نشرت فى الاهرام
9-1-2006
.. الخوف من إعاقة السعى إليه.
الخطر الحالى الذى يشغل من يخاف على إنسانية ناسه، وهو ينهى البشر عن قهر بعضهم، كما يشغل من يخاف لقاء ربه، وهو ينهى النفس عن الهوى، هو أن نسلم أمرنا لنظام يعوق حركيّة السعى إلى الحق سبحانه وتعالى، لا فرق بين أن تأتى هذه الإعاقة من داخله أو من خارجه. المطلوب هو تأمين حقيقى ضد التدخل فى مسيرة وحركية البشر كما خلقها الله، وهو أمر قد يكون ميسورا ونحن نعارض قانون الطوارئ أو سلطة الرقابة الصادرة من حكومة مرجعيتها القوانين التى وضعتها، لكن الأمر يختلف إذا كانت المرجعية لمفسرين احتكروا فهم الإنسان بتفسير النص الإلهى فى حدود قدرات عقولهم المحدودة أو المغلقة أو المتوقفة عن الإبداع والاجتهاد.
…. انتهى المقال الماضى بتساؤل يقول” .. هل الإيمان طاقة؟ أم فطرة؟ أم سعى كيانى إبداعى؟ أم بند فى برنامج نائب إخوانى..إلخ؟ وهل هو مرادف للدين؟ أم للإسلام؟ أم للإخوان؟ “.
الإيمان يفيد امتلاء الوعى سعيا إلى الله عز وجل “عبر كياننا-إليه” بلا حدود .الإيمان ليس مرادفا للدين (آية: “قالت الأعراب آمنا ..)، كما أنه ليس معتقدا فكريا نصل إليه بالمنطق والبرهان العقلى الخالص. المتابع لتواضع تراجع دور العقل فى المعرفة (العلم المعرفى) لا بد أن يخجل وهو يفخر بأن دينه هو “دين العقل”، لأنه بذلك يختزله (نفس الحكاية بالنسبة للتفسير العلمى للوحى الإلهى..إلخ). الإيمان هو عملية معرفية إبداعية مشتملة يساعدها (ولا يحل محلها) معتقد متسق، وعبادات نقية، بلا وصاية سلطوية ملاحقة. هو حركية توجه فطرة الله إلى أصلها، بالتسبيح والإبداع وكل شىء، يختلف تسبيح الإنسان لربه عن تسبيح الجبال والطير والنبات، الإنسان يفعلها بوعى نسبى وإرادة فاعلة، ومن ثـَمّ مسؤولية محددة. قمة الرحمة لتأكيد هذه الوصلة بين وعى البشر والملإ الأعلى هو ما أنزله الله تعالى على الرسل عليهم السلام من وحى اختلف باختلاف الموقع الجغرافى والتاريخى لكل دين. حتى قرر سبحانه أن يكون الإسلام خاتم هذه الرحمة بهذا التنزيل المباشر، لا ليتوقف الإبداع الكدح نحو وجهه تعالى، لكن – كما يقول شاعر الإسلام وفيلسوفه محمد إقبال – ليتحمل كل إنسان (وليس فقط كل مسلم) مسئولية مواصلة سعيه إلى الحق تعالى عبادة واستلهاما وإبداعا.
من هذا المنطلق يصبح استغلال بعض الساسة لهذه الطبيعة البشرية (التهمة التى توجه للإخوان)، أو استبعاد ساسة آخرون لهذه الطبيعة البشرية (التهمة التى توجه للعلمانين) هو من قبيل سوء الاستعمال أو التشويه أو التقزيم أو الانحراف بمسيرة الإبداع الواعد بالتطور البشرى المفتوح النهاية.
المسألة إذن ليست فى المقارنة بين نماذج الإسلام السياسى التركى، أو النميرى، أو السعودى، أو الأفغانستانى، المسألة هى فى ترجيح النظام الذى يحافظ على إطلاق حركية فطرة الإنسان إلى مداها، إلى خالقها، نظام يحترم الدين الرسمى، لكنه لا يخضع لفتاوى الأوصياء عليه، كما يستلهم الدين الشعبى والدين الثقافى والدين التصوفى، حتى يوفر أكبر مساحة لحركية الإبداع/الإيمان.
النظام (أى نظام) الذى نحتاج إليه هو الذى يلتزم أن تكون مرجعيته هى مواصلة السعى إلى الحق تعالى باستلهام كل المتاح إبداعا، جنبا إلى جنب مع استلهام النصوص المقدسة بنفس الجهاد الأكبر، تلك النصوص التى أنارت وعى الناس عبر التاريخ.
هذا هو النظام الذى يمكن أن يتطور به الإنسان ليتحقق فى رحاب الحق تعالى إلى ما لا نعرف من غيب واعد. أما النظام الذى يجعل مرجعيته سلطة دينية من خارجه، تسمح لنفسها بوضع حدود لحركية الإيمان الإبداع، فهذا هو الخطر كل الخطر.
“إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين”.