نشرة الإنسان والتطور
بقلم : يحيى الرخاوى
2001-1980
نشرة يومية من مقالات وآراء ومواقف
تعتبر امتداداً محدوداً لمجلة الإنسان والتطور
29-7-2009
السنة الثانية
العدد: 698
الحلقة (17) من وحى الحالة الثالثة
الحق فى الرجوع (العوْد)
الحنين إلى “ركنك الخاص” (2 من 2)
خبرات شخصية: الركن القصى والجذب اللحوح
قبل المقدمة:
ذكرت أمس كيف أننى اكتشفت حنينى الشخصى إلى ركنى الخاص، كما سجلته بالذات فى الجزء الثانى من الترحالات “الموت والحنين”، وأعلنت تساؤلى هل يجوز أن أقتطف نفسى وكأنه النقد؟
يجوز أو لا يجوز، هذا ما كان، وسوف أتعمد – لأتجنب هذا الموقف النقدى- ألا أضيف للمقتطفات إلا عنوان فرعى أو تعليق محدود.
الركن: داخلى أم خارجى؟
لا ينفصل حنينى إلى ركنى الخاص الداخلى عن انجذابى إلى ركنى الخاص خارجى فى الطبيعة بوجه خاص.
تنتهى هذه المقتطفات فى نشرة اليوم بهذه العبارة:
“…..ليكن ريف فرنسا فى الشمال هو رحلتى إلى داخلى أكمل بها شرنقتى لعلى أخرُجُ فراشة حقيقية قادرة على البيض من جديد.”
– الترحال الثانى: “الموت والحنين”
الفصل السادس ص288
لاحظ: الشرنقة والفراشة
………………
وقد بدأت هذه الخبرة تحديدا حين رأيت من أعلى الجبل فى طريقى من أثينا إلى تركيا عبر سالونيكى كوخا قد تجسد لى ركنى الخاص، فجذبنى إليه ليثبت لى حكاية الجاذبية الأرضية.
المقتطفات
1) “….اكتشفت أننا فى أعلى جبلٍ ما. متى صعدنا إلى كل هذ الارتفاع؟ حين تكون بعيدا عن السفح، وعن الجبل قد يسحبك الطريق إلى أعلى دون أن تدرى إلا من أنين عربتك أو احتجاجها بالإبطاء دون سبب ظاهر. لسنا فقط فى أعلى الجبل، بل إن هذا الجبل، مثل كثير من جبال اليونان تنتهى حافته إلى البحر(المتوسط طبعا). على مرمى البصر لمحتُ كوخا (أو اثنين أو ثلاثة) قرب الشاطئ وبضعَ أشجار جميلة وسط الخضرة الممتدة، وعاودنى حسدى لهم. قفزت إلى مخيلتى أحلام اقتناء كوخٍ منعزل وسط جبل أخضر، هاج علىّ الحنين إلى “الركن الصغير وسط غرباء طيبين”، ناديتُ على النادل أسأله عن هذا الكوخ (أو الأكواخ) بالإشارة طبعا: هل هو موتيل أم بيت أسرة صياد. لم تنجح لغة الاشارات. لم يفهم شيئا. لكننى صممت أنه فهم. رجحتُ ـ بالعافية ـ أنه حتى لو كان كوخ أسرة صغيرة، فإنهم قد يسمحون بتأجير حجرة لليلة واحدة.
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 172
لاحظ: أن ليلة واحدة تكفى
………………
2) “….. كانت زوجتى تتابع حوار الصم هذا متوجسة شطحة ًجديدة لا تعرف إلى أين سوف تنتهى بنا، أنا أشير من جديد، وأغمض عينى وأميل برأسى لأفَهـّـمه أنى أريد أن أمضى ليلة فى هذا الكوخ، وهو يشير إلى أسفل حيث الكوخ، بما لا أفهم، والخطر يزداد اقترابا من زوجتى، فتتحقق من مخاوفها حين سألتها عن رأيها لو أننا قضينا ليلة أو بقية أيام الرحلة، فى هذه الحجرة المزعومة عند هذه الأسرة الصغيرة المُفترضة، على هذا الشاطئ الجميل الواعد، فى حضن الجبل الحانى، قلت كل ذلك، أو تصوّرت أننى قلته، وأنا فى أشد حالات الحماس. الكوخ يجذبنى إليه بشكل أقرب إلى قوانين جاذبية مغناطيس الحديد منه إلى رغبة بشرية، طأطأتْ زوجتى رأسها، وتباطأتْ، وامتقع وجهها، فـقرأتُ حجم مقاومتها0 كان أكبر مما توقعت، ومع ذلك تماديت …….”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 172 – 173
لاحظ: القوة الجاذبة
………………
3) “….. ثم إنى أحلم وأنا أكتب هذا الموضوع بالذات أن ينزل علىّ فتحّ من البحر والغربة، أن أتجدد منطلِـقا فى حضن الخلاء والسماء والجبل، أتصور أنه فى هذا الكوخ البعيد المتفرد، قد يحدث كل ذلك، سوف تتاح لى الفرصة التى أنتظرها من زمن…”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 173
لاحظ: وظيفة الكوخ مفرخا للإبداع،
حتى غرينوى (العطر) فى كوخه كان يبدع ذاته الإلهية.
………………
4) “….. كل ذلك قلته أو لم أقله وصل إلى زوجتى وهى صامتة ووجهها يزداد امتقاعا. خليط ٌمن التوجس والخوف والتردد والغضب والرفض، ولا أستبعد درجة من الاشفاق علىّ، وربما محاولة فهم. يصلنى جُمّاع كل هذا وهو أنها لا توافق بمنتهى البساطة والوضوح. على الرغم من أنها لم تعلن رأيها بعد،
إلا أنى أعلنت عدولى عن كل ما قلت، عدلتُ راكضا نحو الناحية الأخرى: الاحتجاج الصامت، والانفصال المتجمد الحزين، حتى وددت لو بقيتُ جالسا فى مطعم محطة الوقود هذه حتى يحين موعد عودتنا إلى مصر، كنت مثل طفل يحرن بعد أن رفضت أمه الاستجابة لمطلبه الذى يعتبره الحياة ذاتها….”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 173
لاحظ: كيف أن الركن
(برغم ترادفه مع الرحم أو القبر كثيرا) يوصف هنا أنه الحياة ذاتها.
………………
5) “….. لا لا لا. المسألة تكررت بشكل بدأت أنشغل عليه، لم تعد بصيرتى فى هذا الجذب الملحّ تكفى أن تمنعه أو تحد من قفزاته العشوائية، كم مرّة شُددت هكذا إليه، فى فالورسين فى جبال الألب، فى ضاحية باريس ونحن نزور فرانسواز صاحبة ابنتى منى، فى أبيثيا وبونيار (شمال أسبانيا)، فى المنوات مقابل أبو صير، فى الفيوم، فى دهب، فى العين السخنة، فى أعلى المقطم حيث أكتب الآن؟ فى رأس الحكمة،
الانفعال الذى حلّ بى نتيجة موقف زوجتى الطبيعى من رغبتى هذه التى أرجّح أنها تعلم شطحها الناشز هو الذى نبّهنى من جديد إلى جدّية مسألتى هذه، ومع ذلك فكل هذه البصيرة، وهذا النظر وهذا التنبيه لا تمنعنى من الاستجابة للحنين إلى حضنه.”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 173 – 174
لاحظ: أن الكوخ هنا “حضنُ حانٍ”.
………………
6) “….. أنهينا أكل المسقعة والزيتون الأسود فى صمت تعرف زوجتى معناه ومضاعفاته، وانطلقنا إلى الشمال، رحت أتابع لافتات تقول سالونيكى وأخرى كاتيرينا والثالثة “باراليا” من أعلى إلى أسفل على التوالى. (الأسفل هو الأقرب). الصمت يزداد ثقلا وثرثرة معا. صورة الكوخ تراودنى وكأنها “الحل”. لم يعد هناك أى شك فى أنى أمارس ـ طول الوقت ـ “برنامج الذهاب والعودة ” مع جذب متزايد نحو “الركن البعيد الصغير” “الواعد بنقلةٍ ما”؟ ليس مهما إلى أين، لكننى لا أستطيع أن أوقف هذا الإلحاح الواعد أن هذا الكوخ، هذا الركن الصغير القصى سوف أخرج منه مختلفا حتى لو لم أكتب حرفا. بالذات لو لم أكتب حرفا. لو رصدتُ كم عدد من المرات حرّك هذا الجذب المعاوِد خيالى نحو شئ ما، أمرٍ ما، كشفٍ ما، شئ لم أعرفه أبدا، لوجدتُها بلا حصر…”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 174
لاحظ: عدم ضرورة الوعى به أو اشتراط إنجاز بذاته.
* * *
مقتطفات أخرى
بداية باكرة للوعى بهذا الحنين اللحوح
(1) لم يكن هناك امتحان بين سنة أولى وسنة ثانية طب، كنت فى الحديقة التى اتخذها أبى بمثابة ركنه الصغير هو أيضا (هذا ما أتبينه الآن بوضوح). حجرتان لا تسعنا نحن السبعة بحال، ومع ذلك اضطررنا للانتقال من منزلنا الكبير وسط القرية (ثلاثة أدوار كل دور ثلاثة حجرات). لم يضطرنا أبى، بل أظن أن أمى، وربما أخى الأكبر هما اللذان وجدا أن هذا هو الطبيعى. هاجر أبى من بيتنا الكبيرذى الثلاثة أدوار غير البدروم إلى هاتين الحجرتين العتيقتين فى تلك الحديقة التى تقع مقابل المقابر مباشرة، – ذكرت ذلك قبلاً – وكان ثمة مقابر متفرقة بينها مفتوحة بسبب الإهمال أو فعل الذئاب، وكنت فى حاجة إلى عظام آدمية من التى ندرس عليها التشريح، وكنت أحصل عليها ببساطة، وبوفرة تكفينى وتزيد حتى أهدى زملائى القاهريين بعض ما يفيض عنى. لم يكن يعترينى أى تردد أو خوف من تلك المقابر، أتذكر الآن كيف كنت أنسى وأنا أبحث عن عظمة ذراع أو فخذ، أنها مقابر أصلا، وأنها بقايا أعضاء بشرية فعلاً.
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 174
لاحظ: الوالد – الركن – القبر – السن!!
……………………….
(2) “…. فى يوم ما، فى ذلك الصيف البعيد (1951)، سافر والدى إلى إخوتى فى القاهرة، وكانوا لم ينهوا امتحاناتهم بعد. أخطرنى أنه سيغيب يومين. وجدتنى وحيدا، وبدون أى سبب، تحت شجرة مانجو عتيقة جدا، وجدتنى أبكى بحرقة صادقة، ثم أفقت منتشيا وأنا أشعر أن وحدتى تتعمق بشكل رائع، فرُحت أتغزل فيها وكأنى عثرت على كنز ثمين، سجّلت ذلك كتابة (على ما أذكر. على الرغم من أننى لم أجد له أثرا فى أوراقى المبعثرة). حين ذهبت بعد ذلك إلى إحدى المقابر وحدى أستكمل بعض حاجتى من العظام، شعرت لأول مرة بهذا الجذب المريح الواعد، كانت لحظات عابرة لكنّها شديدة الوضوح، ثم نسيت الأمر تماما، ولم أتذكره إلا الآن وأنا أعِد هذا العمل للنشر(7/6/2000) بعد اكتشافى فقد مسودة هذا الفصل..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 175
لاحظ: كيف أن الجذب مريح واعد بعد انفعال عنيف عارم برغم أن خلفية الموقف هى تجميع عظام الموتى، أو ربما كان هذا سبب مثير فى ذاته.
……………………….
(3) “… حتى حجرتى عند مدام كومباليزييه فى الحى الثامن عشر قرب المونمارتر فى باريس، اكتشفُ الآن أنها كانت ركنا قصيا على طرف المونمارتر، بعيدا عن زملائى فى الحى اللاتينى، وبعيدا عن كل ما هو قريب، كانت ركنا على طرف الدنيا، وليست حجرة فى شقة. حين أبتعد،أقترب..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 175
لاحظ: “كانت ركنا على طرف الدنيا، وليست حجرة فى شقة، حين أبتعد أقترب”.
……………………….
(4) “… لا تكتمل صورة الركن عندى إلا إذا كان صغيرا (حجرة واحدة عادة) ملحق به،(الأفضل: فى داخله) دورة مياه خاصة بها، مهما صغرت، ونافذتين على الأقل إحداهما بحرية،
بمجرد أن أجد نفسى فيه (ولو تخيلا) أهدأ وأترك نفسى لها، لكننى لا أستكين كما يتبادر إلى الذهن، بل سرعان ما يبدأ نزوعى إلى حركة جديدة يقظة متحفزة، لكنها ليست حركة ضجِرة ولا لحوح..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 175
لاحظ: الانتباه إلى أن الركن – عادة- لا يكون ركنا إلا إن كان صغيرا.
……………………….
(5) “.. أحيانا أتصوّر نهاية المطاف بعد التقاعد الاختيارى أو الاضطرارى فأركن إلى ركن خيالى وهات يا كتابة، أيضا ذهابا وعودة، وتقفز احتمالات ما لا أعرف بعد مشوارى الطويل الذى خدعتُ نفسى فيه بمواصلة معرفة المُتاح..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 175
لاحظ: ظهور برنامج الذهاب والعودة.
……………………….
(6) “…بعد صمت ثقيل، قطعنا فيه مالا يقل عن ثلاثين كيلو مترا اكتشفت أن اسم البلد الأقرب لهذا الكوخ الملوّح هو “باراليا،” قلت لزوجتى فجأة، وكأنى نسيت كل ما اهتدت إليه بصيرتى مما سبق، قلت لها جادًا مكفهرا فى غضب لايتناسب مع كل ما اعترفتُ به لنفسى عن نفسى: “إذا مـِتُّ، فأخبرى أحد الأولاد أننى كنت أريد أن أبيت هنا فى هذا النزل على الشاطئ تحت أقدام هذا الجبل، ولو ليلة واحدة.” لم ترد، ولم أشك أنها أخذت كلامى مأخذ الجد، ومع ذلك أكملتُ: أنا أعنى ما أقول، اعتبريها وصية، البلد اسمها باراليا، والمكان هو بجوار أقرب محطة لها فى اتجاه لامييا، ثم أضفتُ أيضا: أو ربما تمكنتُ يوما من العودة إليه وحدى. زاد صمتها غورا واحتجاجا، ورجحتُ ـ كما فرحتُ ـ أنها لم تشعر بالذنب، وأحسب أن هذا من أهم ما حفظ علينا حياتنا، حيث أتصور أن ما أمارسه معها من “تأثيم” كان جديرا أن يخرب بيوتا كثيرة، ونفوسا كثيرة، لكنها كانت دائما أطيب، وأظن أقوى من حركاتى تلك..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 175 – 176
لاحظ: أن الحنين يمتد بعد الموت وفى ما يشبه الوصية.
……………………….
(7) “…الجو بينى وبين زوجتى مازال مكفهرا قبيحا، كأنى أُخرجت فعلا من رحم مزعوم قبل موعد الولادة الطبيعية، ولادة مبتسرة دون حضّانة حانية ولو صناعية، أنا لم أدخل هذا الرحم المزعوم أصلا فكيف تكون الولادة دون حمل، حتى لو كانت مبتـسرة؟..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 176
لاحظ: اقتران الركن بالرحم بالولادة.
……………………….
(8) “…مع انفراج الطريق انفرجت أزمة الولادة المتعسرة بالاستسلام إلى الأمر الواقع.
يبدو أنى ولدت خطأ، ولدت فى غير أوانى، إما قبله وإما بعده.
هذا الجذب اللحوح، أحلام الرحم، نص (برنامج) “الذهاب والعودة..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 176
لاحظ: أحلام الرحم
……………………….
(9) “…لم انتبه ـ كالعادة ـ إلى محتويات السوق الأعظم (السوبر ماركت) الذى ظل مفتوحا حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل فى هذه البلدة الـ “أسبراجاليا”، لكن مجرد التواجد وسط الناس، وشراء بعض الفاكهة وبعض التذكارات كان كافيا لعودتى كما كنت قبل حكاية “الركن القصى، والجذب اللحوح”..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 178
لاحظ: كيف أصبحت حكاية الركن القصى والجذب اللوح علامة فارقة تتأرخ بها مراحل الرحلة.
……………………….
(10) “… ما هذا؟ لماذا؟ فسحة هى؟ رحلة؟ أم قهر ذاتى بلا مبرر؟!
كل ذلك لأننى لم أتمكن من الاستجابة لوهم جذب الركن القابع فى داخلى أُسقطـُه على أى زاوية مهجورة، وأنا على يقين من أننى لو أمضيت فيه عاما أو سبعة أعوام (مثل باتيست جرينوى- العطر. قرأته لاحقا. سبتمبر2000، باتريك زوسكن. خِفت) سوف أغادره وأنا أبحث عنه من جديد؟..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 179
لاحظ: الركن القابع فى داخلى، برغم وصفه “بوهم جذب الركن…الخ”
……………………….
(11) “…أذكر أثناء عودتنا ذات سفرة من سوريا عبر عمان أننى فكّرت فجأة أن أنحرف إلى البتراء، وكنت قد زرتها قبل ذلك مرتين على الأقل، لكن مثل هذه الأماكن لها جذب خاص، أقل إلحاحا من نداء الركن القصى اللحوح. فى هذه المرة ضللتُ الطريق، حلّ ضباب كثيف كثيف، وكنا بين المغرب والعشاء، وكنت أحسب أن الضباب لا يتواجد إلا فى الصباح، ثم بعد عدة خبرات خطرة عرفت أن الضباب قد يهجم فى أى وقت ولو فى منتصف الليل، و كانت هذه هى المرة الأولى التى يهبط علىّ فيها الضباب بعد المغرب مباشرة وكنا سنضيع، ولم نضع..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 187 – 188
لاحظ: الأماكن المتسعة الخالية لها جذبها المميز، لكنه مختلف عن نداء الركن الخاص.
……………………….
(12) “….بعد أن ودعت الرجل على باب القنصلية غير مصدق كل تسهيلاته، التفت إلى زوجتى التى تابعت الحوار بقلب واجف، فهى تعلم أننى قد أعملها، احتارت هذه السيدة معى، أصرّ على الركون إلى الركن القصى الصغير يحتوينى حتى أبدو أننى لن أخرج منه أبدا، أو أنطلق مستكشفا مغيّرا طريقى وخططى ووعودى مهما كانت المغامرة والصعوبات، ماذا تفعل هى فى هذا البنى آدم هكذا؟..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 190
لاحظ: يحتوينى حتى أبدو أننى لن أخرج منه أبدا.
……………………….
(13) “…رجل الفندق ذو الساق الصناعية فى حربيات يفرح أننا من مصر، يتكلم العربية الشامية أحسن من فلسطينى فى العريش، يعزم علينا بجناح مكوّن من حجرتين وصالة بنفس ثمن الحجرة الواحدة، كنوع من الكرم، فنقبل من باب الطمع، ولكن ما إن ندخل إليه حتى نجدنا كأننا فى شقتنا فى مصر، ما هذا؟ نحن نريد أن نسافر لا أن ننتقل من شقة إلى شقة،؟ ونرفض عطية الرجل شاكرين ونفضل الحجرة الصغيرة المطلة على الجبل، وتشاركنى زوجتى الرفض، فأنظر إليها ممتنًّـا، هل أصابتها عدوى الحنين إلى الركن الصغير؟..”
– الترحال الثانى: الفصل الرابع ص 194
لاحظ: “عدوى” الحنين إلى الركن
……………………….
(14) “…ليكن كل ما قلتُه ليس له أساس من الصحة، لكننى سأجعله صحيحا بما أفعل الآن وما أقرر. فقررتُ أن تمتد الإجازة لغير ما سبب إلا أن أكمل انتهاز هذه الفرصة، فأجعل وجودى المنفرد هكذا لهذه الفترة هو ركنى إياه ، لكنه ركن وسط الناس، ركن سرى، وسوف يريد هو ما أريد…”
الخميس 24/6/1993
– الترحال الثانى: الفصل السادس ص 282
لاحظ: تخليق الركن السرى إراديا وسط الناس
……………………….
(15) “…. فى هذا الجو هنا فى مونتريه، بدت لى الطبيعة مساحة مجسدة، هذا الفجرالممتد أتجول فيه ـ جالسا ـ هو لا يمرّ بى، بل أنا الذى أتجول فيه. أتجول فى الفجر وأتبين الخيط الأبيض من الأسود منه. هذا التشرنق الحالى الذى لم أعهده من قبل فى رحلاتى السريعة الإيقاع كان فجرا خالصا. الركن الذى كنت أسعى إليه دائما أبدا ثبت أنه موجود بداخلى طول الوقت، أستطيع أن أنصبه وسط أى زحام، أدخله فى جوف الليل أوفى عز الظهر، حين يطلع علىّ الفجر ولا أريد أن أغادره أستعى الليل إلى داخله، حتى طلوع الشمس لا يستطع أن يقتحمه. ياه !! فلماذا كان كل ذلك الإلحاح من قبل .هل الحل هو أن يعثر كل منا على ركنه بداخله ليطمئن أنه يمكن أن “يكون” وسط كل الناس دون أن يقتحمه أحد دون إذن. أكتشف أيضا أن الفجر أحلى من الشروق…”
كانت شرفتى على شاطئ هذه البحيرة فى حضن الجبل فجرا خالصا..”
الترحال الثانى: الفصل السادس ص 286 – 287
لاحظ: لاحظ كيف أن الحجرة الصغيرة – اختيارا – قد جمعت بين التشرنق والجبل والبحر فكانت “فجرا خالصا”.
……………………….
(16) “…طلبت من صديقى الذى كنت أزمع زيارته فى رين أن يحجز لى حجرة فى الريف الفرنسى الشمالى عند أسرة فلاحة أقضى فيها أغلب إقامتى فى فرنسا هذه المرة. أنا أحتاج إلى نقلة شديدة إلى أقصى الجانب الآخر، ياه !! أين اكتشافى أننى تخلصت من هذا الجذب الملح إلى الركن القصى، وأنه فى داخلى وأن هذا الجذب إلى الركنٍ فى الخارج لم يغننى شيئا، وأنه وأنه..؟؟ يبدو أننى مازلت غير مطمئن إلى مصالحة باريس. الخصام السابق أدى إلى أن يختزل باريس إلى الطقوس المعادة، والوجوه المتلفتة إلى غير وجهة، وِالخبز الذى أصبح يصنّع فى مصر فلم أعد أشتاق إليه. ليكن ريف فرنسا فى الشمال هو رحلتى إلى داخلى أكمل بها..”
الترحال الثانى: الفصل السادس ص 288
لاحظ: ثم اقرأ بدقة.. “كيف أن الرحلة الأهم هى إلى الداخل…”!
……………………….
وبعد
هكذا توقفت عن مزيد من المقتطفات وإنى آسف على التكرر اللحوح أيضا لكننى أردت أن أبين من كل ذلك ما يلى:
أولا: حجم خبرتى الشخصية فى جزء واحد من عمل واحد.
ثانياً: أننى كتبت كل ذلك دون أية رؤية للتنظير فى تشريح النفس وتركيب البشر.
ثالثا: أننى كنت أنتقل من ركنى الداخلى إلى ركنى الخارجى باستمرار حتى أننى أحيانا كنت أعجز عن التمييز بينهما.
رابعا: أننى أرجح الجذب إلى الركن الخارجى ليس مجرد إسقاط للحنين إلى الركن الداخلى.
خامسا: أن الركن ليس “مكانا” بقدر ما هو “حيز محدود من الأمان” سواء كان مكانا أو زمانا.
سادسا: أن الركن يمكن أن يتواجد وسط حشد من الناس.
سابعا: أن رحلات الداخل هى التى تعطى معنى وطعما واحتمال إبداع من رحلات الخارج.
ثامنا: أننى وضعت احتمالا ضعيفا ينبهنى إلى ضرورة أن أفحص ما ذهبت إليه من تنظير خشية أن تكون المسألة برمتها أمرا شخصيا توطرت فى تعميمه على سائر البشر.
……….
وإلى الأسبوع القادم.
نرجع للمتن لنرى الوجه السلبى لسوء توجه هذا النزوع.