نشرة “الإنسان والتطور”
16-9-2010
السنة الرابعة
الحلقة الواحد والأربعون
الثلاثاء:28/2/1995
فرح بوت
ربع ساعة
أو أقل
مرورٌ للسلام والطمأنينة
يوسف القعيد يتكلم عن دعوة للمغرب للاحتفال بعيد جلوس مولانا الحسن الثانى، والتعقيبات الضاحكة الخفيفة، والكلام السياسى الدائر حول نفسه، والأستاذ فَرِحْ بكل هذا فعلا، يبدو أن المواضيع ليست هى الأهم، المهم اللقاء والصحبة، هذا صحيح، أعيدُ اكتشاف أهمية “العملية” (أى عملية) عن “المحتوى” (أى محتوى)، أهمية “الدال” عن “المدلول”.
يصرفنى الأستاذ بالأمر وهو يوصينى بالالتزام بأكل عيشى.
حاضر.
السلام عليكم طِبْتم، إنْ ترضَى نَرْضَى
سلامٌ عليكم.
الأربعاء: 1/3/1995
قال الأستاذ موجها كلامه للأستاذ توفيق صالح: إنهم – يشير إلى المجتمعين – يريدون أن يعملوا عملا يتعلق بحرب اكتوبر وذلك بالاتفاق بين وزير الدفاع ووزير الإعلام على أن ينتهى فى 1998 أو حول ذلك، وأضاف إنه يخشى أن ينقلب هذا العمل إلى فيلم تسجيلى حيث لا يمكن تسجيل أحداث حرب شاملة فى فيلم هكذا، وإنما كل الممكن هو أن تأخذ حدثا محددا يدور حوله الحكى وتظهر الأحداث الجسام من خلاله، مثل فيلم مدفع نيفادو (لست متأكدا من الاسم) ، أو ما شابه، ويقره توفيق على ذلك.
حين عاد الحديث لاحقا عن كتاب هوفمان عن الإسلام وجهت حديثى إلى توفيق صالح مكملا نقاشا سابقا، قلت: إن الذى يدخِل الناس فى الإسلام هو سلوك المسلمين السليم والمختلف عن ما اعتاده المستكشف لهذه المنظومة الجديدة، وليس صياح الدعاة والمبشرين ومناقشاتهم العقلية، وافق توفيق وحكى كيف أن جارودى حين اعتقل فى الجزائر وأصدر القاضى أو القائد العسكرى حكما بإعدامه رميا بالرصاص رفض الجنود المسلمون تنفيذ الحكم من واقع إسلامهم ، وانطلاقا من هذا الحادث راح جارودى، يتساءل، ثم يبحث، حتى أسلم، وهو يشعر أنه مدين بحياته لأخلاق هذا الدين.
ذهب الأستاذ ”لتنشيط الحركة الثقافية”، وقبل أن يترك القاعة التفت إلى عادل عزت، (وكان قد قال إنه كتب قصيدة جديدة)، وقال: يا عادل لا تنس القصيدة، هذا الرجل يهتم دائما بمن حوله ويعلم تماما أن قراءة قصيدة جديدة عليه من أحد مريدية هو أمل هذا المريد بغض النظر عن قيمة القصيدة، وعادل كل قصائده جيدة، وهذا لم يمنعنى من أن أتذكر أن الأستاذ هو المجامل الدائم، والواعد الطيب، وحين عاد الاستاذ قرأ عادل القصيدة، ولم أتابعها بدقة، ولم أعجب بها كثيرا، وإن كانت فيها فكرة تعدد الذوات والأقنعة السبعة، وحين انتهى عادل وهز الأستاذ رأسه ومال إلى الخلف وقال ما يشبه “عال عال”، قلت له: والآن هل صدقتَ نظرية تعدد الذوات التى تحفظت إزاءها سابقا، قال الأستاذ ها هم “سبعة ” قلت: على الأقل. ولم يكن عادل حاضرا حين تكلمت عن هذه النظرية قبل ذلك، ولم يطلب الأستاذ مزيداً من الشرح.
تدرج الحديث إلى أيام كان يعمل الأستاذ تحت رئاسة يحيى حقى الذى كان يعمل بدوره تحت رئاسة فتحى رضوان مع بداية الثورة، وتحدثواعن فتحى رضوان وكيف رآه توفيق وهو يعطى دروسا (هكذا بدا) ليوسف السباعى فى ماهية الجمال وقواعد الفن، وذكر الأستاذ فتحى رضوان بخير كما يفعل مع معظم الناس، إن لم يكن كل الناس، وقلت له إننى عرفت فتحى رضوان فى ظروف ما، وإننى أحترم قدراته وتاريخه وعناده، لكننى آسف أسفا شديدا لموقفه من أمرين، الأول شماتته التى لم يستطع أن يخفيها فى مقتل السادات، وكأن اغتياله هكذا هو دليل خيانته، وأنه نال جزاءه وثبت خطؤه بهذا الانتقام، ناسيا أن “لنكولن” و”عمر بن الخطاب”، وغيرهما قد ماتوا نفس الميته، لكن فتحى رضوان مثله مثل حسنين هيكل راحا يؤكدان خيانة السادات بدليل نهايته، والأمر الثانى حين راح فتحى رضوان يتكلم عن نفسه أمامى باعتباره روائيا مقارنا نفسه بالأستاذ ولا يضعه فى موضعه اللائق، وذكرت للأستاذ أننى سمعت منه ذلك شخصيا، وقال الأستاذ إن هذا الأمر وارد، وقد وصله من كثير من الفنانين والكتاب، حيث يعتقد كل واحد – عادة – أنه أعظم روائى أو قصصى أو .. أو .. فى العالم، حتى لو لم يكن كتب سوى ثلاث أو أربع قصص قصيرة متوسطة المستوى، وأنه لا يعبتر أن هذا تطاول أو خطأ ، فمن حق كل واحد أن يضع نفسه حيث يتصور، وبيقين يتناسب مع رؤيته لنفسه. وأتساءل: “إلى متي؟ وإلى أى مدى يظل الأستاذ هكذا يفسر ويبرر ويقبل معظم الناس كما هم”؟ لكننى لم أعتبر ذلك هروبا أو مجاملة، فنقده لاذع حين يطلب منه ذلك موضوعيا لغرض بذاته، ورؤيته شامله، يعرف بها العيوب قبل الميزات، لكنه يتكلم عن الميزات – عادة – دون العيوب من باب التشجيع والقبول والاحترام، لا أكثر، وأظن أن هذا هو عكس موقف العقاد تحديدا، وحكى الأستاذ عن غرور أحمد سالم وهو يصور فيلم “المنتقم” وكيف كان يطلب أحيانا سيجارة أثناء التصوير فيقدمها له الاستاذ وإذا به يأخذها دون شكر، ثم أخذ الأستاذ يتجنبه حتى انتهى التصورير وحينذاك حن عليه قائلا: “إزيك يا نجيب” فقال فى نفسه “أخيرا؟!” عرفتنى يلعن أ…..”.
الخميس: 2/3/1995
اليوم هو أول أيام عيد الفطر، لكن عادات الأستاذ لا تعمل حساب عيد أو وقفة ، الخميس هو موعد الحرافيش وعلى العيد أن يعمل حسابه إن كان يريد ألا نجتمع فيه ألا يأتى يوم خميس، ، موعد الحرافيش قائم وثابت كما هو، و”من يعجبه!!”.
مررت عليه صباحا مع أسرتى، أولادى وزوجتى، وتصورت أن هذا تقليد يفرحه كما أفعل أحيانا مع أفراد أسرتى الذين لا أزورهم إلا فى العيد، لكننى لم اشعر أن ذلك كان مناسبا ، فقد كان الوقت باكرا، وهو لم يتوقع هذه الزيارة العائلية المفروضة عليه دون إذن مسبق، رحبت بنا السيدة حرمه ترحيبا مصريا كريما، ولم نمكث سوى دقائق معدودة وانصرفنا بسرعة وأنا خجلان، لا يصح أن نفترض فى الناس أن ما يفرحنا يفرحهم، أو أن ما يناسبنا يناسسبهم، كادت المفاجأة وتفاعله، كما تصورت برفضها، أن تغطى على الترحيب الدمث الطيب، وأسفت دون أن أشعر بالذنب.وتعلمت، وانصرفنا وأنا انتظر لقاء الحرافيش فى مساء ذلك اليوم لأتأكد من حجم خطئى.
فى مساء نفس يوم العيد، فى السادسة تماما –كالعادة- مررت عليه مع توفيق ونبهت توفيق أن مقلاة الفول السودانى مغلقة للعيد، ولم يصدق الأستاذ بسهولة ، وراح يردد هل أنت متأكد يا توفيق؟ ثم وافق بصعوبة أن نفوتّ السودانى الليلة.
ذهبنا إلى فندق ”فورت جراند” كما تعودنا قبل سهرتنا عند توفيق، كان الفندق مزدحما وفرح الأستاذ بالناس، وجدنا ركنا مناسبا فى البهو الكبير، أقبلت طفلتان: الواحدة تلو الأخرى وحيتا الأستاذ وذكرت إحداهما (فى التاسعة تقريبا) أسماء ما تعرف من قصص وروايات للأستاذ مثل: اللص والكلاب، وحب تحت المطر، والثلاثية.، وسَعِدَ الأستاذ بهما جدا
سألنى توفيق عن علاقتى بالأدب، وهل هى سابقة أم لاحقة لاشتغالى بالطب؟ فقلت له إنها تولدت من اشتغالى بالطب، وأننى لا أعتبر نفسى أديبا بقدر ما كان اجتهادى موجها إلى البحث عن وسيلة للتعبير عن ما تعرى امامى من بشر بما فيهم نفسى، وذلك أثناء ممارستى مهنتى، وحين عجز المنهج العلمى المتاح لى عن الوفاء بإبلاغ الرسالة التى وصلتنى، قفز إلىّ هذا الاحتمال الآخر، فهو الأدب. لكن الأستاذ عقب على ذلك أنه يرجح أن الموهبة لابد أن تكون موجودة قبلا، وإلا لكان كل طبيب أصابته هذه الجرعة من الكشف أو تعرية الوعى قادرا على أن يكون أديبا، بشكل أو بآخر، وأضاف الأستاذ أنه يرجح أن الفضل فى ميولى الأدبية يرجع إلى والدى (الذى كنت أحكى للأستاذ عنه كثيرا وعن حوارى معه واستشهادى بمقتطفاته فى الشعر والأدب)، وقال توفيق للأستاذ بل إن تأثير والده عليه ترك بصماته فى موقفه المتدين الذى استشعره منى من خلال عشرته لى حتى الآن، واستمهلت توفيق حتى يقرأ لى ما يكفى للحكم، لكنه استطرد أنه وجد فى أسلوبى شيئا مختلفا، وأن هذا الشيء المختلف قد يكون مزية وقد يكون عيبا، وهو يرجح أنه جاء نتيجة لتأثير علمى على أدبى، واعترفت أن هذا وارد، وأنه لن يهدينى إلى تناسب جرعة التأثر العلمى إلا ناقد أمين، واعترفت مع ذلك أننى أرعب من النقد، مع أننى أستفيد منه إلى أقصى مدى، قلت لتوفيق: إننى أتمنى أن يمر على كل ما كتبت وخاصة شعرى بالعامية، وحكمة المجانين، وأدب الرحلات (الناس والطريق) من يجد عنده الوقت والاهتمام، ثم يقول لى عنى ما يرى ، فأرى، أو لا أدرى…..، ويبدو أن توفيق التقط رعبى واهتزازى أمام ملاحظاته فراح يطمئننى بأدب جم نافيا أنه ناقد، أو أن له حق فى إبداء هذه الملاحظات، ولكنه يقول ملاحظات مبدئية لا يحق لها أن تظهر هكذا إلا بعد أن ينتهى من قراءة ما أعطيته (مجموعة قصص قصيرة والرواية الجزأين الذين ظهرا، لم يكن قد ظهر الجزء الثالث بعد) قلت له إن ما يهمنى، وما أتعامل به معه، هو أننى أعتبره “وعى نقى، ويقظ” وهذا يكفينى، بل هذا هو ما أحتاجه تحديدا، وسُرََّ هو والأستاذ من هذا الوصف.
مـرّّ أمامنا – بالصدفة – محمود يس، وانتبه إلى وجودنا فأقبل يحيِّى الأستاذ، فرد عليه التحية باعتباره نزيلا عابرا تعرف عليه، لكنه لاحظ أن حديثه طال مع توفيق وعند انصرافه سأل الاستاذ توفيق: من هذا؟ فقال له فلان، فأحرج إحراجا شديدا وشعر بالتقصير أنه لم يحِّيه باسمه، ولم يهدأ إلا حين نادى توفيق محمود يس وهو يمر ثانية ليقول له الاستاذ وهو يقف له: أهلا يا أستاذ محود، آسف.
آسف على ماذا يا شيخى الجليل، ما أرق شعورك.
سألت الأستاذ إن كان قد قرأ كتاب أنيس منصور “كانت لنا أيام فى صالون العقاد” قال إنه يذكر أنه ظهر وهو مازال يستطيع القراءة، وأكد على ذلك توفيق، وأنه سمع أنه من أحسن كتب أنيس، ولكنه لم يقرأه، وقال “لقد شعرت أننى لا أحتاج لقراءته ، فأنا أكاد أعرف المكتوب فيه معرفه ربما لا تحتاج إلى مزيد، ثم قال: “العقاد فى دمى”، ثم إنى أعرف الكاتب أيضا، فكأنى سأقرأ ما أعرف بقلم من أعرف عن من أعرف” وقد أحسست أن الأستاذ قد استغنى عن قراءة هذا الكتاب بوجه خاص، ربما لأسباب أخرى، ففى رأيى أن أنيس لا يتورع أن يدش حكاوى على أنها حقائق قاصدا أو مستسهلا، وذكرت رأيى هذا للأستاذ، فهز رأسه وكأنه يوافق، لست متأكدا، وضربت مثالا لذلك حين ذكر أنيس، نقلا عن أحمد أمين بتعميم لم أستسلم له بسهولة قال : إن هيكل باشا قد وقف بجوار الرسول يدافع عنه، أما طه حسين فقد وقف وراءه يؤرخ له، والعقاد وقف أمامه يرسم له الطريق، أما الحكيم فقد دار حوله يصفه من بعيد، وضحك الأستاذ لهذا التشبيه، وقال: حقيقة لقد كان العقاد يرسم للشخص طريقه، ولقد ثارت قضية حول عنوان دراسته “عبقرية محمد”، حيث أنه لو أقررنا بعبقرية محمد هكذا فلربما ذهب الظن إلى أنه صاحب الفضل فيما جاء به من فكر، وما أضاف من إنارة، وكأننا ننفى، أو نقلل من قيمة الوحى والتنزيل، ذكر الأستاذ أنه سمع أن العقاد كان قد أرسل لأنيس الكتاب قبل أن ينزل إلى الأسواق إلى الشيخ بخيت (لست متأكدا من الاسم) شيخ الجامع الأزهر آنذاك وحين قرأه لم يُجِزْه فحسب وإنما قرره على طلبة الأزهر عموم القطر، وقلت للأستاذ إن العقاد فى عبقرياته، وفى نقده، يرسم الشخصية من ذهنه ثم يحشر فيها النص حشرا فيوفق حينا ويخطئ حينا، فوافقنى الأستاذ على هذا، أو على بعض هذا، أو وافقنى بعض الموافقة على ما يمكن أن يكون هكذا، وقلت له وماذا عن أنيس منصور عندك، ماذا تقول فيه ؟ قال إنه شخص شديد الذكاء حاد الذاكرة ولكنه لم يستعمل هذا أو ذاك فيما كان يمكن أن يكون إضافة حقيقية، وقال توفيق: مثلا كتابه هذا الذى نتحدث عنه، كان يمكن أن يكون فرصة حقيقية يؤرخ بها لولادة أغلب التيارات الثقافية فى هذه الحقبة، فهو بما يستوعب، والحضور بما يمثلون من اتجاهات فكرية مختلفة أنشأت بعد ذلك تيارات ومدارس مازال أثرها قائم حتى الآن كان يمكن أن يرسم أنيس لنا خطوطا ومعالم يستحيل أن نحصل عليها من غيره، لكن غلبت عليه الطرافة والقفز، فخرج الكتاب رائعا كما هو، لكنه ليس كافيا ولا شافيا – قال الأستاذ: إن أنيس منصور الذى درس الفلسفة وكاد يصبح أستاذا لها فى الجامعة، وهو الذى قرأ بموسوعية لا جدال فيها، لم يركز فى موقع خليق به مثل أستاذه عبد الرحمن بدوى، وتراجع إلى كاتب صحفى، ثم كاتب مقال، ثم كاتب عمود، وإنك إذا تابعت عموده لوجدته يأتى على رأس العواميد اليومية من حيث الطرافة، لكنه يكاد يمثل أدناها من حيث جدية الاهتمام أو إضافة الجديد لحل مشاكلنا اليومية.
وأحكى للاستاذ إضافة إلى نكتة حكاها له توفيق أمس حين دخل مدرس الدين الفصل وهو ينشغل بأمر يهمه، فسأل أحد التلاميذ عن اسمه فقال” طه، فقال له سمّع سورة طه، والتفت إلى طالب ثان وسأله أنت؟: قال يس: قال سمع سورة يس، وحين سأل الثالث عن اسمه وكان اسمه ”عمران”، خاف أن يطلب منه أن يسمع سورة آل عمران، أجاب بسرعة” إسمى عمران ولكن بيدلعوى يقولولى يا “كوثر” (حتى يكتفى بتسميع سورة الكوثر)، قلت للأستاذ إن الحس السياسى المصرى الساخر أضاف إلى النكتة تلميذا رابعا اسمه “حسنى” خاف أن ياتى عليه الدور ويقول اسمه فيطلب منه المدرس أن يسمع سورة البقرة.
ولم يتمالك الأستاذ إلا أن يضحك، لكننى شعرت بخجله وحرجه، وربما رفضه، فتوقف وكأنه قطم الضحكة تأدبا.
عدنا إلى منزل توفيق، حرافيش الليلة – أول أيام العيد- ثلاثة فقط، لم نزد فى بيت توفيق، تصورت أن الحديث سوف يكون أقل حرارة، وأنه سوف يفتقر إلى التنوع والحوار، لكن هذا لم يحدث، تطرق الحديث إلى أن كسر عادات العيد (والعادات الشعبية والقومية عامة) إنما يساهم فى كسر ما تبقى من معالم قومية، وقلت للأستاذ إن أخشى ما أخشاه من الحكم الإسلامى (الديني) القادم هو أن تؤكد السلطة على ترويج الفتور وتسويق البلادة ، تصورا منهم أن ذلك هو ما يمثل النفس المطمئنة، وقلت إن الحرية الحقيقية والسلوك القرآنى هو الذى يجذب الناس إلى هذا الدين البسيط الفطرى المباشر، لكن رشوة الناس بقشور تفسيرية للنصوص، ثم سجنهم فى تصورات جامدة للمنظومة الدينية هو الخطر الحقيقى، وأن الشباب الآن يختارون بين بلادة دينية مصمتة، وميوعية استسهالية لزجة، فيقول توفيق: ولكننا نحن المسئولون عن ذلك، فأسأله: أى مسئولية يشير إليها، نحن أفراد محدودو القدرات ولسنا مؤسسات سياسية أو فكرية أو تربوية، ماذا تطلب من الأستاذ – مثلا- غير ما فعل وكتب ونشر ودفع ثمنا لكل هذا ما نحن فيه الآن، وكان يمكن أن يدفع حياته ثمنا لموقفه، ماذا تريد أن تفعل أنت وقد نسوك تماما طوال ربع قرن من الزمان، ثم ها هم يستدعونك فى لجان تحصيل الحاصل دون فرصة حقيقية، ماذا يمكن أن أضيف أنا غير طرق كل باب بقلمى حيثما أتيحت له فرصة الظهور، والحديث بكل لغة لعل وعسى، إن الأفراد أمثالنا الذين يبرئون ذمتهم قد أرضوا ضمائرهم وأدوا واجبهم، لكن كل ذلك لا يثرى شبابا ولا يغير مصيرا، وإن موقف المؤسسات ومؤسسات السلطة بالذات من فراغ الشباب وميوعة الآراء هو المسئول عن ما صرنا إليه.
ويأتى ذكر بداية التراجع أمام الضغط الدينى، ولكن بدون بديل حقيقى، فيتذكر الأستاذ إلغاء البغاء الذى أقدم عليه إبراهيم عبد الهادى بعد حل جماعة الاخوان المسلمين، وهنا تعرفت على جانب إنسانى عميق من موقف الأستاذ، وقلت له إننا لو جمعنا خط “البغايا” فى أعماله لخرجنا بمفهوم متكامل – من وجهة نظره -لهذه القضية وهذه المهنة، وحكى لنا الأستاذ كيف واجه البغايا قرار إلغاء عملهم بالأسى على الرزق، ولكن أيضا بالفرحة المعلنة والخفية على أنها “جاءت منهم”، وكيف أن كل واحدة منهن (باستثناءات قليلة) كانت لا تدعو لنفسها، ولزميلاتها إلا “بأن يتوب الله علينا ” وكيف.. وكيف..، ويقول الأستاذ إن توقف الإصلاح عند مستوى المنع والإلغاء فحسب لا ينبغى أن يكون الوسيلة الأمثل لمواجهة المشاكل. وأن الزواج بمتطلبات العصر أصبح أيضا أقرب إلى المستحيل.
وأشرح للأستاذ وجهة نظرى فى تفسير الحديث “من استطاع الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء له” وأقول إن الصوم هنا هو كف النفس عن ممارسة الحرام جنسا، وليس الصوم – كما يروج له رجال الدعاية الإسلامية الامتناع عن الأكل والشرب لفترات معينة، فالصوم عن الأكل لا يقلل الشهوة الجنسية ، ولا يروضها، وأحكى للأستاذ كيف يستقبل طلبتى فتوى الإمام بن حنبل التى أرددها أحيانا فى المحاضرات حين يسألوننى عن العادة السرية، وأقول لهم إن هذا الإمام – على تقواه وورعه- أفتى أنها فضلة من فضلات الجسم تفصد كما يفصد الدم الفاسد، وأنها إذا مورست لدرء الشهوة فهى حلال، أما إذا مورست لجلب الشهوة ، فهى حرام، ثم إنى كنت أضيف لطلبتى مازحا أنه ليس معنى ذلك أن يخرجوا من المحاصرة ليقوم الواحد منهم بالواجب وهو يقول: “نويت الاستمناء على مذهب الإمام بن حنبل”.…الخ
ويجرنا الحس الفكاهى لتذكر دعابة تنسب للعقاد حين سئل عن أم كلثوم إن كانت آنسة أم سيدة، فأجاب لست متأكدا، لكن كل الذين تزوجوها ذكروا أنها آنسة.، ويضحك الأستاذ مرغما – كما تصورت- لعلمى الشديد بحبه الجميل لهذه السيدة الرائعة.
وفى طريقنا للعودة ونحن ندخل العمارة التى رصعوها مؤخرا بالرخام، والتى يمسحونها بمادة لزجة حاليا، ونسير ببطء شديد وأنا أتأبط ذراعه خشية الانزلاق، فيقول الأستاذ مداعبا : إنه حلم أنهم قـد بلــّطوا الرخام حتى لا ينزلق عليه أحد،
وأفرح أن روح الفكاهة صاحبتنا حتى باب الشقة
اليوم أول أيام العيد،
وقد كان كما ترون
عيد خفيف جميل رشيق
أليس كذلك ؟