نشرة “الإنسان والتطور”
25- 3 – 2010
السنة الثالثة
الحلقة السادسة عشر
الاربعاء: 18/1/1995
ذهبت إلى العوامة ”فرح بوت”، مباشرة بعد أن رافق محمد يحيى الأستاذ من منزله إلى العوامة، ذلك أننى كنت قد فكرت أنه قد آن الآوان أن أعيد تنظيم وقتى لأستطيع أن أواصل القيام ببعض ما تراكم علىّ من واجبات وسط مسئولياتى المتنوعة، كل يوم، كل يوم، كل يوم، هذا شرف لى وهو يفرحنى من حيث المبدأ، لكن لا أظن أن الأستاذ بالذات يرتاح لذلك أو يريد أن يكون الأمر كذلك، أحسست أن الآوان قد آن فعلا أن اقتنص لى يوما أو أكثر فى الأسبوع، أمارس فيه ما تيسر من أعمال أخرى، دخلت العوامة، فوجدت الغيطانى نشطا فى حكى ما جرى فى معرض الكتاب، والأستاذ ينصت رافعا حاجبيه بهذه الدهشة المحببة، وكان محمد يحيى قد عقب على هذه الدهشة المتجددة مع رفع الحاجبين، قال محمد – لاحقا- أنه كان يتصورلأول وهله أن رفع حاجبيه هكذا هو لازمة، أو أن تقاطيع وجه الأستاذ هى هكذا طول الوقت، لكنه اكتشف أنه تعبير عن دهشة مستمرة ومتجددة، هذا هو فى هذه السن، الحمد لله، ربنا يخليه .
أعاد الغيطانى ما دار حول ضرورة تأصيل اللغة العربية أملا فى الوحدة الثقافية العربية، وأن هذا هو الهدف المشترك المناسب أو المتبقى لنا بعد كل هذه الفـُرقة والتخثر، وألمح إلى إنشقاق المثقفين عن عامة الناس لدرجة العزلة أو الفوقية، وأن هذا ما أكده فاروق خورشيد وهو يتكلم عن الأدب الشعبى وإهماله، كما ذكر تأكيد جابر عصفور على ضرورة عدم تدخل الدين فى السياسة، كل ذلك وهو يحكى عن أحداث معرض الكتاب، والأستاذ شديد الإنصات شديد الاهتمام، وذكر الغيطانى مديحا قويا وصادقا فى رواية صدرت عن روائى غير معروف (جديد نسبيا) هو “فتحى إمبابي”، ذكر اسمها “مراعى القتل”، وهى هى نفس الرواية التى كان الأستاذ توفيق صالح قد ذكرها للأستاذ بمديح طيب منذ أيام، لكن أن أسمع من الغيطانى، الروائى جدا، وهو يصف النقلات والتداخل السلس بين أحداث وآثار حرب 67 ( وهو المراسل الحربى أصلا) والتراث الشعبى، وما يجرى للعمال المصريين العاملين فى ليبيا كنموذج لما يلحقهم فى العالم العربي، أن أسمعه وهو يمدح كل هذا بكرم وطيبة، جعلنى أحترمه ناقدا كما أحبه روائيا، يفرح الأستاذ حين يسمع عن عمل جيد من مصرى أصغر، راح يستزيد من شرح الغيطانى للتكنيك الذى أتبعه الكاتب وهو يضفر التراث الشعبي، بالقهر المعاصر فى الغربة، بحرب 67، فى سلاسة وحبكة، يؤيده توفيق صالح – وهو نادرا ما يفعل – ويحكى بدوره بنفس الحماس وبعين المخرج عن نفس الرواية ونفس المؤلف، رحت أتابع فرح الأستاذ مثل فرح الوالد أو الجد الذى أنجب أبناء وأحفادا يحملون الراية (كان لهذه الرواية قصة لاحقة ، فقد ناقشناها فى الندوة الشهرية لجميعة الطب النفسى التطورى لاحقا بعد سنوات، وكتبت فيها نقدا لم ينشر بعد، كما عرض توفيق صالح استعداده لإخراجها بعد سنوات، وتصورت أنه سيكون عملا سينمائيا عملاقا، وخاصة بعد أن شاهدت له فيلم “المخدوعون”، إلا أن المؤلف المهندس فتحى امبابى – كما أبلغنى توفيق مصادفة – طلب من المنتج مبلغا خياليا، وتوقف المشروع للأسف حتى الآن 2010 على حد علمى).
قلت للغيطانى فجأة : (ربما من فرحتى با كتشافى له عن قرب هكذا) متى تنتقل نقلتك الثالثة؟ قال ماذا تعني؟، قلت ”أتصور أنه قد آن الآوان، أو آمل أنك لابد أن تفعلها” قال : أفعل ماذا؟ قلت: لابد أن تتجاوز المرحلة التراثية بعد أن غرقت فيها وحذقت لغتها، وأعدت إبداعها بكل هذا الإتقان. ظل تساؤله قائما على وجهه،، قلت وأنا أجازف بعرض تصوري أو آمالى: إنى أتصور أن المرحلة الثالثة هى أن يقرأك قارئ لا يعرفك، فيشعر أنك تكتب بلغة عادية، بتشكيل عادى، لا يذكرّه بأى شكل من أشكال التراث، وفى نفس الوقت يصله زخم التراث وريحه وصقله وتكامله، أجاب فى طيبة مرحِّبة وقد وصله ما أعنى :” أظن أننى بدأت هذه المرحلة التى تشير إليها، وأحسب أن “متون الأهرام” تدل على ذلك، هل قرأتها؟” فأجبت بالنفي (وللأسف لم أقرأها حتى الآن 2010) ، قال يبدو أنك لم تقرأنى مؤخرا، ووافقت، واعتذرت، وقلت سأقرأها ثم نعاود الحوار”، كان الأستاذ يتابع الحوار حيث تعلمت أن أن أميل على أذنه اليسرى وأنا أخاطب أيا من الجالسين، علمت أنه كان يتابعنا حين تابعت هزات رأسه كالعادة، فخيل إلى أنه راض عن هذا الحوار، أو عن تقاربنا، حتى تصورت أنه يمد ذراعه على كتف أحدنا ويمد الأخرى على كتف الآخر، ويربت علينا، ويقرب رأسينا إلى بعضهما، شعرت بهذه الهدهدة، ورضيت بها جدا، ودعوت له بالسلامه وطول العمر.
حضر هذه الجلسة الأستاذ على الشوباشى الذى يقيم فى باريس كممثل لإحدى وكالات الأنباء الفرنسية منذ سنين، وهو شقيق شريف الشوباشي، وأظن أنه قريب تماما لفريدة الشوباشي، وخجلت أن استفسر، ودار الحديث حول السياسة والاقتصاد والأمن والناس، تكلم الشوباشى عن كارثة المكسيك التى على وشك الإفلاس نتيجة للطاعة العمياء لتوصيات البنك الدولي، وسألت عن مدى المسئولية التى تقع على البنك الدولى حين تحدث كارثة مثل هذه نتيجة لتوصياته،؟ قالوا “ولا حاجة”، وتحول الحديث إلى اقتراح التوصية بتخفيض قيمة الجنية المصرى لزيادة الصادرات، وقيل إنه ليس عندنا صادرات تبرر ذلك، ولم نعد نستطيع المنافسة، وأشار على الشوباشى إلى ضعف مصداقية التصدير، وضرب مثلا لما حدث فى رسالة صدرت من البرتقال و اليوسفى والبصل، فقال حسن ناصر كلاما يربط بين نسبة رطوبة البصل والسعر العالمى وسرعة الفساد قبل أن يصل إلى أسواق أوربا، كلامٌ صعبٌ علىّ متابعته، لكن الأستاذ يميل إلى الأمام بكل انتباه، يحاول أن يتابع النقاش باجتهاد رائع، لكنه يبدو أنه لم يتمكن تماما، فيقول لحسن حين ذكر البصل: “صِِِِِنّ شوية” وقل لنا ماذا تعنى تفصيلا”، ونلتقط قافية إبن البلد، ونضحك جميعا، ويقول الغيطانى فرحا: هذا هو نجيب محفوظ، قد عاد، وأفرح وأدعو لهما، وتغلب روح الدعابة على الأستاذ فيشير إلى جمال الإشارة التى نعرف معها أنه يريد الذهاب إلى دورة المياة، وقد سبق أن تبادلنا الدعابة فى هذا الشأن، وكنت اسمّى هذا الإستئذان، أنه لتسديد الرأى، استشهادا بالفتوى الفقهية الرائعة أنه “لا حكم لحاقن”، والتى احترمتها للتأكيد على تحرى الموضوعية والعدل، لأن امتلاء المثانة قد يعوق التفكير السليم، ومن ثم الحكم العادل، وأقول للأستاذ فهمى لهذا الحكم فيفرح به، ونبدأ فى استعمال التعبير “تسديد الرأى”، بدلا من ” الذهاب للحمام أو للدورة”، أذكر أننى حكيت للأستاذ أن لى موقفا من هذا الطقس، حتى أننى اعتدت أن أتعرف على مدى حضارة بلد من البلاد التى أزورها بمدى نظافة هذه الأماكن التى ”نسدد فيهاالرأى”، لأنه كان يصلنى من ذلك بشكل ما دليل على مدى احترام الآخرين، قلت له هذا أننى كنت أفرق بين لا فتة تقول “أرجو أن تدع المكان كما وجدته” (المقصود : نظيفا كما وجدته)، وأخرى أكثر دقة تقول “أرجو أن تدع المكان كما كنت تحب أن تجده” (خشية أن تكون قد وجدته قذرا أو غير لائق)، ويفرح الأستاذ بهذا التمييز، ويصله ما أعنى من ذلك، فأضيف أننى كنت أستنتج الموقف الحضارى بمعنى أنه يشير إلى حضور الآخرين فى وعى الفرد وهم غائبون عن حواسه. ثم يمضى الأستاذ وهو يتأبط ذراع جمال، وهو يقول: “.. نذهب لقياس درجة تحضرنا”، وتغلبه روح الفكاهة فيضيف ” أو ربما لتنشيط الحركة الثقافية”، ويضحك، ونضحك.
يتكلم على الشوباشى عن إبنه الذى غادر مصر فى سن سبع سنوات، ثم عاد ليعمل بها رغم أنه تزوج من فرنسية، وأنه تربى هناك، ويناقش الأستاذ موضوع فتحه بحثا عن أسباب من يفضل البقاء فى مصر من الأجانب، وأذكر حكاية زوجة زميلنا السورى الذى كنت أقابله بانتظام أثناء كنت أتولى مهمة مقرر لجنة الامتحانات فى الزمالة العربية للطب النفسى، وكنت أذهب مرتين إلى دمشق لألتقى بالزملاء العرب لمواصلة هذه المهمة التى قد أعود للحكى عنها إذا أتيحت الفرصة، زميلنا هذا اسمه “.د. حنا خوري” وهو متزوج من إنجليزية رقيقة، تعرفت عليها فى منزله فى منتجع قريبا من أعلى جبل بلودا ، حكيت للأستاذ أن د. حنا اقترح على زوجته الإنجليزية أن يقضيا آخر أيامهما بعد المعاش فى بيتهما فى لندن، فإذا بها ترفض متسائلة: “لماذا؟”، ثم تضيف ” هل يمانع أهلك أن أدفن فى مدافنهم؟”، ثم تنتهز الفرصة وتستأذن أهله فعلا أن ترقد بجوارهم بعد أن ترحل، إلى هذا الحد يمكن يرتبط إنسان أجنبى بأرضنا العربية حتى يمتد تصوره إلى امتداد جسده، بجوار أجسادنا، يحيطنا تراب وطننا معا، وأتساءل: ” فلماذا انفصلنا نحن العرب، بل والمصريين، عن بعضنا البعض هكذا ونحن ما زلنا أحياء فوق أرضنا لا تحت ترابها بعد؟ ، ويضيف على الشوباشى – ربما ردا على سؤال ما – تفسيرا لا يقنعنى تماما عن سبب عودة ابنه، وهو أن البطالة تتزايد فى أوربا وإبنه حامل الليسانس من السوربون لا يجد فرصة حقيقية لعمل مناسب هناك، وأن الذين لا مأوى لهم فى باريس (الكبرى) وحدها يبلغون أربعمائة ألف، فيتعجب الأستاذ ويعقب: “ياه!! مهما بلغت بلد من حضاره وثراء لا يمكن أن ترضى كل أبنائها أو تكفلهم”، وتستمر المقارنة بمصر، وأنه لا يوجد ما يسمى إنسان بلا مأوى حقيقي، حتى سكان المقابر لهم مأوى مدحته للأستاذ أثناء عودتنا فى السيارة، معترضا على تصور سكان العمارات البلاستيك، قلت “إننى أذهب إلى المقابر أحيانا لا لأزور الموتى، ولكن لأجالس بعض من تعرفت عليهم من ساكنيها، فأمضى بعض الوقت معهم على مصاطبهم الجميلة الملاصقة للقبور، وأشاهد أولادهم وهم يلعبون حولنا، وأفرح بمجموعة هذه المساكن ذات الدور الواحد، وأنه لا يوجد أحتمال أن تشهق المقابر لتصير ناطحات سحاب، وأتأمل الفضاء المحيط بين كل مسكن ومسكن، قبر وقبر، وأشعر كيف يمتزج الحى بالميت فى تصالح آمن، ويصلنى أن الموتى يأتنسون بهؤلاء الأحياء الطيبين مثلما يأتنس هؤلاء الأحياء بهم، وتصلنى حرارة العلاقات بين الجيران أوثق مائة مرة منها بين سكان عمارة شاهقة لها ثلاثة مصاعد لا يحيى أى ساكن جاره حتى لو ضمهما المصعد وحدهما، واقترحت بدلا من أن نحكم على بؤسهم من مقاعدنا المرتفعة ونحن نجلس أمام مكاتبنا، أن نسمى مساكنهم تلك ” منتجع المتواصلين”، مثلما يسمى أولاد البلد ماء الطرشى فى الحسين “خمر الصالحين”، ويضحك الأستاذ.
ويمتد الحديث عن البطالة عبر العالم إلى أيام الإتحاد السوفيتى، ويقول الأستاذ ” إنه بالرغم مما سلبه هذا النظام من الأفراد من الحرية الشخصية وحرية التعبير، فإنه حقق لهم العمل والمأوى على الأقل، فأعلق: “لكن يبدو أن الصفقة كانت غير متكافئة “، ويأتى ذكر ستالين وعدد من أعدم، وأعداد من شرد، فيوافق الأستاذ متألما، فأضيف: ” يبدو أنه ثم فترات فى التاريخ يحتكر فيها الحاكم الإجرام بالقانون!!”، فيلتقط الأستاذ التعقيب ويفرح به ويميل إلى الخلف ضاحكا، ويترجمه إلى أن هذا هو بمثابة “ تأميم الجريمة”، ويضحك الجميع (!!!).
يعود خيط الحديث إلى الغيطانى الذى يذكر لنا لقاءه مع رجل أمن مهم، مازال يشغل منصبه بكفاءة، وأنه استنتج من حواره معه ما يطمئن إلى متانة قبضة الدولة على ما يجرى فى كل مكان، وحين أتشكك سرا وعلنا، يضيف جمال: ” إن الدولة فى مصر – وربما فى العالم أجمع – هى البوليس والجيش، هكذا نستقبلها فى الصعيد، وهذا هو الأصل الحقيقي لمفهوم الدولة عبر تاريخ مصر”، وأترد فى قبول هذا الرأى وأتحفظ عليه مشيرا إلى أن البوليس والجيش هما يد الدولة القوية فى الداخل والخارج على التوالي، لكنهما ليسا الدولة هكذا دون شارع سياسى ودون دعم جماهيري، ودون انضباط تعليمى، ودون مشروع قومى، ويهز الأستاذ رأسه، وأتصور الموافقة.
يتطرق الحديث إلى أمور طيبة أخرى كثيرة، جادة وعابرة، وأتصور أننا فى مجلس شورى شعبى تلقائى، وينتهى اللقاء لأرافقه حتى المنزل، ويذكرنى وأنا أودعه: أن “لا تنسى الخميس موعد الحرافيش”، فأطمئن إلى موقعى الجديد الحقيقى فى وعيه الحرافيشي، لكننى لا أنسى ما قررته بينى وبين نفسى، وهو أننى ما زلت تحت الاختبار، “ظهورات” حرافيش لم أتثبت بعد. .
فعلا: لم أقتنع بعد بأننى أصبحت حرفوشا رسميا، حتى بعد تصريح الأستاذ لتوفيق بأننى: “آخر الحرافيش”..
اعتذار للمراجعة
أعتذر اليوم عن تقديم الجزء الثانى بعد نقاش دار بينى وبين إبنى محمد عن المنهج، خاصة وقد جاء ذكره فى هذه اليوميات الباكرة أكثر من مرة،
وسوف أقدم الجزء الثانى – من كراسات التدريب- مستقلا الأسبوع القادم.