الوفد: 10/9/2001
الحل الفردى مضرّ جدا “بالسياسة“!
لم تصدُق مقولة نزار قبّانى” متى يعلنون وفاة العرب” مثلما تردد أنها تصدق اليوم، وقد رفضتُها فى حينها،رحت أحتج أنه ليس من حق أحد أن يعاير ذويه بما اشترك هو فى صنعه، وأنه “لا يحمل نعشَ الميّت قاتلُـه”. نحن نحتاج الآن لإعلان أخر أكثر قسوة ومسئولية، إعلان يقول “متى يعلنون وفاة الضمير البشرى”؟
مصر فجر الضمير
ولد الضمير الإنسانى على هذه الأرض المصرية التليدة المجيدة، (هنرى بريستد) ثم إنه يبدو أننا على وشك إعلان وفاته على تلك الأرض البعيدة الغريبة، المسماة أمريكا. إننا بعد فضائح الفيتو فى مجلس الأمن، ثم الانسحاب من مؤتمر دربان، مع التصريحات والتحيزات والفجور التى تمارسها أمريكا وهى تتحدى العالم فى مسألة تلوث البيئة وبرنامج الصواريخ، لا يمكن إلا أن نستشعر احتضار الضمير البشرى .
فى مقالاتى السابقة القريبة على هذه الصفحة، رحت أكرر بكل جهل وجرأة، وضد كل حسابات الواقع ، أننى وقارئى هذه الصفحة، مسئولون عمّا يجرى فى فلسطين، وأن علينا أن نغيّره بقلوبنا، بأن نبدأ بتغيير أنفسنا، وكلام من هذا، كنت أعرف أننى قد أبدو مروجا لهروب خفى، أو تأجيل خطر. تأجيل ماذا ؟ تأجيل الحرب ؟ أين هى ؟ تأجيل ماذا بالله عليكم ؟ ماذا ينتظر المواطن منا حتى نزعم أنه يؤجله ؟
إننا كنا نؤجل الحرب، ونؤجل السلام حتى وصلنا إلى تأجيل حياتنا أصلا وتماما. وحين أقدم واحد منّا بتضحية شخصية وحدس مخترق على عدم التأجيل (السادات) اتهمناه بالخيانة. إن كل مصرى منتم إلي مصريته وإنسانيته لم يقبل السلام باعتباره نصرا مؤزرا، ولكنه قبله باعتباره واقعا مرّا، وتحديا يمكن أن يثبت من خلاله إن كنا جادين فى التعامل مع الحياة أم لا ، إن كنا أهلا لتاريخنا أم لا. نجيب محفوظ لم يؤيد السلام بالمعنى الذى شاع عنه، لكنّه كان ، ومازال، يؤيد البداية فورا ، عميقا، وتماما، البداية الجادة التى يمكن أن نعرف من خلالها من نحن، وهل نحن أهل لما ندّعى أم لا. فى أهرام 2 سبتمر الجارى كتب فى نفس المعنى أ.د. حازم حسنى يقول ” …معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل قد تضع على تحركاتنا قيودا عسكرية وسياسية وإدارية، ……. لكن المعاهدة لم تضع على الحضارة قيوداً، ولا هى وضعت هذه القيود على حقنا فى إدراك الخطر، ولا على حقنا فى امتلاك أدوات التصدى الحضارى له، فليس فيها ما يفرض علينا حظرا على التنقيب عن الحقائق، ولا هى فيها ما يلزمنا بعدم بناء منظومة حضارية ..إلخ “
هذا بالضبط هو المنطلق الذى أشرت من خلاله إلى ضرورة تحمل مسئولية الحياة فردا فردا. إن ما يجرى الآن على أرض فسطين قد تكون فائدته القصوى هى إعلان مدى حاجتنا إلى مواجهة الحقائق بما فى ذلك ما وصلنا إليه من قعود وتخلّف، فى نفس الوقت هو نذير خطير لما يمكن أن يكون قد وصلت إليه قوى الغطرسة وعبثية الظلم.
لكن هل يكفى أن يواصل نجيب محفوظ، وهو فى التسعين من عمره أطاله الله لنا جدا، كتابة أحلام فترة النقاهة، ناقدا لاذعا، موقظا متألما، يفعل ذلك بربع ربع كل أدوات الحس والمهارة اليدوية اللازمة لمثل ذلك، هل يكفى أن يذكرنا د. حازم بمقولة طه حسين أن اليأس من الوطن يهدر الكرامة واليأس من أنفسنا يسقط الهمة ؟ هل يمكن أن تكفى صرختى فى الباحثين تحت إشرافى أن يحوِّلوا مجرى نشاط عقولهم من البحث للنشر والترقى، إلى البحث للحق والحضارة والإنتاج ؟ هل يكفى أيا من ذلك ومثله ليرد على ما يُفعل بنا، أو يوقِفُ ما يراد بنا ؟ كيف بالله عليكم؟ بالله علىَّ؟
لا يكفى التحذير
نبّهت بإلحاح شديد بأنى أعرف قصور وعجز هذا الحل الفردى، لكنه كان تنبيها أشبه بتنبيه وزارة الصحة بأن “التدخين مضر جدا بالصحة”. حاولت أن أروج للحل الفردى والمسئولية الفردية بتذكرة القارئ أن اعتذاره بخيبة الدولة وفشل مؤتمر القمة لن تغفر له مسئوليته أمام الحق تعالى حيث “كلكم آتيه يوم القيامة فردا”. لكن يبدو أن الشائع حول هذا المستوى من الخطاب قد اغترب واختُزل حتى اختص بالحلال والحرام. دون الاقتراب من مسئوليتنا عن دم شاب فى الرابعة عشرة من عمره قرر أن يمنح حياته فداء لكرامة أهلهم وأرضه. إن هذا الخطاب الذى أحاول أن أنفذ من خلاله إلى وعى الناس، ليس خطابا دينيا بالمعنى التقليدى، بقدر ما هو استلهام لوظيفة الدين فى الحفاظ على كرامة البشر، وإرساء العدل. حين نقف أمام الحق سبحانه وتعالى، بدءا من الآن، ثم فيما بعد، ويُسأل كل واحد منا على حدة : ماذا فعلت أنت شخصيا يوم شاهدت هذا الشاب وقد تمزقت أشلاؤه لكنه لم يسلم الروح بعد، وزملاؤه يحملونه على محفة الإسعاف، فبماذا سوف نجيبه فردا فردا ؟
حتى أتجاوز مجرد التنبيه بأن “الحل الفردى مضر جدا بالسياسة” سوف أحاول الآن أن أقدّم بعض سلبيات هذا الحل، وكيف أنه مسئول جزئىا عن عدم الانتماء الذى نعيشه، ومن ثم عن تَشَرْذُم الوطن حتى التناثر . نضرب بعض الأمثلة :
مثال (1) حلول التعليم الذاتية
يصلك أن التعليم الرسمى تافه ومعطّل، وأن الحكومة تتخبط فى هذا المجال، وأنها تعلن غير ما يجرى، وأنها تقدم مقررات بالكوم فى المراحل الأولى للتعليم، ثم تغمر الطلبة بدرجات بالكوم فى الشهادات العامّة، بعد أن تقسم بأغلظ الأيمان قبيل كل امتحان عام “أن الامتحانات ستأتى سهلة جدا جدا، وأن الشعب سيكون راض عن الحكومة التعليمية جدا جدا، وأن المسئول سيثبت للناس وللمسئول الأكبر أنه “كويس جدا جدا”، وبالتالى فهو باق جدا جدا، مع أن البقاء لله وحده.. يبلغك كل هذا وأنت تحاول أن تحمل أمانة مستقبل ابنك، ولا تجد لإصلاح ذلك من سبيل. هنا تبرز الحلول الذاتية ليفلت كل قادر بأبنائه إلى المدارس الخاصة، ثم إلى المدارس ذات البرامج الدولية، والمعترف بشهاداتها فى كل أنحاء العالم، ثم إلى الجامعة الأمريكية، يحدث ذلك وهو يشفق ، أو لا يشفق، على من عجز ماديا أن يحذو حذوه.
مهما سمع هذا الطالب “الدولى”من أغانٍ فى حب مصر، أو حفظ دروس التربية القومية والتاريخ المشوه؟ هل يستطيع أن يشعر أنه مصرى الجنسية فعلا؟ سوف يجد هذا الطالب القادر فرصة هنا أو هناك بعد تخرجه، فى مقابل عشرات الآلاف من غير القادرين ممن تخرج فى التعليم الحكومى أجهل مما دخله، أجهل بالعلوم وبالمهارات وحتى ببلده مصر التى لم يعرفها، فهو لم يعط الفرصة أن ينتمى إليها (ممنوع على الطلبة الاشتغال بالسياسة!!). يجد هؤلاء الخريجيين العاديين الفقراء أن بلدهم هى “ناصية شارعهم” لا أكثر، يتسكعون عليها انتظارا لادعاء الحكومة توظيفهم، أو لسماسرة التهجير المؤقت للعمل المذِلّ فى الخليج.
كيف يستقبل هذا الشاب أو ذاك كلامى أو كلام د. حازم أو كتابات نجيب محفوظ ونحن ندعو للتمسك بالحل الحضارى، ونحن ندعوه أن يقبل التحدى الحضارى ؟ إلخ
مثال (2) بدائل هيبة الدولة
أنت تكتشف ليل نهار اهتزاز هيبة الدولة، وأن المؤسسة الحاكمة انهارت أو كادت، وأن الدولة نفسها تخرق القوانين من ناحية، وتضرب مثلا لعدم تنفيذ الأحكام من ناحية أخرى. فماذا تفعل سيادتكم أو سيادتى؟ نلجأ ، بوعى أو بنصف وعى إلى ما يسمّى الحل الفردى الذى لخّصته اللغة الجديدة بإيجاز شديد فى قوانين موازية موجزة بدءا من ” مشى حالك، إلى كبّر مخك، مرورا بـ أبّجنى تجدنى”. وتتمادى الأمور فى محاولة تعويض اختفاء هيبة الدولة بالحلول الفردية باللجوء إلى استئجار حراس خصوصيين للمصريين وغير المصريين، ثم بدائل أخرى لمجموعات أكبر مثل التنظيمات واللوائح الخاصة داخل التجمعات السكانية الخاصة جدا بعيدا عن قوانين الدولة، وتجاوزا لها أحيانا ..إلخ.
إن ما يترتب على هذه الحلول الفردية لا يقتصر على الانفصال عن الدولة أو الاستهتار بالقوانين العامة، لكنّه يمتد إلى تشويه نشأة وانتماء الجيل الذى ينمو في ظل هذه الدويلات. إننى أتصوّر أن مسألة ازدواج الجنسية التى أثيرت فى مجلس الشعب يمكن أن تمتد فى الناحية الأخرى إلى “انعدام الجنسية ” أو تأخذ شكل “تعدد الجنسية”. يمكن أن يكون لأى شاب نشأ فى هذه الظروف “جنسية مارينية” فى الصيف، وأخرى “دريملاندية” فى الشتاء، وهكذا.
هل يمكن أن يصل ما أكتبه من دعوة إلى تحمّل مسئولية الانتفاضة واحتمال انقراض البشر إلى شاب نشأ وهو لا ينتمى إلى أرضه هو ، ولم يفخر بلغته هو؟
مثال (3) عن الأحزاب السياسة
تنظر حولك فتجد عددا من الأحزاب لا يعرفها أحد، وتنتبه إلى مدى الإعاقة المفروضة على النشاط الحزبى، اللهم إلا بالسماح بالكلام والنشر ربما لتنشيط ما يمكن أن يسمّى “التدليك الفكرى ، مع وقف التنفيذ”، ثم تستمع إلى الرئىس وهو ينحو باللائمة على النشاط الحزبى متمنيا لهم مزيدا من الحركة والمشاركة. فتصدّق وتقرر أن تعمل حزبا جديدا تنويريا متدينا متطورا متجاوزا أخضرا ولك فيه مآرب آخرى، تفعل ذلك بحسن نية، دون أن تنتبه إلى أن الأحزاب فى مصر، مع انعدام فرص تداول السلطة، ليست إلا حلول فردية فى نهاية النهاية، ذلك لأنك بعد أن تمر بالمراحل اللازمة من رفض، فاحتكام للقضاء، فاعتراف، فإعلان، تجد نفسك بلا حول ولا معنى ولا صوت ولا فرصة، حتى ينتهى هذا الحل الفردى الحزبي إلى نزاع حول ميراث الرئاسة بعد (أو بدون) وفاة مؤسس الحزب، وتترد فى وعيك وأنت فى سرادق عزاء الحزب (لا العزاء فى وفاة رئيسه) ما قاله الرئيس من توصيات للأحزاب بمزيد من المشاركة، وتحمد له حماسه وحسن نيته. حاضر.
فى القاموس السياسى الشعبى، الذى أستلهمُ منه موقف الناس مثلٌ يقول ” قالو يلعن أبوك اللى مات مالجوع، قال هوا لقى أكل ولا كلش؛، وقياسا فى السياسة نقول للأحزاب ” الله يخيّبكم اللى ما أقنعتوش الناس، قالوا هو انتو سبتونا للناس ولا أقنعناهمشى ؟”.
ليس بديلا، بل بداية
على الرغم من كل ذلك فإنه مرة أخرى : “..كلكم آتيه يوم القيامة فردا”، هل يغفر لى الحق سبحانه وتعالى تبلدى وسلبيتى معتذراً بكل ما سبق من سلبيات حين يسألني ماذا فعلتَ حين شاهدتَ الشاب الفلانى فى اليوم الفلانى على شاشة التليفزيون ، أو حين سمعت ولولة أم تصرخ وراء نعش ابنها، أو حين شاهدت ذلك الفتى الأمرد وقد ابتل سرواله رعبا، واثنان من جنود إسرائيل يمسكون به من كل جانب، لا أظن. أنا لن أستطيع أن أجيبه أننى انتظرت وزير التعليم ليصلح المقررات، ولا أننى كنت أعمل على استعادة هيبة الدولة، أو أننى كنت أعترض على الإعاقة التى توضع أمام الأحزاب. سوف أقول له إنني كنت أعرف عجزي، وكنت واعيا بكل هذه السلبيات، وكنت أحاول الإسهام فى التغلب عليها، وفى نفس الوقت رحت أعمل – فردًا – كذا وكيت، آمِلا فى إعادة ولادة ضمير البشرية.
لماذا لاتعاد ولادته هنا ؟ مادام فجره قد تجلّى على أرضنا، ومادامت أرضنا قد اتسعت حتى وسعت الدنيا جميعا،
ليكن ما يكون ولكن لا يوجد شىء يبرر الانتظار.
ما دمنا لا نحارب فعلا على الأرض هناك، فلنحارب جدا، فى كل مجال هنا.
عندنا آلاف المعارك تنتظرنا، فلنحارب دائما وأبدا، طول الوقت
فإذا آن الأوان وفرضت على الجميع حرب الدم والشهادة، فإننا سوف نكون قد أعددنا عدتنا للنصر، وسننتصر ولو بعد جولات.
لا يوجد احتمال آخر.