نبذة: تناول متجدد لمشكلة الكم والكيف فى التربية والتعليم، وضرورة التدريب على انتقاء المعلومة المطلوبة والمناسبة، بدلا من الفرصة بالاغراق (حتى الفيضان والغرق بكم معلومات متزاحمة لا جدوى منها.
الأهرام: 22-9-2003
الحياة قصيرة، والفرصة هرابة
”الحياة قصيرة، والفن طويل ، والفرصة هرابة، والخبرة تحتمل الصواب والخطأ.، والحكم على الأمور صعب .”
هذا المقتطف هو من “أبوقراط’ (أبو الطب كما يقال)، وهو الكلمة التى صدر بها أستاذنا المرحوم “بول غليونجي’ أستاذ الأمراض الباطنية مؤلفه الجميل عن”الغدد الصماء’. لا أذكر متى قرأت هذا الكتاب الصغير: فى أوائل الخمسينيات وأنا بعد طالب طب، أو أواخرها وأنا أدرس الدراسات العليا فى الأمراض الباطنة؟ أثرت فى كلمة الكتاب هذه بقدر ما أفادتنى مادته العلمية المكتوبة بلغة أقرب إلى الشعر. بل ربما استفدت منها أكثر، حيث ظلت عالقة بذاكرتى، مؤثرة فى وعيى، وربما منظمة وقتى، طوال نصف قرن.
عدم التناسب بين قصر الحياة (ضيق الوقت) وبين ما يريد أى طالب معرفه أن ينهله ليستوعبه أو يضيف من خلاله، أصبح إشكالة عصرية متفاقمة. تتضاعف المعلومات المتاحة كل بضعة سنوات، ويقال إن هذا التسارع الأسى سوف يجعلها تتضاعف كل بضعة ساعات (يجوز!!). إذن ماذا؟
هناك نظرية فى تفسير بعض أعراض مرض الفصام تقو`ل إن الخطأ الجوهرى فى هذا المرض هو أن المخ البشرى يعجز عن انتقاء المعلومات المدخلة المناسبة نتيجة لتزاحمها مع غيرها على مداخل الإدراك، فتكون النتيجة أن تتوقف أولى خطوات عملية “اعتمال المعلومات’ Processing Information ثم تتمادى الأعراض. يقال عن هذا التزاحم “توتد’ المعلومات وهو ما يعجز الفصامى عن انتقاء ما يحتاجه تحديدا ليضعه فى بؤرة الاعتمال فى لحظة بذاتها، نتيجة لهذا التوتد (من الوتد) تنحشر المعلومات معا فتتوقف الحركة، ثم يتشقق الجمود إلى التفسخ فالتدهور. تماما مثلما يغيب شرطى المرور حيث لا إشارات فى مفترق طرق ميدان ما، فتتقدم كل السيارات معا فتتوقف الحركة فى الميدان أولا، لتعم الفوضى، فالحوادث، فالضحايا.
بل إن نظرية أخرى، على أساس عضوى عصبى أكثر، تفسر مرض الفصام بالعجز عن تشذيب كثافة غابة المشتبكات العصبية أثناء المراهقة بوجه خاص، يؤكد فاينبرج (صاحب هذا الفرض) أن كفاءة عمل الدماغ تحتاج إلى عدد أقل فأقل من هذه المشتبلكات العصبية، باعتبار أن مبدأ “الأقل أكثر كفاءة’ هو صالح لتفسير كفاءة التفكير السليم، والعكس يحدث فى الفصام، أى: “الأكثر أشد فوضي’.
هذا المعنى صوره الشاعر العربى عن صائد الظباء “خراش’ وهو يقول “تكاثرت الظباء على خراش، فما يدرى خراش مايصيب’.
لا تقاس كفاءة التعليم بكم المعلومات المدخلة، لكن بالتدريب على حسن الاختيار. لقد أنقذت التقنية الحديثة مساحة كبيرة من المخ البشرى كانت تستعمل كمخزن للمعلومات. ترتب على ذلك إمكانية أن يتفرغ هذا المخ -أكثر نسبيا- للتعامل مع المتاح من مخازن المعلومات خارجه، وبالتالى فهو إن لم يتدرب على الدخول والخروج إلى تلك المخازن التى أتاحتها له التقنيات الحديثة بما يحفظ عليه حريته، وطزاجته، وقدرته الإبداعية، فهو عرضة أن يصبح مجرد معبر لما يلقى إليه مصادفة، هذا إذا نجا من أن يقع فى نفس مأزق التزاحم الـمشل فالتوتد.
منذ أبوقراط وقبله حتى الأن وغدا، والحياة قصيرة، والوقت محدود، والمخ البشرى نعمة رائعة لا يصح أن تكون مخزنا سلبيا أو معبرا محايدا. لم يعد مطروحا أن نقلل من سرعة أو جرعة فيضان المعلومات، لا نملك إلا التدريب على حسن الاختيار، وحذق”الإثراء بالترك’، بدلا من “الإفقار بالحشر’.