نشرة “الإنسان والتطور”
28-10-2010
السنة الرابعة
العدد: 1154
الحلقة السابعة والأربعون
السبت 1/4/1995
اسبوعين إجازة (15 – 31 مارس)، فرصة، أرى كل هذا الذى كان والذى يجرى عن بعد، كنت قد سافرت إلى دمشق عبر الأردن، ومنها إلى أنطاكيا (وضاحيتها حربيات) فالإسكندرونه ثم عدت، وكان من بين أهداف امتداد السفر العلمى الترحالى إلى هذه الاستراحة البعيدة أن أكمل ما رسمت له تدريجيا من نقلة الابتعاد المنظم عن الاستاذ، وأيضا أن أنظر من على مسافة إلى هذا الذى كان خلال ثلاثة أشهر، كان الاستاذ معى طول الوقت – طبعا – لكنه لم يكن معى بالمعنى السائد” سواء من ناحية الاشتياق أم من ناحية الانشغال، بل كان معى بمعنى “الاجترار” و “التمثل” لما بلغنى منه، وتعلمته، أو حاولت أن أتعلمه.
مررت على الاستاذ بمنزله مساء أطمئن، كان زكى سالم هناك، عجبت، فعادةً زكى لا يحضر هذا اليوم الذى خصصه الأستاذ لمقابلات وارتباطات أخرى، شرح لى الأستاذ الموقف: وقال إن يوم السبت هو يوم سلماوى وأكمل: يعنى يوم الأهرام، وسلماوى مسافر إلى إسبانيا، فوجدت نفسى سوف أقضى كل بعد الظهر وحدى خاليا، فاستنقذت بزكى سالم، ولولا أن حضر لما عرفت كيف أمضى هذا اليوم، إلى هذه الدرجة لا يطيق الأستاذ أن يمضى ولو بعد ظهر يوم واحد وحيدا، يبدو أن الإعاقات الحسية قد أحوجته أكثر فأكثر لما هو “ناس” و”نحن” –الأصدقاء المنتظمين- أقرب عيّنه من الناس بعد أسرته الكريمة، تبينت أكثر فأكثر إلى أية مرحلة قد وصلت به الإعاقات الحسية وأى التزام قد تصدينا له، وأيه خسارة كبيرة لنا وللأستاذ لّحقت به وبنا مما أراده الله بهذه الإعاقات المتأخرة، ومع ذلك فهو قدرها وأكثر (قدّها وقدودْ).
سألنى عن العطل الذى أصاب عربتى وأنا عائد بها من الرحلة، وكان قد بلغه النبأ، قلت: إنها عملتها قبل العقبة بأربعين كيلو مترا، وأنى تحايلت على العطل حتى وصلت إلى العبارة، وأنها حافظت على العهد حتى وصلنا نويبع وخرجت بها من العبارة بالكاد، لكنها رفضت الحركة بمجرد أن خرجنا من الميناء، وأنها بذلك عملت الأصول وزيادة، إذْ قدرت ظروف الغربة، وحدثته عن علاقتى بها، وكيف أن عربتى صديقة كلها نظر، عوّدتنى ألا تعملها إلا حين تضمن اللطف أولاً، وضحك الاستاذ، سألنى عن الرحلة وعن الصحة، وأجبت باختصار مشيرا إلى إجراءات جمرك نوبيع السخيفة التى لم تحترم مهمتى العلمية، ولا أستاذيتى، ولا إسمى بالمقارنة بما لقيته من احترام الأردنيين والسوريين، بل إن الاتراك أكرمونى أكثر من كل هؤلاء العرب والمصريين، كان يطلب التفاصيل حتى تصورت أنها دراسة مقارنة عبر كل الحدود التى عبرتها بالسيارة، جرّنا الحديث إلى موضوع احترام إنسانية الانسان، وقلت له إننى لاحظت فى أغلب البلاد التى مررت بها أن ثمة دولة هناك بغض النظر عن الأيديولوجى أو نوع الحكم، أما عندنا فتوجد عضلة بوليسية متضخمة وعمياء فى جسد دولة هزيل غير متآزر، وأن هذه الإجراءات المضحكة التى تجرى عند الوصول إلى نوبيع هى إجراءات مهينة فعلا مهما كانت التبريرات لضبط المفرقعات أو المخدرات، بل هى إجراءات تعلم الناس السذج أين يخبئون مايريدون فى المرات القادمة، قلت له إن الأمر قد وصل إلى درجة أنهم رفعوا غطاء منقى (فلتر) الهواء ليروا إن كنت – أنا الاستاذ الجامعى فى مهمة علمية – قد خبأت فيه هذا السلاح أو ذاك المخدر إلخ، وبعد حديث معاد أجبت به عن بعض تساؤلات زكى سالم عن السفر، عاد الاستاذ يستدرجنى، شرحت ما ينبغى إيضاحه عن نوع هذه الأسفار التى تقربنى من الناس الذين لا أعرفهم ومن نفسى ومن الطبيعة، فتجعلنى أعيد النظر فيما أحمل فى عقلى ووجدانى، وكيف أنها تتيح لى فرصة معايشة “ما ليس كذلك” وأنها تفك قيدى المتواصل فى عملى فى بلدى وأنا مربوط فى عجلة الاستعباد اليومي، وقلت له مرة أخرى: إن السفر عندى هو تقليب للوعى، أما التنقل بين فنادق الخمس نجوم فى بلاد مختلفة فهو يمحو فضائل السفر محوا، بل إنه تنقلات قد تؤخذ “بالناقص” بأن توهمنى بنقلة تثبت أكثر ما أنا فيه، ثم قلت له كيف وصلنى احتمال أن اغلب الأردنيين حتى من أصل فلسطينى يحبون مليكهم، وتحفظ زكى سالم على ذلك قائلا إن معظم العرب (وربما العالم الثالث) يميلون إلى تقديس الحاكم والاعتماد عليه، وضرب لذلك مثل الملك الحسن فى المغرب وصدام فى العراق، على اختلافهما، فشرحت وجهة نظري، وأن ثمَّ فرقا بين التقديس والطاعة وبين الحب والولاء، وأظن أننى حين أسمع من بائع عاديات أردنى أن الملك حسين هو “أحسن ملك” فى العالم “فأنبهه أنه لم يعد هناك ملوك كثيرون فى العالم للمقارنة، فيؤكد: “إذن فهو أحسن واحد فى العالم”، لا أستطيع أن أدعى أن هذا نتيجة للقهر أو للعبادة بقدر ما أحاول أن أفهم أن هذا الحاكم (هذا الملك) يضع فى اعتباره مشاعر الناس الحقيقية حتى ولو كان يتصرف تصرفات خاصة غير مقبولة أو شائنة، أما الحاكم عندنا – فى مصر – ففى تقديرى أنه لا يعتنى أن يبحث عن أية وسيلة اتصال مباشرة مع وعى الناس، حتى يبدو لى أنه قد استغنى عن رأى الناس حقيقة وفعلا، وإنما يجرى التوصيل والتأويل من خلال كلام مكتوب فى تقارير أو وسطاء مشكوك فى مصداقيتهم، وأقول للاستاذ إن المصرى فى الخارج أصبح له حضور لابد من إعادة دراسته، ولا ينبغى الاكتفاء بالقول بأن سفر المصريين للارتزاق قد هدم الأسرة المصرية وصبغ الأخلاق بصبغة خليجية كما جرى الحديث بين أصدقائنا معه عدة مرات، وخاصة ونحن نناقش رواية مراعى القتل لفتحى أمبابى، وأنقل للاستاذ حديثا مع موظف فى فندق بالبتراء قال لي: إن المصرى بالنسبة للأردنى له وضع خاص، نحن لانستطيع أن ننسى أو نهمل أو أن نستغنى عن المصريين، وذلك لأسباب ثلاثه: الأول: إن فى الأردن ثلاثة أرباع مليون مصرى (عدد الأردنيين ثلاثة ملايين من العاملين) والثاني: أننا مرتبطون برواد الثقافة المصرية السابقين والحاليين من أول طه حسين والعقاد إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس والغيطاني، والثالث: وهو العامل الأهم الذى لا يستطيع أن ينكره أو يغفله كبير أو صغير، ملك أو خفير، هو التليفزيون المصرى (كان ذلك سنة 1995!!) ويعجب الأستاذ بهذا الرأى المنظم من شخص عادى وليس معلقا سياسيا أو محللا اجتماعيا.
وقلت للاستاذ إننى راجع وعندى فرض غريب جدا، وهو أن ما نحكيه عن سلبيات سفر المصريين هو جانب واحد من القضية، وأننى أتصور أن خمسة ملايين من المصريين يتعرون ويعملون ويهانون ويثرون ويتركون أولادهم اوزوجاتهم وراءهم أو يصحبونهم، هؤلاء جميعا سوف يُحدثون – وراء وبعد ومع سلبياتهم – تغييرا إيجابيا فى مسار الانسان المصرى بشكل أو بآخر، هذا فرض حضرنى غريبا من تجربة محدودة جدا، فى الأردن فقط،، حيث أن كل مصرى قابلته بلا استثناء قام نحوى بما احتوانى وأكرمنى وطمأنني، فكل من قابلت من مصر، رحب، وفرح، وفضفض، واشتاق، وأصلح، وأكرم وودع، ودعي. – وقد ركزت على هذه الأفعال فى ذاتها، وأنها أفعال تلقائية كريمة دون ربطهما بالمفعول به الذى هو شخصى، لأننى بسبب ما، لم أتصور أن هذا موجه لشخصي، وإنما لما أمثله: “مصر”.
وأضفت له إن هذا التصور قد تأكد لى وأنا أعامل العمال المصريين فى الخارج لأداء بعض المهام البسيطة التى احتاجتها السيارة، فإذا بهم يساعدوننى بمنتهى الشهامة، ويرفضون أخذ أى مقابل مقابل خدماتهم، فى رأيى أنهم أصبحوا يمثلون البنية الأساسية لمجتمعات عربية عديدة، وأنهم يتغربون فى صمت ويواصلون الليل والنهار فى صبر، وقد خطر لى هذا الخاطر دون إغفال كل سلبيات الغربة والاغتراب، ودون نسيان هذه المراره التى صاغتها رواية فتحى امبابى “مراعى القتل”، خطر ببالى أن هذه الخمسة ملايين فى الخارج تجمع من الإيجابيات الصغيرة، وتنمى العلاقة بالعمل، وبالقدرة (فصاحب العمل يعتمد عليهم بلا بديل) وبالتواصل الصامت مع الأقران والأرض (كل ذلك يجرى تحت السطح حسب الوهم الآمل الذى أقدمه بهذا الفرض) – خطر فى بالى أن كل ذلك سوف يتجمع – مرة أخرى رغم السلبيات – ليصبح هو القوة الحقيقية المغيرة لمجتمعنا فى المستقبل القريب أو البعيد، هز الاستاذ رأسه دون موافقة مريحة، وثار زكر سالم ولم يوافقنى على أىٍّ مما قلت، وبدأ يعدد السلبيات، وأخلاق الغدر التى تنمو فى الخارج، وعبادة القرش، وبيع الكرامة، وأن العينة التى قابلتها هى مجرد مصادفة، وأن مالقيته كذلك هو بصفتى الشخصية ، وأن ما وصلنى هكذا لا يعنى شيئآ بالنسبة للمستقبل، وقاطعته منبها أننى لم أنكر كل ذلك، ولكننى، ربما استجابة لخيال آمل حتى لوشطح، خيال يقلب السلبيات إيجابيات هكذا والسلام، ضحك الاستاذ من خلافنا الذى أوصلناه إليه أولا بأول، وخيل إلىّ أنه عاد شاركنى أملى صامتا مهما بدا أبعد عن الواقع جدا، ولم يواصل زكى سالم العناد، وإن كان يبدو أنه لم يقتنع بحرف مما قلت.
الأحد 2/4/1995
دقائق معدودة، مررت على الاستاذ فى الماريوت، القاعة مازالت متسعة غير لائقة، والحضور عدد محدود: نعيم – زكى – سعاد – منال ثم حضر مصطفى أبو النصر، وريمون الأمريكى الذى يجرى دراسة على الاستاذ، هكذا يقول!! وهو شاب شديد الأمركة، سطحى التفكير مشكوك فى أمره، ثم حضر واحد اسمه ”احمد” كنت قد عرفته عن طريق ابنتى “مى عبد الصبور” وبسبب أزمتها، وتطرق الحديث إلى سفرى من جديد، وحادث الطريق، ورأى شاب سورى آخر فى “الحزن القومي” السائد فى الوعى السورى، كنت قد لاحظت أن كل الطرق واللافتات تعلن أنهم يهنئون أنفسهم بفوز الرئيس، وأنه حضور دائم، تقول أغلب اللافتتات – ”الأسد إلى الأبد”، قلت للأستاذ إننى توقفت كثيرا عند كلمة “الأبد”، فقد وصلتنى بمعنى أن اختفاء أو موت الأسد مرادف لقيام القيامة، أو أنه على أحسن الفروض – لن يختفى أبدا، يجرى هذا ويتكرر تعليق هذه اللافتات رغم موت إبنه باسل الذى مازالت صورته وكلمات العزاء فيه معلقة فى كل أنحاء سوريا بلا استثناء، يبدو أنهم أنكروا بإصرار واعٍ أية علاقة بين حقيقة الموت وبين كلمة “الأبد”، لم ينتبهوا حتى أن باسل الشاب الأسد الصغير قد مات، وظلوا يرددون نفس الشعار أن ”الأسد إلى الأبد”!!! وسألت الأستاذ، وهو الذى تناول موضوع “الأبد” هذا فى ملحمة الحرافيش من كل زاوية، سألته ما هو تفسير كلمة “الأبد” هذه فى تلك الإعلانات، فضحك مصطفى أبو النصر وقال ربما هى لزوم السجع “الأسد – الأبد”، “حافظ الأسد إلى الأبد”، فقلت للاستاذ إن هذا يذكرنى برواية عن أحد الخلفاء الذين كانوا لا يجيدون قرض الشعر، ومع ذلك كان يصر على المحاولة مهما كانت النتيجة، وفى يوم حضره قاض من قضاة مدينة “قُمْ” فخاطبه أنه: “أيها القاضى بقُمْ”، ووجد أن هذا الخطاب يصلح شطرا لبيت شعر، فانتهزها فرصة وحاول أن يكمل البيت، فتعذر عليه الأمر فى البداية، ثم اضطر أن يكمل فقال: أيها القاضى بقُمْ “قد عزلناك فقم” – ضحك الاستاذ وقال الحمد لله أن حكامنا لايقرضون الشعر، ولا يحاولون ذلك، فلربما لو فعلوا زنقتهم القافية فقطعوا عنا المعاش.
قال لى الاستاذ: كنت أريد أن أعرفك على صديق مصري، حضر إلى بيتك يوم الجمعة وأنت غائب هو دكتور (أحمد شموع) وهو ألمانى الجنسية، يعيش الآن فى ألمانيا منذ 34 سنة، وهو يصر على أن يرانى مهما قصرت زيارته لمصر، وكلما حضر أحضر معه بسكويتا وشيكولاته مخصصين لمرضى السكر، ومرة سألنى د. صفر، (من الاسكندرية). هل كنت تحلم وأنت فى درب هرمز أن تأكل بسكوتا من ألمانيا، قلت له ولا من شارع عماد الدين .
كانت د. سعاد موسى موجودة فى الماريوت – كما أشرت - فقلت للاستاذ إن هذه التلميذة كلمتنى هاتفيا بعد عودتى وقالت أننى أوحشتها بغيابى هذين الأسبوعين، مع أنى قد أكون فى القاهرة ولا أراها لمدة شهر، ولا أوحشها، وهكذا يبدو أن السفر يذكرنا ببعضنا البعض، ويعطى قيمة “أخرى” للزمن، أو أن علاقتنا المشتركة به هى التى تجمعنا بشكل جديد، وهز الاستاذ رأسه.
لم يحضر توفيق صالح، وقال الاستاذ أنه سمع أنه قد يكلَّف بعمل فيلم تسجيلى (أو تأريخي) عن الملك عبد العزيز آل سعود، وأن احمد مظهر هو الذى سوف يكتبه، وأوصى أن يخرجه توفيق صالح خاصة.
شكى لى الأستاذ أن جرعة المنوم لم تعد تفيد، ثم راح يطمئننى ألا أخاف أن يتعود عليه، فلم يعد فى العمر ما يسمح بالتعود، فقلت له أولا: إن ما يتعاطاه ليس منوما، وثانيا: ألم يقل لى هو شخصيا أن المرحومة والدته قد بدأت تدخن السجائر بعد الثمانين بعد مداعبة أخيه الأكبر، وأنها ظلت تدخن حتى النهاية، فبدا عليه غيظ طيب لتذكرى الواقعه
ثم ضحك ضحكة طفل فُقِست مناورته للحصول على قطعة شكولاته إضافية.