظر”. بلغت حيرة الناس والمختصين أن كادوا يقرون بشكل ما: أن الذكاء هو ما تقيسه اختبارات الذكاء، ودمتم، فردت عليهم آراء مختصين آخرين لهم موقفهم النقدى الأعمق مشككين فى ما تقيسه اختبارات الذكاء حتى أقروا فى النهاية: أن هذه الاختبارات لا تقيس إلا نتائجها. أدت هذه الحيرة إلى تصنيف أنواع من الذكاء تسمى القدرات الخاصة، فثم ذكاء لفظى، وذكاء حسابى، وذكاء تشكيلى ..إلخ، ليصبح مجموع كل ذلك هو الذكاء العام. لكن ذلك لم يكن كافيا، فراحوا مؤخرا يتوسعون فى وصف ذكاءات أخرى حسب المجال: الذكاء الاجتماعى، الذكاء العملى، وأخيرا الذكاء العاطفى. هذا الاختلاف قد يترتب عليه بعض المضاعفات فى حياة الأفراد ومستقبلهم، مضاعفات قابلة للتصحيح أو التعويض أو غير قابلة لذلك، لكن إذا تعلق الأمر بذكاء القادة والساسة والرؤساء والحكام أصبحت المسألة أصعب وأخطر من أن تُهمل أو تُسطَّح، خاصة إذا امتدت آثار الذكاء أو الغباء القرار السياسى، وما يترتب عليه، من حرب أوسلام، أوتربية، أوأخلاق، أوإبداع، أواقتصاد، فهل ثم ما يمكن أن يطلق عليه تعبير “الذكاء السياسى”؟
هذه ليست دعوة لإجراء اختبارات ذكاء، أو حتى اختبارات سلامة العقل أو الصحة النفسية للزعماء والساسة، كما اقترح بعض الزملاء فقد ذكرنا حالا كيف أن كل هذه الاختبارات مشكوك – علميا – فى ماذا تقيس تحديدا، كما أن تعريف الصحة النفسية الذى يحدد الحد الفاصل بين السليم والمريض هو تعريف أكثر إشكالا من تعريف الذكاء. إذن ما المقصود بهذه الإشارة عن الذكاء السياسى بوجه خاص؟ نبدأ بأمثلة من بعيد:
يشاع عن السيد الرئيس دبليو بوش أن ذكاءه “على قـدّه” (على قدر حالة). لسنا نحن الذين نشيع ذلك ولكن هذا رأى كثير من مواطنيه، بل والأكيد أنه رأى عامة الإنجليز والفرنسيين كما ظهر ويظهر فى الكاريكاتير والنكت والتعليقات منذ توليه الرئاسة. لتكن الحكاية فكاهة أو إشاعة أو حقدا أو غيرة ، لكن حين تتعدى المسألة إلى ما يؤثر فى قرارات مصيرية يترتب عليها قتل آلاف الأبرياء، واستغلال ثروات أمثالنا لحساب عمالقة التكاثر من الشركات العابرة ومافيا السلطة، بما يصاحب ذلك من قهر حرية الملايين وتزييف الوعى على مستوى العالم، حين يحدث ذلك تـتـعدى المسائل الإشكالة الأكاديمية ورسوم الكاريكاتير إلى الظلم العام والدمار الشامل وربما انقراض البشرية.
المفروض أن آلية الديموقراطية، متى أحسن استعمالها، قادرة على الحد من هذه المضاعفات بشكل ما. هذه الآلية تستطيع أن تحد من تمادى دفع الأمريكيين المزيد ثمنا لغباء السيد بوش المحتمل، خاصة لو ترتب عليه أن يقوده من حوله ممن هو أذكى منه إلى مصائب ودمار يفوق قدرة ذكائه على ارتكابه. حين يصل للناخبين هذا الإضرار ويتصاعد يوما بعد يوم، وقرارا بعد قرار، ثم فشلا بعد فشل من واقع التطيبق، من البديهى أن ينتبهوا إلى ذلك، ومن ثم يمكنهم فى الانتخابات التالية، إحالة سيادته معذورا أو ملعونا إلى الاستيداع، أما إذا أعادوا انتخابه وقد أصابهم ما أصابهم منه، فهم يصنفون أنفسهم فى درجة ذكائه السياسيى، ويتحملون نتيجة اختيارهم له المرة تلو المرة، وللأسف يتحمل العالم أيضا هذه النتيجة برغم أن العالم ليس له أصوات انتخابية أمريكية، لكن هذا هو بعض مضاعفات العولمة الأحادية القطب والعياذ بالله.
ليس معنى ذلك أن فائقى الذكاء من الحكام والرؤساء هم أصلح جدا، خصوصا إذا كانوا من أهل الحكم الشمولى، فكثير ممن يتصفون بذلك، مثل صدام حسين أو ستالين، قد يمارسون ذكاؤهم الفذ فى الحفاظ على مقاعدهم، وأحيانا فى ضربات سياسية صائبة فى بداية توليهم، لكنهم هم أنفسهم قد يقومون أثناء توليهم الحكم، وبرغم ذكائهم، بتصرفات شديدة الغباء إما أحيانا، وإما فى واقعة بذاتها أو أكثر (عادة أكثر).
أظن أن المساحة أنقذتنى من التورط فيما هو أكثر، والأمثلة عندنا على مستوى العالم العربى، خاصة فى الستة عقود الأخيرة متنوعة، وبلا حصر.
لست متأكدا إن كنت سوف أعود إليها فى العدد القادم أم لا، أعتقد أن هذا يتوقف على قدرتى على التغابى.
ليس الغبىّ بسيد فى قومه
لكن سيد قومه المتغابى.