نشرة “الإنسان والتطور”
11-8-2010
السنة الثالثة
الحلقة: (78)
الفصل الثالث
الغنيوة الأولانية
جـمل المحـامل (3) الحلقة الأخيرة
مقدمة:
انتهت الحلقة السابقة بهذا المقطع:
ما تكركبهاش; على مهلك
و”سعيده” وحابــقى اندهلك!!!
كنت قد صرخت قبلها:
مش يمكن لعبة “إستنى” تفضل على طول
على ما يحصلنى الدور حاخلصْ.
حين يحتد الجوع بهذا الوضوح والاحتجاج، يصبح الوعد بالرِّى أصعب من القبول بالواقع، بل إن مثل هذا الوعد، لو انساق المخدوع إليه يزيد الجوع اشتعالا، فالجوع مع التلويح باحتمال الرى هو أقسى من الجوع مع التسليم باستحالة الرى، فالحذر من أن تكون هذه اللمعة فى الأفق ليست إلا سرابا: واجب (مش يمكن لعبة إستنى تفضل على طول)؟
الانتظار المفتوح هكذا هو أخبث ألعاب التأجيل وعًدا بما لا يكون، بما يترتب عليه أن تحل النهاية قبل أن يأتى عليه الدور (على ما يحصلنى الدور حاخلص)، السخرية التى تلت ذلك بأنها
“سعيدة”، وحابقى اندهلك”،
تكشف هذا النوع من الوعود، “وداعاً” هنا أفضل من “إلى اللقاء”، فما بالك بـ “سعيدة” وهى تحية غير مألوفة فى ثقافتنا إلا عند بعض إخواننا المسيحيين تجنبا للسلام عليكم مع أنه “على الأرض السلام”، سعيدة هنا تعنى الاستهانة بجدية المطالبة بالحق فى الضعف وفى الأخذ وفى الرؤية.
هنا تقفز أهمية التدريب على الجانب الأيجابى من “معايشة اللحظة” “هنا والآن”، بدأً (حدْس اللحظة) من تنظير باشلار Link حتى الممارسة العملية فى العلاج الجمعى، أنه لا شىء يوجد إلا “الآن”، ما ليس هو الآن، ليس هو، ألح علىّ هذا المبدأ حتى عبرت عنه فى الأراجيز التى كتبتها للأطفال:
بيجى بكره تلاقى بكره
“النهاردة” بتاع غداً
إذن ليس هناك بكره؟!
فما العمل
يخيل إلىّ أن التعريه فى المقطع التالى هى موضوعية أكثر منها تسول لزج
واتهيألى حايشوفوا انا مين.
وانى غلبان محتاج ليهم،
وجعان، محروم، عايش بيهم،
أضعفْ، وازحفْْ، وأَقَعْ، وأقوم.
إذا كان الحق البسيط العادى (حق الضعف، وحق المعاملة بالمثل) غير جاهز، أو حتى غير وارد، فإن الاستمرار فى المطالبة به يصبح نوعا من النعابة، ولا مفر من أن يمتلئ “الآن” بانتظار من نوع آخر، فليستمر الجمل فى حمل الحمل بشرف دون شكوى، حتى لو حمل الكرة الأرضية فوق قرنه
وشهور وسنين وانا باستنى
“شلتها على قرنى” وباتْمنى
حمل همّ كل الناس، بإرادة متواضعه، دون ادعاء النبوة، والاستمرار فى ذلك دون نعابة تنتظر المقابل، هو نوع التمنى الذى يؤكده استمرار التميز بموقف عطائى من نوع آخر، هل هذا ممكن دون الانزلاق إلى المثالية الخائبة.
وبنيت قصرى سكّنته الناس
لست متأكدا ماذا يعنى “القصر” هنا، حضرنى قول مواز من قصيدة بالفصحى “رسالة من دون كيشوت إلى إخوان أبى لهب” والتى ورد فيها نصَّ فيه كلام عن: “روضتى” و”ملعبى”، واعتقد أن لهذا وذاك صلة ببناء “قصرى” هنا
جاء ما يلى فى قصيدة الفصحى:
فى “روضتى”،
ألقيت بذرة القلق
نبتت بوجدان البشر
وقد انهيت هذه القصيدة بقولى:
يا سادتى
هذا أنا لمَّا أزل
سيفى خشب
لكن لؤلؤة الحياة بداخلى لا تنكسر
وبرغم واقعنا الغبى
ينمو البشر فى ملعبى
تصورت الآن أن شطر “وبنيت قصرى سكنته الناس” يمكن أن يشير إلى أن ذلك قد تم فى “روضتى” التى ألقيت فيها بذرة القلق، وأن ذلك القصر محاط “بملعبى” حيث “ينمو البشر”
المألوف أن القصر هو لصاحب القصر دون الناس، وأن الملعب للعب دون النمو، إلا أنه يبدو أيضا أننى حين اضطررت اضطرارا لهذا التأجيل ردًّ على تخليهم وسخريتهم، نسيت التأجيل، واتسعت دائرة مسئوليتى ربما “غصبا عنى”، حتى صار همى هو “الناس”، مرة أحاول أن أسكنهم قصر فكرى وخبرتى انطلاقا إلى قصورهم الخاصة المفتوحة، ومرة أخرى لأتيح لهم اللعب (الابداع) فى ملعبى حتى يكملوا مسيرة النمو (الابداع)، فخطر لى أن ملعبى هذا هو حول القصر.
إن كان الأمر حقيقة كذلك فأين الانتظار، ولماذا التأجيل؟
لكننى أظل الانسان الفرد الضعيف صاحب الحق، فقط دون نعابة، انتظر أن يرانى أحدهم كما أنا، وليس كصاحب القصر المبنى فى الروضة وحوله الملعب.
ويتكرر الاحتجاج على هذا الرفض القبيح
فيتكرر رفض الاحتجاج
= ما فيناش من كده مش لايقة عليك.
- لأ. لايقة ونـص:
ويتصاعد التحدى كما تتأصل الثقة بأنه: ما دام الوقت “الآن” ملىء بالناس للناس، فالحق واصل لصاحبه مهما طال الزمن.
لو حتى الليل طال ست شهور،
والتلج اتجمع فوق قلبى،
والطفل اتجمد مالسقعه،
والدم اتوقف فى عروقى،
والنهر بقى صخر بيلمع،
والوادى بقى صحرا بتلسع
والبنى آدمين بقوا مـش هَّمهْ،
أنا حاعملها.
ويقابل هذا التحدى بالإصرار من جانبهم على أن يظل يحمِلها مادام يدعى أنه بكل هذه القدرة.
= قدها وقدود، ياللا اعملها ،
بس تخليكْ، برضه شايِلْـهَا
كررت الحديث مرارا كيف أن الوعى الجماعى Collective Consciousness الذى يتكون منا معا أثناء العلاج الجمعى، نتيجة حركية (وتناصّ) النصوص البشرية أثناء إعادة تشكيلهما معا، هو وعى متصاعد إلى وعى أوسع فأشمل، فأعلى فأرحب، حتى تتناغم مستويات الوعى فيما تفيده نهاية القصيدة هكذا:
- ربنا موجود حا يعدلهـا
يزرع فى قلوب المحرومين:
بذرة تنبت، حب وتسبيح،
تطرح شجرة لها ضل كبير،
تحضن نسمة وتغازل الريح،
وتفرع توصل لخالـقـها .
لكنهم – برغم كل ذلك – لا يكفون عن التثبيط والسخرية
=إبقى قابلنى !!
وفى المقابل: لا أهمد بدورى من الحركة والتجريب والسعى بالناس إلى الناس، فأكتشف أن الناس الذين يملئوننى بحق ليسوا هؤلاء الناس المعتمدين على طول الخط، وإنما هم الناس بداخلى وخارجى فى حركة مثقلة مع هذا الوعى الجماعى الذى يتخلق ناميا باستمرار “إليه”.
- وطلعت أدب،
نزلت أدب،
ولقيت ناسى
جوَّه وْ بَرَّه
مالْيين القلب.
وِقتلت الغول
حَوَّطوا بيَّا
وربما هذا أيضا هو ما يقابل ما جاء فى أرجوزة الأطفال وسبق ذكره.
الحياة الحلوة تِحلى بْكُلّنا، إنتَ وانَا،
كل واحدْ فينا هوّا بعضنا،
بس مش داخلين فى بعض وهربانين،
زى كتلةْ قَشّ ضايعةْ فْ بحر طينْ.
ايوه فعلاً: كل واحد هوّا نفسُه،
بس نفسُه هِـيّأ ّ برضه كلنا،
مالى وعيه بربّنا
نهاية القصيدة الحالية نهاية مفتوحة لا تحدد معالم القفلة، حيث تقول:
وعَمَلْنَـاهَـا،
”طِلْعِتْ هِيَّهْ .”.
يلاحظ هنا أن القصيدة انتهت بـ “وعَمَلْنَـاهَـا”، وليس بـ “عملتها”، إذا يبدو أن القضية لا تتوقف عند “أكون أو لا أكون” أو حتى عند “أكون أو أصير”، وإنما بالضرورة عند أكون لنكون، فيكونون لأكون.
وبعـد
أين يقع كل هذا من العلاج النفسى؟
أولا: نبهت ابتداء أن هذه القصيدة، والتى تليها (الأخيرة) فيها جرعة السيرة الذاتية غالبة غالبة بشكل كاد يفصلها عن “فقه العلاقات البشرية” لكننى أضيف هنا: وهل أنا أعالج مرضاى إلا بما هو أنا، بعجزى واجتهادى ومحاولتى وتعريتى وعلاقتى بنفسى وبهم إلى ربنا؟
ثانيا: لعل فى هذه القصيدة بحلقاتها الثلاثة ما يوصل لمن يقبل الاشتغال بهذه المهنة مدى صعوبتها التى تحتاج إلى مجاهدة النفس إلى هذه الدرجة حتى يمكن أن يستمر.
ثالثا: يبدو ان هذا الموقف البسيط العنيد الصعب كان هو هو موقفى منذ تبينت معالم مسارى الشخصى من خلال مهنتى، فقد حضرتنى قصيدة موازية كتبتها بالفصحى قبل عام واحد من كتابة هذا الديوان، التى حاولت أن أبين فى هذه القصيدة (وهى التى اقتطفت حالا بعض أبياتها)
وقد فضلت أن أوردها كاملة، أختم بها هذه الحلقات الثلاثة وعنوانها كما جاء حالا:
“رسالة من دون كيشوت إلى إخوان أبى لهب”
-1-
يا سادتى
’تبت يدا أبى لهب’
ماذا كسب؟
.. ..
يا سادتى
هذا أنا لمّا أزل
’ألقى السلاح؟؟’
لا ..
هذى أمانيكم
(…كذا؟)
والسيد اليأس الملثم بالعدم
يلقى التحية الشماتة الندم
على مُصارع الهواء الذاهب العتل المتيم بالأمل،
سيفى خشب؟
خيرٌ من الحبل المسدْ
فى جيدكم .
-2-
طاحونتى …
عبث الهواء بكفها
دارت تئنُّ، توقفتْْ
دارتْ
طاحونتى، ثأرى القديم
لكن روضى يرتوى من مائها
مهما علا سد الفزع
وتعثر المجرى بجندل ظنكم
لن توقفوا نهر الحياة
بل، فاحذورا طوفانها.
-3-
فى روضتى .. ..
ألقيت بذرة القلق
نبتت بوجدان البشر
نحتَ الجنينُ الطين فانهار العدم
صرخ الوليدُ الطفلُُ أذّن بالألم
وتطاول الشجر الجديد
يعلو قباب الكون إذ يغزو القمر
والشوك يدمى الكف إذ يحمى الثمر
واللؤلؤ البراق فوق الساق من صمغ الضجر.
-4-
ذى صرختى ..
سوط اللهيب النور رعد القارعة
يكوى الوجوه..
يا ويحكم ! !
من يوقف الرجع الصدى فى قلبكم
هيهات إلا الموت
حتى الموت لا يخفى الحقيقة بعدنا
..
يا ويحكم منها بداخلكم.،
نعم … ليست ‘أنا’
بل ‘نحن’ فى عمق الوجود
بل واهب الطين الحياة
بل سر أصل الكون، كل الكل
نبض الله فى جنباتنا
ليست أنا.
-5-
يا سادتي:
هذا أنا لمّا أزل…
سيفى خشب ؟؟
لكن لؤلؤة الحياة بداخلى لا تنكسر
وبرغم واقعنا الغبى
ينمو البشر… فى ملعبى.
(طبق الأصل)
(“دون كيشوت”).