“نشرة” الإنسان والتطور
23-1-2008
العدد: 145
الدوران حول الذات والاختفاء فى كهفها
الأحياء الأموات: ذلك الموت الآخر
برغم أننا مثلهم لم يستشرنا أحد، قبل أن نقدم إلى هذه الحياة، إن كنا نريدها أم لا، إلا أن الأحياء الأخرى تبلع الورطة، أو تفرح بها بطريقتها، وتقضيها أياما أو شهورا أوسنين، حتى تذهب، بعد أن تترك وراءها بعض خلفها متورطين فيما تورطت فيه.
ربما هم يحلونها بقوانين التطور التى لا نعرف إلا بعضها، وهم لا يخطرونا بشئ عنها قبل أن يرحلوا. !!
لماذا لا نفعل مثلهم، ونستعبط، ونتركها كما استلمناها دون تساؤل ربما ينشأ منا صنف أرقى، يستطيع أن يرد على تلك الأسئلة المعطِّلة عن الحياة، وربما يستغنى عنها تماما.
يبدو أن الأحياء، غير الإنسان، لا تطرح مثل هذه الأسئلة.
مِنْ هذه الأسئلة الأكثرها سخفا: لماذا نعيش؟ أو كيف السعادة؟ ما هو الحب؟ وما هو الموت؟!!.
تُرى أيها أفضل:
أن نكون مثلهم؟ فننقذ أنفسنا من إضاعة الوقت، ونرحم عقولنا ووجداننا من الإجابات السلبية أو السطحية؟
أم أن نحترم ما ابتلينا به من وعى وقدرات ونحمل الأمانة ونرى؟.
وبعد
إذا صح ما ذهبنا إليه من أن الأطفال يعرفون الموت الحقيقى بالمعنى الذى قدمناه فى يومية 5-1-2008 “الموت: ذلك الوعى الآخر” وهو ما يتفق مع بعض التنظير والأساطير والأديان، أن الموت وعى بين الوعيين، فماذا لو فتحنا أكثر ملف الموت عند الكبار؟
الكبار يتعاملون مع مفهوم “الموت” باعتباره مرادفا للفقد أو الاختفاء أو العدم وذلك بفكرهم التجريدى، وعقلهم المنطقى، وإجراءات الظاهر من غياب ودفن وذهاب بلا عودة،
فهل هذا هو كل ما عندهم؟
ألا يوجد مفهوم آخر لما هو “موت”، يمكن أن يقترب من مفهوم الأطفال من ناحية، ومن الحقيقة من ناحية أخرى؟
لا نريد أن ندخل، حتى مضطرين إلى وضع تعريف جامع مانع لما هو موت، حتى لا نقع فى اختلافات مضحكة مثل التى تدور بين الأطباء حول تعريف الموت الإكلينيكيى من الموت الكامل…الخ. ومع ذلك، فنقطة بداية لازمة هى أن نحاول أن نتعرف على عمق ما هو “موت” متجاوزين التعريف المفاهيمى السلوكى المنغلق.
يمكن أن نصنف بعض تشكيلات أو أنواع الموت إلى ما يلى:
- الموت السلوكى = العدم، الفقد، الاختفاء بلا رجعة ( ما يقره الكبار والسلطات)
- الموت الوعى بين الوعيين = اليقين الحاضر منذ الآن بلا تفاصيل وبلا رعب (ما يعرفه الأطفال مثلما علمنا أندرسون وغيره).
- الموت الجمود التوقف، اللاحركة، حتى ولو لبس ظاهر الحركة الزائفة وكأنه الحياة
- الموت السلوكى نحن نعرف آثاره ولا نعرفه.
- والموت الوعى بين الوعيين هو فرض لا يمكن حاليا التحقق منه، والله سبحانه أعلم به
- أما الموت الجمود (اللانمو – السير فى المحل – الدائرة المغلقة – الاغتراب المغلق) فبعض جوانبه هى التى سنتناولها هنا الآن:
سبع جنازات
بمراجعة الفصل الأول من ديوانى “أغوار النفس” وهو بعنوان “سبع جنازات” تبينتُ أنها جميعا قد تناولت الموت من النوع الثالث باعتبار أنه اغتراب شديد مستمر ثابت، حتى لو ظلت أنفاسنا تدخل وتخرج، وكأننا نحيا.
- هو جمود مستقر،
- هو رضا باهت،
- هو تكرار خادع،
- هو حركة فى المحل،
- هو إصرار على رفض أى تغيير فى أى اتجاه معلن أو خفى،
- هو الدوائر المغلقة بإحكام على نفسها،
وبالتالى يمكن أن نتعرف على الحياة الحقيقية على أنها هى عكس ذلك:
o هى كسر الاغتراب،
o وهى وإن لزم أن تسكن فى بعض أطوارها فهو سكون إلى حركة حتمية،
o وهى رضا يقظ فى حالة استعداد للمراجعة،
o وهى “حركة” حتى لو كانت إلى الخلف شريطة أن تكون لقفزة أمامية أوسع،
o وهى التغيير الكيفى يسبقه عادة تراكم كمى،
o وهى الدوائر المفتوحة النهاية.
هذا بعض ما تناوله نجيب محفوظ فى ملحمة الحرافيش، وما قدمه الكاتب نقدا فى دراستهLink قراءة فى نجيب محفوظ.
قراءة فى بعض مقتطفات الجنازات:
المقتطف الأول:
مرّّ الهَوَا صفَّرْ، سِمْعِنَا الّصُوْت كإن النَّعْش بِيْطلّع كَلاَمْ:
”لأْْ..، لسّهْ..، إسْكُتْ،.. لَمْ حَصَلْ،
سيِمَا .. ، ياتَاكْسِى، .. لسَّه كام ؟”
أىّ كلاما.
ألفاظْْ زينَهْ، مَسْكيَنهْْ،
بتزقْزَقْ، وتْصَوْصَوْ،
.. وِخَلاَصْ!!
من أهم علامات الموت حيًّا أن نتبادل ألفاظا كثيرة وهى تحمل معان قليلة، أو لا تحمل معنى إطلاقا، ليس معنى هذا أن هذا اللغط ليس له وظيفة، لكن أن يصل الأمر إلى أن تصبح الألفاظ زينة، فهى فعلا تصبح مسكينة، ونحن نصبح أمواتا.
حكاية أن العلاج النفسى هو “علاج بالكلام“، وأن “الواحد لازم يفضفض“، وأنه “يطلع إللى جواه” هى حكايات ينبغى أن تراجع علما وحياة وعلاجا.
هذا المفهوم للعلاج النفسى والتحليل النفسى هو مفهوم “مسلسلاتى” أكثر من أى شئ آخر، حتى أنه لم يعد علما أو حرفة، إلا فيما ندر، إما لسوء فهم ما هو التحليل النفسى، وإما بهدف البحث فحسب.
أحيانا، بل غالبا، ما يكون الكلام هكذا بطلاقة حرة عن الماضى، والعقد، والأسباب معطلا لما علينا أن نقوم به من مهام وعلاقات “هنا – و- الآن” نتجاوز بها ما كان، وما هو معطل لنا حالا. هذا ما يدل عليه المقطع التالى من مقدمة الجنازات الذى ينقد بشدة الشكل التقليدى للعلاج النفسى، والتحليل النفسى، كما شاع بين الناس، أكثر مما هو.
المقتطف الثانى:
واحدْ نايم مـِتْـصَلـْطَحْ، وعْنيه تتفرجْ:
على رسم السقفِِ وْعَلَى أفكارُو اللى بتلفْْ،
تْلِفْ،. تْلِفْ،
وكلامْْ فى كلامْْ .. هاتَكْ يا كَلاْم. يا حرامْْ!!
والتانىِ قاعِدْ لِى وَرَاه ، على كرسى مـدَهَّبْ.
قلبه الأبيض طيّب. وسَماعُهْ لَمْ يِتْـعيــِّبْ،
عمال بيفسَّرْ أحْلاَمْ
وصاحبنا يرص فْ أوهام،
وعُقـدْ، ومركَّب، و”المكتوب”
وقدَرْ”، وحكاوِى، وْوَصْفْ ذْنوب.
وأخينا شَفَايفُهْ قِفْل رْصاص،
وِوْدانُهْ يا خويا شريطْ حسَّاسْ.
يِسَمعْ حكاياتْ .. حكاياتْْ،
وتمرّ ساعاتْ وساعاتْْ،
(ما أَظنّشْْ أَيوبْْ ماتْ).
”إٍشى عدّى البحر ولا اتْبَلِّش”؟؟
”قالَّك: إٍلعجل فْ بطن امه”!!
أرْزَاقْ ..!
وخلايق لابْسَه الوِشّ زْوَاقْ.
هذا الوضع الذى ينتقده هذا المقطع ليس قاصرا على ما يسمى التحليل النفسى، أو العلاج النفسى بالكلام، لكنه يمكن أن يمتد إلى كثير من أشكال الاغتراب فى رص الكلام أثناء العلاج وغيره، وأيضا قد يسرى على محاولات التفسير والتأويل، حتى تصبح وظيفة كل هذا هو أن “يستمر الحال كما هو عليه“، فقط يخف التوتر المصاحب، بعد أن نعثر على التفسير، الذى قد لا يعدو أن يكون تبريرا لا تفسيرا. إن مفهوم الموت باعتباره اغترابا معطلا لحركة النمو يمكن أن ينطبق على كثير من هذه الممارسات.
ليس معنى ذلك أن البديل هو العقاقير، مع أنها عامل مساعد مهم جدا، أو العلاجات الفيزيقية عامة دون حساب، ذلك أن إعطاء العقاقير نفسه بدون حسبة الحركة والسكون (الموت والحياة) قد يؤدى إلى تكبيل نبض الدماغ (الإيقاع الحيوى للمخ) بإلغاء تبادل المستويات لحساب نوع من التسكين الأبشع الذى نلاحظه على كثير من المرضى الذين يتعاطون المثبطات الجسيمة طول الوقت، وأحيانا طول العمر. هذا النوع من الموت له ضده حين يصبح العلاج تحريكا مواكبا لنبض النمو، (وهو ما نتبناه هنا طول الوقت).
المقتطف الثالث: من ْشطّى لْشطِّى
(1)
الشط التانى الـْمِشْ بايِــــنْ:
كل مااقَرّب لُهْ، يتـاخِـرْ.
وِمراكبْ، وقلوع، وسفايــنْ،
والبحر الهــِوْ مالوش آخــــرْ.
(2)
لأ مِشْ لاعِبْ.
حاستنى لمّا اعرف نفسى، من جـوّه.
على شرط ما شوفشِى اللـِّى جــوَّهْ.
واذَا شفته لقيتـُـه مشْ هـُوٍّه،
لازِمْ يفضَلْ زىْ ما هُوَّهْ.
(3)
أنــا ماشى ”سريع” حوالين نفسى،
وباصبّح زىْ ما بامَسِّى،
وان كان لازم إنى أَعدّى:
رَاحَ اعدّى مِنْ شَطّىْ لـشَطِّىْ، هوَّا دَا شَرْطى.
(4)
ولحدّّ ما يهدَى الموج،
واشترى عوّامة واربطها على سارى الخوف،
ياللا نقول “ليهْْ”؟ و”ازاىْ؟”
”كان إمتَى”؟ “يا سَلاْمْ”! “يْبقَى انَا مَظْلومْ”.
شكر الله سعيك!!
حتم المخاطرة
هذه الصورة توضح شكلا أكثر تحديدا من الحركة فى المحل بدون قطع أية مسافة.
قد يهم الواحد منّا أن ينتقل مما هو عليه، أن يغير ما شعر أنه تعطيل وتكرار، هو قد يغامر فى سبيل ذلك بمحاولة النقلة إلى ما لا يعرف.
النمو الحقيقى (الحياة) لا يمكن أن نعرف تفاصيله مسبقا، مهما استعددنا له، إن أنتَ خطوتَ خطوة إلى ما تتصوره تطورا أو نموا، وأنت واثق مائة فى المائة من طبيعتها، ومآلها، وتفاصيل مراحلها، فأنت واهم، إذ ليس هناك فى النمو شىء كهذا.
الإيمان بالغيب الذى هو أساس فى الإيمان، يحمل مثل هذا التأكيد على أنه لا حركة إلا وفيها جزء مجهول تماما.
حتى تأخذ بمخاطرة النمو أنت تُبْحر دون أن تعرف مسبقا بشكل محدد : أين ومتى تستقر على الشاطئ الآخر، كل ما عليك هو أن تحذق فن الإبحار والمهارات الضرورية المصاحبة، مثل العوم مثلا.
قواعد النجاة التى تقولها المضيفة فى الطائره ولا يسمعها أحد، هى أقصى ما يمكن أن تتسلح به فى مخاطرة الإقلاع من مرحلة نمو إلى أخرى.
طالما الخريطة ليست بمقياس رسم ثابت، وأن الميناء القادمة تقع على مسافة متغيرة، فالإنسان الحى (الذى يقبل مغامرة الحياة النامية) يشعر دائما أن الحركة ليست قاصرة عليه، بل هى واردة أيضا فيما يتعلق بهدفه”.
الشط التانى الـْمِشْ بايِــــنْ: كل مااقَرّب لُهْ، يتـاخِـرْ”.
هذا فضلا عن مفاجآت غموض العلاقات المتشابكة مع آخرين يحاولون أو لا يحاولون بطريقة أو بأخرى. النهاية مفتوحة دائما”.
وِمراكبْ، وقلوع، وسفايــنْ،
والبحر الهــِوْ مالوش آخــــرْ.”
البديل الدائرى
حين يرعبنا الأهل من مخاطرة النمو، ثم يرعب كل منا نفسه من مخاطر المحاولة، إذ نتصور – بحق – حتم مراجعة كل شىء تقريبا، دون تأمين مطلق، يعدل أغلبنا عن الحركة، نتوقف.
مسموح أن نتوقف مؤقتا حتى نتجمع أحسن، ونستعد أكثر، لكن هذا الاستعداد قد يستغرق العمر كله، فيتثبّت الموجود بشكل مزمن حتى يتحجر، كثيرا ما ننهى المرضى عن الإفراط فى تعبير “أحاول، حاحاول، باحاول“، لأن مثل تلك الألفاظ تَعِدُ ولا تفى فى معظم الأحيان.
المحاولة التى لم تبدأ بخطى التجريب الواضح المرصودة خطوات إيقاعه، ليست سوى تأجيل مطلق.
الأخطر خداعا أن يكون المبرر لهذا التأجيل هو إشاعة “البحث عن الذات” بالاستبطان والتأمل فى الداخل، بمعنى أن يتصور أى منا أنه لا بد أن يعرف من هو حتى يقرر ماذا يريد، أو أنه لا بد أن يحقق ذاته حتى ينطلق منها، “وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال معرفة معالم نفسه ظاهرا، وباطنا. هذه كلها إشاعات معطلة، لا أحد يعرف نفسه كما يتصور، طالما نحن ننام ونحلم، فسيظل أغلب جبل الجليد تحت سطح البحر، لكن ذلك لا يمنع البخر والسحاب والرى أن يغمروا الدنيا من خلال حركية النمو المغامر.
هذا الزعم “أعرف نفسى من جوه، يصبح أكثر خداعا حين تكون تلك المعرفة هى أقرب إلى التغطية، بمعنى أنه فى كثير من الأحيان، نحن نعرف، أو نتصور أننا نعرف، ما ليس نحن، أى أننا نعرف الممكن الذى فى المتناول، والذى هو ليس بالضرورة حقيقة الداخل، وكثير منا يطمئن إلى ما تصوره نفسه، لانها ليست كذلك، بل إنه – من فرط إرعاب المحاولة، والإغراء بإجهاضها- قد يعدل عن المحاولة إلى أن يتصور أنه مطمئن إلى أساليب الخداع تلك”
لأ مِشْ لاعِبْ.
حاستنى لمّا اعرف نفسى، من جـوّه.
على شرط ما شوفشِى اللـِّى جــوَّهْ.”
إن كان الأمر كذلك، أنه مستعدَّ أن يرى على شرط ألا يرى، فماذا لو خابت حسبته ورأى بعض حقيقته.
فى أحيان كثيرة تحل الرؤية محل الحركة.
كثيرون ممن يتعرضون للتحليل النفسى، أو يقومون به يستبدلون بحركية النمو، نوعا من اللفظنة والتفسيرات المعقلنة، وكأن التفسير والتأويل أو ما يسمونه “فك العقد” هو غاية المراد من هذه العملية. يحدث مثل ذلك فى الحياة العامة أيضا، حين يصبح اكتشاف السبب هو لتثبيت ما كان، وليس لتغييره، حيث لا يكون التغيير هو المطروح، وإنما التبرير، بل إن المقاومة كثيرا ما تبدأ بعد “معرفة ما ينبغى أن يتغير فى نفسى”، وكأن المحصلة فى النهاية هو تأكيد الجمود، لا تحريك الثابت”
واذَا شفته لقيتـُـه مشْ هـُوٍّه،
لازِمْ يفضَلْ زىْ ما هُوَّهْ.
أجد من الضرورى أن اذكر القارئ أن هذا التصوير من الداخل، وعلى لسان داخل الداخل، عادة يبدو متناقضا مع الظاهر، فهو ليس إلا تقمصاَ لأعماق حقيقة ما يجرى فى الأعماق، وكل منا – تقريبا دون استثناء- يجد نفسه جاهزا لنفى أى من ذلك، ولكن لا مانع عنده من أن يقره ويتقبله إذا ما تصوره وصفا لأحد سواه!!!
إذا ما حدث مثل ذلك فالتقطه خبير فاهم محب، سواء كان معالجا أو طبيبا أو مربيا أو أيا من كان، فقد يبادر بتقديم العون بَطْمَأَنةِ من يعيش كل هذا الخوف والتردد والإصرار على الثبات على الموجود، برغم مظاهر ظاهر المحاولة، لكن مثل هذه الطمأنة تبدو غير كافية، وقد يتمادى اختبارها بفرض شروط عدم المعاناة، وعدم المخاطرة، بل وأحيانا خدعة التغير دون تغير، ومع ذلك تظل الحركة وكأنها نشطة ومستمرة، لكنها فى واقع الحال حركة فى المحل، او بتصوير شائع مثل الكلب الذى يحاول أن يعض ذيله، مع التأكيد بأن تكون الغاية هى هى نقطة البداية “.
أنــا ماشى ”سريع” حوالين نفسى،
وباصبّح زىْ ما بامَسِّى،
وان كان لازم إنى أَعدّى:
رَاحَ اعدّى مِنْ شَطّىْ لـشَطِّىْ،
هوَّا دَا شَرْطى.
ما معنى ذلك؟ خاصة إذا علمنا أن هذا هو موقف أغلبنا فى نهاية النهاية؟ هل نحن نفضل أن نخدع أنفسنا إلى هذه الدرجة؟
لا بد من توضيح أن الصورة فيها بعض التكبير حتى تتضح المسألة، وأننا بهذه التعرية لا نرفض السير فى المحل، أو تكرار الدوران فى نفس الدائرة، لأن مسار التطور والنمو لا يتطلب المخاطرة المستمرة طول الوقت،
قانون الإيقاع الحيوى يحتم التراوح بين طورين متبادلين طول الوقت، الاستعداد، فالانطلاق، أو بألفاظ أخرى الامتلاء ثم البسط، وهو هو ما يقابل نبض القلب يتم فى كل نبضه ملء حجراته بالدم، ليجد الانقباض ما يدفعه حين يحل دوره.
إذن فهذه التعرية ليست حفزاً للإسراع بحتم التغيير ، وإنما هى تنبيه ضرورى لوقف الخداع بزعم التغيير والتغير. حتى لو ظلت الحركة فى المحل، وتواتر الدوران حول نفس المحور، فإن المطلب هو أن يكون ذلك تمهيدا لنقلة التغيير فى الوقت المناسب، الذى لا نعرفه تحديدا، ومن ثم حتم المخاطرة.
التأجيل التأجيل هو التسكين الدائم
حين تصل مقاومة التغيير – تغير الذات، يعنى استمرارية مسيرة النمو- إلى أقصاها، يصبح التأجيل شديد العنف، ويتقدم مبدأ “السلامة أولا” على كل الاعتبارات، يصحب ذلك بداهة المبالغة فى الخوف من كل شىء، لأن الذى تعرفه أحسن من الذى لا تعرفه، ولأن ما ولدنا عليه واعتقدناه أنه هو السليم حيث “هكذا وجدنا آباءنا“، حتى اختلافنا مع الجيل السابق يصبح شكليا، فتقوم المعارك، وتحتد المناقشات، بل والمصادمات، لتثبت الأيام أن المسألة هى وجهان لنفس العملة ولحدّّ ما يهدَى الموج، هذا ما تشير إليه الفقرة الأخيرة من الصورة المقدمة.
إن المبالغة فى ضرورة الحصول على ضمانات مسبقة حتى أسمح لنفسى بالتغير هى ضد التغير مهما كانت تبدوا نوعا من الحرص لتجنب المخاطر التى هى حقيقية من حيث احتمال عدم إكمال تجربة التغيير إلى ما هو أفضل وأقدر، فتجهض المحاولة دون إمكان الرجوع حتى إلى شط الإقلاع، وأيضا احتمال التراجع عن استكمال رحلة النمو، مع عدم التمكن من العودة إلى ما سبق.
“عايز أرجع زى ما كنت“، هذا التعبير الذى يردده كثير من المرضى والعاديين والأهل، وهو تعبير لهم الحق فى ترديده، لكنه يحمل ضمنا وقف حركية النمو أصلا.
لا أحد يعترف أنه توقف عن المحاولة، وبالتالى أى منا يملأ وقته بخداع البحث عن الأسباب كلاما، وتبريرا.
عادة ما يكون هذا التبرير منتهيا إلى أن ينعى كل منا حظه، ويضع اللوم على الناس والظروف، وهات يا نعابة نتبادلها طول الوقت، ودمتم.
“ولحد ما يهدى الموج،
واشترى عوّامة واربطها على سارى الخوف،
ياللا نقول “ليهْْ”؟
و”ازاىْ؟”
“كان إمتَى”؟
“يا سَلاْمْ”!
“يْبقَى انَا مَظْلومْ”!!
شكر الله سعيك.