الأهرام: 23/1/1976
الدين بالتكنولوجيا
الإنسان فى حاجة إلى الإيمان حتى يكتمل وجوده، والإنسان المعاصر أشد حاجة اليه من أى وقت مضى، وهذه الحقيقة بدأت تظهر بجلاء أثر ما انتهت اليه المدارس الإنسانية النفسية الحديثة وحين أقول الإيمان فأنا لا أعنى “عقيدة” معينة، فالعقيدة طريقة إلى الإيمان وليست بديلا عنه، وإلا لقبل إسلام الأعراب “ولما يدخل الإيمان فى قلوبهم”.
ولن أحاول الدخول فى التفاصيل فهى ليست من اختصاصى أولا، وهى ليست غايتى ثانيا، ولا يغرينى أن أفتح مجالا للصياح والتراشق يلهينا عن مصيبة اغترابنا، ولكنى أقول من واقع رؤيتى ومسئوليتى وبملء فى: إن المرض النفسى – بدعة العصر – فى عمق حقيقته: نقص فى اكتمال وجودنا، ومظهر لاغترابنا، وإعلان لما لحق فطرتنا من تشوبه، والدين: إذا أخذت قشوره وترك جوهره، وإذا لم يثر حياتنا ويسهم فى تكاملنا، فلابد من مراجعة وسائله لعلنا نعثر على سر فواتها وخلوها من نبضها ومن ثم عجزها عن تحقيق تكاملنا.
ولنتدارس – مثلا – ماذا فعل “المهاريشى” الذى أشرت إليه على هذه الصحه سابقا.
آمن صاحبنا – “المهاريشى” بالانسان وحقه فى التكامل المؤمن، ورأى صياغة نتيجة كفره وسطحيته واغترابه، واكتشف الداء وذهب يبحث عن الدواء بطريقة عصرية، لانه لابد قد اكتشف إنه لو دعا الناس إلى الرجوع إلى الدين فسيقابل بالرفض، أو السخرية، لأن خبرة الإنسان المعاصر – وخاصة فى العالم الغربى – مع الدين وقيوده وحدوده والطريقة السطحية فى تقديمه خبرة لا تشجع أحدا أن تكتمل عن طريقه، لذلك لجأ إلى الدخول اليه من باب الوسائل العلمية المتاحة حاليا مستعملا أحدث ما وصلت اليه التكنولوجيا فى وسائل القياس لوظائف الجسم المخ، وطرق باب عقله بعرض النتائج “المفيدة” لهذه الطريقة، فاذا ما اقتنع الشاهد بهذه النتائج دعاه الى “التأمل التجاوزى” نانيا بشدة أنه دين حتى لا ينفر الناس منه.
وحقيقة “التأمل التجاوزى” فى أبسط صورها – بعد أداء بعض الطقوس وأخذ الكلمة “المبروكة” هى أن يجلس الفرد فى هدوء، مع نفسه لمدة عشرين دقيقة، مرتين يوميا، مغمض العينين، مرددا ذلك اللفظ الذى لا معنى له فى صمت وهكذا يأخذ الواحد منا أجازة من فكره السطحى المتقلب، ومن حساباته الجشعة وبهذه الطريقة يحصل على السكينة والهدوء فى الداخل، وفى نفس الوقت يزداد وعيه وانتباهه فى الخارج.. ثم يزيد عمله وانتاجه وتتحسن علاقته بنفسه وبالناس.
ولان الناس فى عصرنا هذا يعيشون بالحساب الفورى’ للمكسب والخسارة ويريدون أن يعرفوا ما سيعود عليهم ‘مباشرة’ من هذه الساعة المقتطعة من اليوم، فأن المهاريشى أسس جامعة للبحث العلمى، وقام بدراسة مستغيضة لكل الوظائف الفسيولوجية التى تتحسن لدرجة أن نصفى المخ الكرويين يعملان فى تناسق وكان الواحد منهما يهمس للأخر فى محبة، وأثبت ذلك كله بالحاسب الالكترونى لتحليل رسام المخ الكهربائى، وكأنه يقول للانسان الغربى (التاجر الابله) بلغته “اعطنى ساعة من وقتك أيها المغترب الشقى الضائع أعطك قلبا أقوى ومخا أكثر تناسقا وتنفسا أعمق وعمرا أطول” وقد وضع لنفسه وجامعته وحوارييه خطة مبنية على أساس علمى حتى يحقق عددا من المتأملين يريو على 1% من سكان العالم، وبالتالى ينصلح بقية الـ 99% تلقائيا (!!) وقد استند فى ذلك الى قانون علمى فى خواص المادة إذ يقول هذا القانون ‘انه اذا انتظمت 1% من الجزئيات فى اتجاه ما – فى عملية المغنطة مثلا – انتظمت سائر الجزئيات فى نفس الاتجاه تلقائيا، وعلى هذا القياس فأنه حتى إذا انتظم جسم ومخ 1% من البشر ‘بالتأمل التجاوزي’ انتظمت حياة سائر البشر، الى هذه الدرجة وصل ايمانه بالقياس العلمى وفهمه لطبيعة ما وصل اليه عقل الانسان المعاصر المغرور السطحى، وقد أجرى احصائيات فى مجتمعات صغيرة (بعض القرى) أثبتت صدق هذه النظرية حيث هبطت فيها نسبة الجرائم، وزاد الانتاج، وطال معدل العمر.. الخ (!!) ولم يذكر للأسف أى سلبيات يمكن أن تترتب عن سوء استعمال هذا الطقس وانتظار الفرج من الاله التكنولوجى الحديث. ولنا أن نتساءل بعد هذا العرض السريع : ما معنى كل ذلك؟ وهل هناك جديد فى هذه الدعوة؟
س 1- وهل هذه التغيرات والتحسينات فى العقل والجسم مقصورة، على هذا التأمل التجاوزى؟ أم أنها نتيجة طبيعية التكامل البشرى أى للايمان الصادق؟
واذا كان المهاريشى فى محاولته اقناع الانسان الغربى بالرجوع الى الدين قد اضطر أن يبيعه ‘ايمانا عصريا’ باستعمال التكنولوجيا، والاحصاء والتلويح بالمكسب المباشر السريع، فهل هذا هو حالنا أيضا ونحن منبع الايمان ‘الاصلى’ منذ الاف السنين؟
والجواب على كل هذه الاسئلة عندى أنه اذا كان المهاريشى – أعانه الله وقواه قد اضطر الى احياء الايمان عند الانسان الغربى من باب سرى اسمه العلم والتكنولوجيا، فأننا أقرب الى الحقيقة المباشرة بين العبد وربه دون وساطة ولا رشاوي.
نحن – فى اعتقادى – على أبواب نهضة حضارية حقيقية، والحضارة تنشأ بعد أن يحصل الناس ذو الاصالة (وكل الناس ذو أصالة) على حاجاتهم الاساسية التى قد يلهيهم السعى اليها عن البحث فى عمق وجودهم ليتخطى كل منهم فرديته : مكانا – الى الناس – وزمانا – الى الخلود
كيف؟ ردى على ذلك أنه لا حضارة بلا ايمان، ولا انسان بلا تكامل، ولا تكامل بلا أمان اقتصادى راسخ، وعدل حقيقى وليس أمامنا الا التأليف – لا التلفيق – بين المتناقضات.. نحن أهل الحضارة. نحن قادرون على ذلك مهما بلغ الألم، وعظم الثمن.