نشرت فى الدستور
19 – 4 – 2006
الحلم والشعر والواقع والسياسة
إلى متى تظل الحكومة بعيدة عن الناس، وتظل المعارضة بعيدة عن الفعل؟ منذ استقال د. أسامة الغزالى حرب، وأشيع أن هناك من يرى رأيه، وأن “الاستقالة هى الحل”، وأن حزبا جديدا على وشك الولادة، حزبا يتجمع فيه المستقيلون (لا المستقلّـون)، فرح بعض الناس، وتحرك فيهم الأمل دون أن يلاحظوا متوسط عمر المستقيلين، ولا محل إقامتهم المفضل على صفحات الصحف وليس فى أمعاء الشارع السياسى. من السهل أن تكون معارضا عالى الصوت، لكن من الصعب أن تكون معارضا قادرا على الفعل، من السهل أن تعلن انتماءك للديمقراطية لكن أصعب الصعب أن تمارس العدل والحرية حتى فى أضيق دوائرك، من السهل أن تحصل على أصوات المتدينين البسطاء بتحريك حلم يقول أن”الإسلام هو الحل”: فيحلمون بالنقاء فى الدنيا والجنة فى الآخرة، لكن من الصعب أن تحصل على نفس الأصوات إذا أنت واجهت الواقع الأبقى، الذى يجعلك تتبنى موقف ثقاة من الفقهاء والمسلمين الأحرار يعتمدون على قرآنهم أساسا، فيستلهمونه ليقيموا العدل بين من يترك دينه ليدخل إليهم، ومن يخرج منه جهادا حتى ولو كان فى طريق العودة إليه، فيعلن هؤلاء المنادون بالإسلام حلا يزهو به كل مسلم واثق من قوة دينه، يعلن: عدم وجود حد للردة إلا قياسا على الخيانة العظمى (آخر التذكرة بذلك: الفاضل جمال البنا، شقيق المرحوم حسن البنا، صحيفة نهضة مصر، الخميس 13 أبريل 2006).
عموما: من السهل أن تحلم ومن الصعب حتى الاستحالة أن تختبر حلمك على أرض الواقع ناهيك عن محاولة تحقيقه. كان عبد الناصر حلما، وحين اختُبِـرَ على أرض الواقع تعرت الحقيقة سنة 1967، كان عدل الشيوعية حلما عالميا، وطالت مدة اختباره حتى انـتُهك وتشوّه فتعرى بالتطبيق حين صحى الناس على تخبط جورباشتشوف صدقا أو عِـمالة. هل معنى ذلك أن نتخلى عن الحلم؟ أم عن محاولات تطبيقه ما دامت اختبارات التطبيق تفيقنا بصدمات تقودنا إلى انتكاسات ألعن مما كنا فيه؟
لا يستطيع إنسان أن يعيش بغير حلم. وفى نفس الوقت لا يمكن لحالم عاقل أن يحاول تحقيق كل حلمه مرة واحدة لمجرد أنه صادقٌ، مخلصٌ، جميلٌ، مثابرٌ، فاهمٌ، قادرْ. ماذا لو وُجد إنسان بهذه المواصفات فى موقع السلطة فى الوقت الحالى وهو يعلم أن أغلب من يتولى أمرها ممن حوله هم بمواصفات عكس ذلك؟ ماذا لو وُجد إنسان يعرف تماما ما وصل إليه الناس من يأس، ومن ثم كسل واعتمادية وانتظار دون فعل أو إبداع، ويعرف أيضا ما وصل إليه أغلب أهل السلطة من بعد عن الناس، واستغراق فى الكلام، واختباء وراء الأرقام، وغياب للبصيرة؟ هل يترك موقعه مستقيلا لينضم إلى حزب المستقيلين (لا المستقلين كما أشرنا)، هل يريح نفسه ويعمل الممكن مكتفيا برضا أهل الحل والربط أعلاه، لعله يمد عمره على كرسيه ربما يفعل شيئا جيدا ولو يسيرا؟ تذكرتُ رأيا لأفلاطون، ربما فى مقدمة جمهوريته، يقول: إن عقاب من يتخلى أو يعتذر عن موقع قيادى، وهو قادر عليه، هو أن يتولى هذا الموقع مّْنْ هو دونه، فيديره بما هو أسوأ للناس ولهذا المتخلى ضمنا.
قابلتُ مؤخرا – بالمصادفة تقريبا، أو ربما كان خيالا طليقا!!– مسؤولا يعيش هذا المأزق، اقتحمَنِى بأمانته، ونقائه، وفهمه، وواقعيته، وإصراره. لم أستطع أن أكذّبه، خاصة وقد أفحمنى بتذكرتى بأنه يتابع ما اقول أحيانا هنا وهناك، وأن ثمة أمل فى السير فى اتجاه موضوعى يقربنا من حلمنا ولو ببطء شديد. خجلتُ من صدقه وأطرقت، فخطر ببالى كلام قديم – كالشعر- كتبته حوالى سنة 1972 أعلن فيه مثل هذا الموقف الذى لا خيار لنا فيه. الحلم كالشعر، يتحرك طليقا ليرسم ويشكـّل دون إلزام أو التزام باختبارات التطبيق، قلت آنذاك:
يا من ترقب لفظى الشاردْ، بعيون النقدِ المتحذلقْ، أو تفهم روح غنائى، بحساب اليوم الأعشي، لا تحسب أنى أكتب شعرا، بخيال العجز الهاربْ، أو أنى أطفئ ناري: بدموع الدوح الباكى…، …. لا….لا ….لا…لا: فليحترق المعبدْ، ولتذرُ الريحُ رمادَ الأصنامْ، ولتُسألُ نفسٌ ما كسبتْ، وليُـعـلن هذا فى كل مكان: “فشل الحيوان الناطق أن يصبح انسانا”. أو:.. .. .. فلنفعْلهَا: إذ يصبح ما ندعوه شعرا، هو عين الأمر الواقع”!!.
حين قلت لهذا المسؤول الكريم هذا الشطر الأخير، ابتسم فى ألمٍ وكأنه يذكّرنى :”إنت اللى بتقول!”.
وأفقتُ من حلمى، أو خيالى، أو رجعت إلى بيتى لا أكاد أصدق.