نشرة “الإنسان والتطور”
18-11-2010
السنة الرابعة
العدد: 1175
….. اليوم ندوة الجمعة الثقافية، ندوة المستشفى، الحضور ليس كله اختياريا، الأطباء الأصغر فى المستشفى يحضرون كجزء من التدريب، ما علاقة الأدب بالطب النفسى، “هذا هو” (اللى حصل)، الرئيس (أنا) يريد ذلك،العمل المقدم للمناقشة هو “ليلة القدر”، رواية قصيرة، المؤلف: الطاهر بن جلون الذى حصل بها على جائزة جونلور الفرنسية، كتبها سنة 1987 وترجمها فتحى العشرى 1988، فى رأيى أنها رواية شديدة الجودة، (وحضر الندوة الأستاذ توفيق صالح وناقشتها بشجاعة حسنة عن الجواد وحضر رأفت الدريدى وعلاء..؟؟. (نسيت اسمه الثانى : كاتب قصة قصيرة) وقال الأخير فى تعليقه إن الكتابة خيانة للخبرة الإبداعية المعاشة، خيانة من الدرجة الأولى، والترجمة خيانة من الدرجة الثانية، وفرحت بالتعليقين وتكلمنا عن الواقع والموضوعية والجنس والإسلام، ورفضت مقدمة العشرى كما رفضت من قبل أكثر مقدمات سامى الدروبى لروايات ديستويفسكى رغم الدقة المتناهية التى لاحظتها فى الترجمة، لماذا يفرض (أو حتى يعرض) المترجم رأيه وهو ليس ناقدا، وربما يجانبه الصواب، فيشكك القارئ فى قدرته على الترجمة برغم فائق مهارته، للمترجم الحق فى التقديم إن كان يترجم عملا علميا، أو تراثيا، أو تاريخيا، أما الأدب، فيكفى أن يترجم دون تقديم حتى لا يتعرض النص لما لا يحتمله.
اليوم الجمعة، والأستاذ فى منزلى على بعد خطوات، وأنا مشغول به مشتاق إليه برغم عدم مضى أربع وعشرين ساعة على فراقه ، أمس الحرافيش، لكن قربه الجغرافى منى هكذا، وانشغالى بمن يشغله بعد تسريب ورقة صغيرة إلىّ وأنا أدير الندوة، جعلانى أسرع بإنهاء الندوة، أظن دون إجهاض، سارعت إلى بيتى لاهثا.
كان إبنى مصطفى المكلف باستقباله نيابة عنى يجالسه بعد أن استأذن الصديق الذى صاحبه لبعض الوقت، لم أنجح أبدا فى أن أجذب إبنى مصطفى هذا إلى صداقة الأستاذ ولو حتى من باب التشرف والتعرف، محمد إبنى هو صديقه بغض النظر عن صداقتى، وقد كان مشغولا معنا فى الندوة الثقافية فهو المشرف عليها المسئول عنها شهريا، مصطفى يحب الأستاذ طبعا مثلنا، مثل كل الناس، لكن أبدا، وحين ذهبت إلى المنزل وعاتبته على هذه الرسالة التى أرسلها لى فتعجلتُ إنهاء الندوة قال لى إن الصديق الذى اصطحب الأستاذ استأذن لأمر خاص لمدة ما، وأنه ظل مع الأستاذ وحيدا لمدة نصف ساعة، وأن الكلام انتهى، وأن الصمت إمتد وأنه خاف من الملل والإملال فارسل الرسالة، بقية الأصدقاء حضروا معنا الندوة بعد إذن الأستاذ، بل بتشجيعه، فحدث هذا المأزق، ومع ذلك لم يبد عليه أى علامة تشير إلى أى مأزق..
كنت أتوقع أن يعلق توفيق صالح على الندوة إيجابيا أكثر مما فعل، لكنه لم يذكر إلا حسنة عبد الجواد باحترام وتقريظ شديدين، ولم يحك للاستاذ شيئا ذا بال عن الندوة ففتحت موضوعها أوجزها له، فإذا به يقول إنه قرأ هذه الرواية، “أليست الرواية التى فيها شيخ أعمى يمص أو يلعق إصبع البطلة أو شيئا من هذا القبيل”، وتعجبت لأن هذه اللقطة هى من أقصر اللقطات وأبهتها ظهورا وقد مرت بى فى خلفية جوهر السياق ضمن ألف تفصيلة أخرى، فكيف يتذكر الأستاذ هذه اللقطة هكذا، وكيف أَسْمَى القنصل باسم “الشيخ” لمجرد أنه أعمى، وهو ليس شيخا البتة، ولم أرد أن أتطرق إلى هذا أكثر من ذلك، وأبديت دهشتى وفرحتى بذاكرته، وحين ذكرته كيف كان يذكر نص الحوارات تقريبا عند ديستويفسكى حينما دارت المناقشة بيننا من قبل حول مواعظ القس زوسيما فى الاخوة كراما زوف، وأنه كان يمكن إلغاء أغلبها، ووافق الأستاذ على ذلك وأذكر أننى سجلت هذا الحوار قبلا، ذاكرة الأستاذ فى هذه السن رائعة، انتقائية، تفصيلية، مذهلة، ويقول توفيق صالح إن ما يثبت فى الصغر غير ما يمر عابرا فى الكبر (شيء أشبه بالتعليم فى الصغر كالنقش على الحجر) وأرفض هذا التفسير التبسيطى، ولا أزيد.
وتجرى أحاديث كثيرة - كالعادة- عن الاقتصاد والدولة والديمقراطية، والنمور الأسيوية، وتختلف الآراء حول ضروره الديمقراطية كشرط للنمو الاقتصادى، وعن نمو فيتنام والصين دون ديمقراطية غربية، ولكن من خلال صفقات مع أمريكا سرية وعلنية، وعن اختفاء قيمة العمل فى التربية العربية، وأذكر للأستاذ موقف طبيبة مصرية أرملة ولها ولدان، وهى مسلمة وملتزمة بتفاصيل ما انتقته من دينها كما وصلها أو كما اختارت، وكان كل همها أن تنتهى بولديها إلى الحصول على شهادة كبيرة ودخلا وفيرا ومركزا اجتماعيا فوقيا، على شرط ألا يبذلا جهدا حقيقيا فعلا، وقد قالت لى فى سياق ترتيباتها لمستقبل أسرتها أن ابنها الأول يحب التجارة، لكنه شاطر دراسيا، وخسارة المجموع الذى حصل عليه فى الثانوية العامة، فليذهب إلى كلية الصيدلة، ويحصل على شهادة “حلوة” ثم يفتح صيدلية ويعين فيها مساعدين ويرتاح هو حيث يمكن أن يديرها عن بعد ويقبض المكسب، وخلاص، أما الإبن الثانى، وهو أشطر، ويريد أن يكون طبيبا، فليكن، على شرط أن يتخصص فى التحاليل مما يسمح له أن يعين مساعدين يقومون عنه بالعمل، وما عليه إلا التوقيع، ولا أحد يوقظه بالليل، ولا يتعب نفسه، وكأن هذه السيدة ربت ولديها، وتفوقا، ودخلا كليتى القمة هاتين، ليجلسا عن بعد يرتاحان ويجمعان ما يسمح به القانون والشطارة، وأعقب متسائلا : هل هذه هى طموحات الأسرة المصرية المسلمة المتدينة لأولادها المتميزين ذكاء وتحصيلا دراسيا، فيقول الاستاذ، وأين قيمة العمل فى الإسلام الذى تنتمى إليه هذه السيدة؟ ألم تقل إنها مسلمة ملتزمة؟ أليس العمل والاتقان هما محوران أساسيا فى الإسلام، فأعقب أننى أعتقد أن هذه السيدة تمارس الدين مع ربنا بنفس الطريقة التجارية، ولا أزيد.
ثم نعود إلى مقدمة فتحى العشرى لعمل بن جلون “ليلة القدر” وعلاقته بالاسلام، مع إشاره بن جلون نفسه إلى التلميح العابر بأن الاسلام هو دين الحرية والسماح، وأشير إلى أن رأيى فى الندوة كان من مدخل آخر تماما حيث كان البعد الاسلامى الذى وصلنى هو تصالح الجسد مع الجنس مع الدين فى كلية إنسانية على متدرج الترقى البشرى نحو الإيمان الحقيقى، وهذا هو ما ميز العمل عندى إذا كان لا بد أن ننظر إليه – رغما عنى- من البعد الإسلامى، وقد تناوله بن جلون بشكل مبدع شجاع، فلم يفترض زواجا ولم يشترط نواه قامعة، قدم بن جلون هذا البعد دون أن يذكر أنه الإسلام، فى حين قدم بعد التشويه الذى قامت به أخوات البطلة عقابا لها، حتى يحرموها من الجنس أصلا، على أنه الصورة التعصبية العمياء لبعض الممارسات التى تسمى إسلامية.
الخميس 20 / 4 / 1995 (حرافيش / سولو: دوتّو)
…. اعتذر توفيق الليلة، وطلب منى أن يتناول الاستاذ العشاء عندى، وافقت طبعا، هل أنا فى ذلك النهار، كنت آمل أن يحضر أحمد مظهر، لم أجده فى منزله، ولم يعتذر، ما الحكاية – للمرة الثانية سوف أجالس الاستاذ وحدنا لمدة ساعات حرافيشية، وهى المرة الثالثة عامة إذا أضفنا إلى جلستى الحرافيش يوم الاثنين الأول ( يوم ما اتقابلنا إحنا الاثنين).
حين وصلت إلى منزله لم يتردد
- أهلا وسهلا
- هل ننتظر أحدا؟
- الساعة كام؟
-ستة وخمسة؟
-ياللا بينا.
“فورت جراند”، جلسة الصالة الكبيرة فى الفندق أجمل من جلسة الركن القصى الذى اعتدنا اللجوء إليه فى هذا الفندق، نجلس وسط الناس، وفى نفس الوقت وحدنا، لايحتاج الأمر إلى علو الصوت، مررنا على “بتاع السوداني” (برغم أن الليلة لن تنتهى فى بيت توفيق)، لم أكن أعرف مقدار ما يشترى توفيق، قال الاستاذ: نصف سودانى، ونصف لب أبيض، أخرج الاستاذ عشرة جنيهات، هو الذى يدفع كل ليلة الحرافيش لايوجد احتمال آخر، لم أعرف ماذا سأفعل بالسودانى ، وهل سيتركه فى بيتى بعد العشاء كما اعتاد أن يفعل فى بيت توفيق.
كان الاستاذ قد أخبرنى أن “مندوبة” من فندق فورت جراند (أصبح ميريان الهرم الآن 2010) قد زارته فى المنزل وأعطته بطاقة تسمح له (ولنا) بتخفيض 50% فى كل خدمات الفندق، وسألته هل كانت جميلة، فزاغ وقال إنها قرأت عليه بعض شعرها الذى قد يكون زجلا أو شيئا لطيفا، وأنه وعدها بأن يعطيه (شعرها) لمن يهمه الأمر، كررت السؤال عن جمالها قاصدا أن أنكشه أكثر، فقهقه حين لاحظ إصرارى وقال: ”مش بطالة”.
عرجت إلى حديثه هذا الصباح فى الأهرام عن العقاد، ورغم أنه كان موضوعيا كالعادة، فقد كان مجاملا رقيقا كالعادة أيضا، وأكثر، قلت له إننى أخشى عليه من فرط المجاملات هذه، كما أخشى حين يجمع سلماوى هذه الحوارات التى وصف من خلالها من عاصر وعاشر مِمَّن أحب وتابع ولو عن بعد، ثم أضفت: إننى أخشى أن تخرج هذه الأحاديث فى النهاية بأقل من قيمتها من واحد مثله كشاهد أمين (لم أستعمل كلمة ”شاهد على العصر” احتجاجا على برنامج عمر بطيشة الذى طال حتى لملم) – قلت له إن شهادته مهمة جدا للناس، لكنها انتقائية، وانها تنتقى الإيجابيات دون غيرها، وتصر على المجاملات دون المؤاخذات، وهذا يضعفها بشكل أو بآخر، هز الاستاذ رأسه مليا ثم قال: إن هذه لقطات سريعة ومحدوده، وهى ليست نقدأ أو دراسة: لا للشخصية ولا لعمل بذاته، وموقفى الآن هو أن أظهر الإيجابيات أو الانطباعات الطيبة التى وصلتنى وتصلنى، وهى كثيرة وحقيقية دون مبالغة، وهذا لا يعنى بداهة إغفال أو إنكار السلبيات إن وجدت – وهناك غيرى يقوم بالإحاطة وإكمال الصورة بطريقة شاملة ومسئولة، ثم إنى لست ناقدا ولا مؤرخا لهذا أو ذاك، وأنا حين أنقد، وقد نقدت فعلا وكثيرا، أستعمل الأسلوب الذى أحذقه وأتقنه، وهو الرواية، فى زمن عبد الناصر نقدت ونقدت ونقدت، خذ عندك ميرامار، ثرثرة فوق النيل، وفى عهد السادات صباح الورد، وحب تحت المطر وكان نقدا شديدا وخطيرا، وكانوا فى السلطة، وهذا هو دورى النقدى وهو ليس مقصودا فى ذاته، لكنه حتما يظهر فى السياق الروائى، قلت له فأنت توظف الرواية للنقد، إذا عنَّ لك نقدا، وتكتفى بالمجاملة فى “الرأي” إذا طلب منك الرأى
قال بتواضع: تقدر تقول كذا(كده)
ومع ذلك أواصل الحديث عن العقاد وعن كتاب أنيس منصور، وشطحه، واستسهاله، وتجاوزاته، وأقول للاستاذ بعيدا عن ما ذكر فى الأهرام: إننى لاحظت أن العقاد كانت له سلبيات بلا حصر رغم موسوعيته وإحاطته وملاحقته للمنشور فى مختلف التخصصات، فيوميء الاستاذ برأسه متسائلا، فأكمل: إن أنيس منصور، مع حبه الشديد والبنوى لهذا الرجل العظيم، قد استطاع أن يشير إلى هذه السلبيات بشكل أو بآخر، بل إنه استطاع أن يكشف عن جوانب كثيرة من نسائياته دون أن يدخل فى التفاصيل، ودون أن يحرج ذكراه ودون أن يخفى الكثير على ما أعتقد، وأنا أعتبر هذا من أمهر مهاراته، ثم أضيف أننى أخذت على العقاد نقده لأبى نواس الحسن بن هانئ، فى حين سعدت بمالا مزيد عليه من قراءته النقدية لابن الرومى، وقد أسفت أن تصدى العقاد لمنطقة علمية طبية، هى منطقة اضطرابات الغدد الصماء، فأفتى فيها بما لا يُقبل من طالب طب فى السنة الثانية فى الكلية، ، وقد قلت لنفسى وأنا أقرأ للعقاد هذا الجزء فى كتابه الحسن بن هانى: إذا كان هذا هو شأنه وقد تجرأ على الطب هكذا، فمن يضمن لى أنه لا يفعل نفس الشيء فى الفلسفة والتاريخ؟
ويعقب الاستاذ بصدر رحب بأنه ربما كانت عقدة العقاد، نتيجة مبالغات تعويضية، بدأت بوجه خاص بعد أن رفض سعد زغلول (أو وزير المعارف العمومية فى وزارة سعد) أن يرسل العقاد إلى بعثة فى الخارج، ذلك أنه بعد أن حصل سعد باشا على عدد من المنح للبعثات باشتراطات شهادات محلية معينة وما إلى ذلك، ذهب العقاد وعرض أو طلب أن يكون أحد المرشحين، لكن الوزير اعتذر له باعتباره أن هذا يخالف ابسط قواعد المبعوثين بضرورة الحصول على الشهادة المحلية التى تؤهله لذلك، وأحس العقاد بالصفعة قاسية وأعتقد أن هذا الصد هو من أهم ما دفع العقاد إلى الانطلاق نهلا من كل مصادر المعرفة دون استثناء، وتعجبت للقصة، ولم أعلق.
لا أعرف ما الذى جاء بذكر الإدمان، وكان الأستاذ حريصا أن يلم بكل ما لم تتح له فرصة أن يباشره شخصيا، فذكرت له رأيى فيما أسميه ثقافة الإدمان، وحكيت له عن حادثة خطيرة أقدم عليها مدمن ممن أعالج خاليا بعشوائية قاسية، وأوذىَ فيها بعض أهله دون أن يندم كما توقعت، ولا حتى قبـِل أن يعتذر أثناء العلاج، ولم أعرف لم ربطت هذا الحادث بما ساد العالم من سرعة الاستجابة للمثيرات بالحسم التفجيرى، حتى لو أخذ شكل المقاومة، وربطت بين هذا الحادث وبين تفجير سيارة فى تل إبيب، أو قتل مجموعة من البوليس المصرى فى المنيا، أو تفجير دراجة بخارية فى لندن (إيرلندا) أو اليابان، ورغم الاختلاف الشديد، فإن ثم إعلان على مستوى العالم يقول إن الناس لم يعودوا يحتملون، وأن الحوار انقطع بينهم وبين السلطات التى تقهرهم، وبينهم وبين بعضهم، وأن المسألة تتمادى نحو مزيد من : علىّ وعلى أعدائي، نبهنى الاستاذ قائلا: أنت تتكلم عن الإرهاب ولا أعرف لماذا تربطه بالإدمان، قلت له إنى آسف، فالربط واهٍ فعلا، لكن يبدوا أننى جمعت بين الظاهرتين تعسفا نتيجة لشعورى الشخصى، وليس من وحى أى وجه شبه موضوعى، وأنهما على كل حال شكلان من أشكال الهرب القهرى الشامل والحاسم والمدمر، هناك هرب إلى الأمام علىّ وعلى أعدائى (يظهر فى شكل الإرهاب)، وهناك هرب إلى الداخل أدمر به نفسى وألغى به الآخرين فى نفس الوقت، وهو ما يظهر فى شكل الإدمان أو أى صورة أخرى من صور المرض النفسي، مع احتمالات مضاعفات إيذاء الغير كمظاهر جانبية،
هز الأستاذ رأسه وصمت، فتصورت أنه اكتفى بالاستماع لتفسير موقفى، لكن وصلنى رفضه بشكل ما، وكنت أشاركه بعض ذلك دون أن أدرى، وصدق حدسى، فبعد فترة صمت قال : ليس الأمر كذلك، فالإرهاب – رغم توحد مظهره – إلا أنه ليس إرهابا واحدا، وبالتالى لا يمكن أن تجمع ما كان يحدث عندنا أيام الانجليز مثل مقتل السردار، وأعمال جماعة اليد السوداء، ثم ما يحدث الآن فى أيرلندا طلبا للاستقلال، وفى إسرائيل فى اتجاه التحرير، ثم إن هناك إرهاب مبرر بأسباب دينية مثل بعض الذى يحدث عندنا أو فى الجزائر، وهناك إرهاب لأسباب مادية، مثل إرهاب المافيا فى إيطاليا وغيرها، وهناك إرهاب الدولة مثل ما يحدث فى العراق، وعلى ذلك فالتعميم خطر دائما، أما عن الادمان، فقد تكون هناك رابطة من حيث حداثة وسرعة انتشاره فى نفس التوقيت فتواكب مع ظاهرة الإرهاب زمنيا لا أكثر، إلا أن هذا لا يبرر جمعهما هكذا كما فعلتَ. شعرت بالمنطق السليم الذى جانبى، وتعجبت لما قلت، وفرحت بيقظة الأستاذ ورفضه، وتنبهت إلى ملاحظة الاستاذ أن الإرهاب كان موجودا على مختلف أنواعه بالطول أيضا عبر التاريخ، مثل القرصنة، وقطاع الطرق، والقتل بالأجر وغير ذلك، وقلت له اعترافى هذا وأعلنت عن تراجعى، واضفت أنه يبدو أننى كنت متحمسا مندفعا بشعورى الشخصى، وأن ما جعلنى أتمادى فى هذا الربط والواهى هو أننى ذكرت هذا الرأى، وبدا مقبولا فى بعض الندوات العلمية التى حضرها أجانب، فسألنى بحب استطلاع، “وماذا قال الخواجات عن رأيك هذا؟”، وهنا تنبهت إلى أن أحدا من المشاركين فى الندوة من الزملاء المجليين والأجانب قد انتبه إلى ما انتبه إليه الاستاذ، أو لعل الوقت لم يسمح، بل إن ما بلغنى أثناء الندوة وبعدها هو نوع من الانبهار والموافقة للفروض التى طرحتها، وهذا الفرض هو أولها وأهمها، مع أننى أقر الآن أنه أضعفها.
ودعوت له،
استطرد الاستاذ:
أما عن الإرهاب فى مصر، فله وضع خاص، واعتقد أن بذرته ألقيت فى وعى الناس والشباب بعد إحباط 1967، فقد انهارت قيمة الاشتراكية، بعد أن أغلق ملف الوطنية التى كانت مستثارة طول الوقت بذلك التحدى المستمر الذى كان مصدره وجود المستعمر أمام الناس جهارا نهارا، وقد لعب الحكام بالنار بعد 67 – لعبوا بالنار بدءا بإعلان التوبة والتظاهر بالعودة إلى الله، مستسهلين إعلان الحاجة إلى التدين، وكأن ما حدث هو نتيجة لبعدنا عن التدين ، وليس لسوء تدبيرنا وخيبة استعدادنا، وخطأ حساباتنا، ومنذ هذه الهزيمة وتبريرها الواهى هكذا: ترعرعت البذرة حتى ظهرت النباتات السامة كما نرى (هذه ليست ألفاظه تماما).
قلت له: ليكن، لكن الشعب المصرى – كما أعرفه قبل الفترة الأخيرة، له طبعه الخاص الذى يسمح له باستيعاب الصدمة دون الاندفاع فى الإنفعال، بل إن هذه الطبيعة المتميزة حيرتنى حتى فى باب تخصصى العلمى، وما مارسته مما يمكن أن يسمى البحث العلمى الإكلينكيى، ثم استطردت: دعنى أعود مرة أخرى إلى خصوصية معينة فى مسألة الإدمان، فالشعب المصرى لا يعانى من ظاهرة إدمان الكحول كظاهرة قائمة أو مهددة رغم أن الكحول متاح وغير محرم قانونا، والزعم بأن الوعى الدينى هو سبب ذلك زعم ينفيه تواتر تعاطيه فى مصر فى الطبقات الأدنى والأعلى (وإلى درجة أقل فى الطبقات المتوسطة)، كما ينفيه انشار الكحولية فى بلاد أكثر ضبطا وربطا ومنعا له باسم الدين مثل السعودية أو السودان، وفى نفس الوقت لا يصح أن نفهم أن السماح الحكومى عندنا هو الذى جعل الناس تعزف عن تعاطية، فالسماح فى العالم الغربى – فرنسا مثلا – لم يمنع أن تكون ثلث الأسرّة المخصصة للأمراض النفسية مشغولة بالمضاعفات النفسية لتعاطى الكحول، وقد حاولت بحث هذه أسباب هذه المسألة عندنا ، ندرة الحكولية المسببة للأمراض النفسية برغم انتشار التعاطى، حاولت وضع فروض لتفسيرها، وعجزت، وقلت له إننى عموما أرفض الأرقام والتحذيرات التى تلوح بها بعض الأبحاث الأحدث من أن الكحول هو المشكلة القادمة فى مصر، ذلك لأننى طبيب ممارس وطوال حوالى 40 عاما من الممارسة، وطوال ملاحظاتى فى مستشفاى الخاص منذ 22 سنة، لم أقابل كحوليين مصريين مرضى بمضاعفات إدمان الحكول وحده أكثر من عشرين شخصا برغم أن هناك العديد العديد من الكحوليين العرب يحضرون للعلاج من مختلف الأقطار، بل من الأقطار التى تطبق الشريعة حرفيا ، وأرجعت كل ذلك إلى ما تصورته من طبع ناسنا ربما عندهم قدرة خاصة تساعدهم فى الكف عن الاندفاع والتمادى، وربما ترجع هذه القدرة إلى علاقتهم بالتاريخ أو لأى سبب آخر، سألنى الأستاذ ليتأكد: عشرين أو ثلاثين كحوليا مصريا خلال أربعين سنة؟ أجبت بالإيجاب، هز الاستاذ رأسه متعجبا، فلاحظت أننى كنت أطرح عليه هذه المسألة وكأنى أحدث زميلا متخصصا سوف يهدينى إلى تفسير أو يقترح فرضا يساعدنى على فهم هذه الملاحظة، وقد أضفت أن هذه الملاحظة لا تنطبق على مواد أخرى مثل الهيروين، وهى المشكلة الأحدث التى تواجهنا هنا الآن فى مصر، ونحن فيها مثلنا مثل الغرب وألعن، ومثل العرب المدعين فرط التدين وأخيب، ويبدو أن ثمة عوامل غير ظاهرة على السطح تؤكد غرابة الملاحظة، وحين جاء ذكر الحشيش هب الاستاذ مؤكد أنه ليس عقارا إدمانيا، بل إن السجائر يمكن أن تكون إدمانا أكثر منه، ووافقته فورا (رغم بعض الإشارات البحثيه الأحدث) وكانت حجته بسيطة للغاية، فإن متعاطى أو مدمن الحشيش يمكن أن يتوقف عنه طول أيام الاسبوع ولا يلجأ إليه إلا فى نهاية الاسبوع، بل إنه قد يتعاطاه فى المصيف فقط دون سائر العام، وهذا لا ينطبق حتى على السجائر ولا على المواد الأخرى، وفرحت بهذا النقاش العلمى الأمين الذى أفتقر إلى مثله فى أكثر المحافل العلمية تقعرا وتخصصا.
عدت أشير إلى جرعة الإدمان وثباتها الآمِنْ، وكيف أننى وأنا طفل حول السابعة كنت أقدم القهوة لعم طِلِبْ (المعلم طلب) النقـّاش صباحا، قهوه سادة، فيُخرج من “حُـق” صفيح يضع فيه الدخان السايب ما يشبه الخرزة السوداء ويضعها تحت ضرسه قبل القهوة، وعليها حتى ثانى يوم، وقد سألته طبعا عما يفعل، وابتسم وقال إن هذا هو ما يعينه ويعدل مزاجه، وتكررت مهمتى هذه مع صانع القواديس والقلل (عم فرج) الذى استجلبه والدى عدة أشهر ليصنع قواديس لبرج حمام لم ينجح، وعلمت مؤخرا أن هذه الخرزة السوداء كانت قطعة أفيون، حكيت هذه الحكاية لأبين للأستاذ أن جرعة ثابتة من مخدر ما، لها وظيفة بعينها، تؤديها بكفائة، ولا تزيد أبدا، لا تعتبر إدمانا بحال، فرح الأستاذ بالمعلومة وبدا لى أنها لاقت هوى ما فى نفسه.
لم أفرح بهذا اللقاء الثنائى المحدود كما فرحت به أول مرة، ويبدو أننى نسيت نفسى، وجرجرت الأستاذ إلى مسائل تشغلنى أنا، وهى ليست بالضرورة تهمه، لاحظت بعد فترة صمت قصيرة أننى كنت ألقى كل هذه الأسئلة على الأستاذ وكأنه سيجيبنى عنها الإجابات الشافية الحاسمة، أثناء مراجعتى نفسى، ومحاولتى أن أنتبه لأتراجع، فوجئت بالأستاذ وقد رفع حاجبيه بعد تفكير عميق يسألنى : عندك حق فى التساؤل، ترى ماذا حدث فى بلدنا؟ لماذا التمادى الآن هكذا؟ ولماذا لا نجد أمثلة مثل عمك طلب النقاش، وعمك فرج صانع القلل والقواديس، فرحت أننى لم أكن أثقل عليه، وقلت له أنا أنتظر منك الإجابة فأنت أستاذى حتى فى مهنتى، واكتفيت بما لطفنى به ، ولو مجاملة .
ذكرت للأستاذ حادثة وقعت لى هذا الصباح حين ذهبت مع إبنى لشراء سيارة، وحين عرف اسمى مسئول المبيعات انشرح وجهه باشا فتصورت أنه ذكر أنه قرأ لى هنا أو هناك، أو شاهدنى أو سمعنى فى بعض البرامج، وإذا به يقول: “أنا سمعت عنك كثيرا، وأنت لاتعرفنى”، قلت فى نفسى مفهوم، لكنه مضى يقول: لقد حملتـَنى على كتفك من حوالى خمسين عاما، هل تعرف واحد اسمه ابراهيم سويلم، فجأة قـفرت إلى ذهنى صورة قطار الدلتا، ومركب تسير فى النيل تتجه إلى قناطر زفتا، قال لى المندوب: أنا إبنه، أنا لم أقابل حضرتك من قبل، لكنك كلما ظهرتَ فى التليفزيون قالت لى أمى هذا الدكتور كان يحملك وأنت بعد إبن شهور، قلت للاستاذ إننى بعد أن ذهبت إلى المنزل عادت لى بانوراما مرئيه، وكأن شريطا سينمائيا يدور أمامى، ولست أدرى كيف تذكرت كل التفاصيل: كنا فى زفتا، وكان عم ابراهيم سويلم هذا ناظر محطة بلدتنا “هورين” على خط الدلتا بين زفتا وبركة السبع، كان عندى أيامها عشرة أو أحد عشر سنة، فكيف قفزت أمامى كل هذه الصور بكل هذه التفاصيل هكذا، (ما زلت أحكى للأستاذ) .. صادقت أسرتنا أسرة عم إبراهيم سويلم، وكنا نستضيفهم فى الأعياد فى زفتا، تذكرت بوضوح شديد يوما كنا فى مركب نيلى على وشك أن نشد الرحال إلى قناطر زفتا فى نزهة يوم جمعة، وكان معنا عم ابراهيم وأسرته، وخلع أخى الأكبر (13 سنة) خاتمه الذهبى حتى يستطيع التجديف، فوقع منه فى النيل قرب الشاطئ، ونزل البحارة وصبيانهم يخرجون الطين “سولية “سولية”، (= كتلة طينية محدودة) ويفحصونها، وأبى يشك أن أحدهم سيجد الخاتم، وسيدفنه بعيدا عن التناول حتى نيأس، ثم يعود لالتقاطه بعد أن ننصرف، لكن أيا من هذا لم يحدث، وأخرجه أحد البحارة وهو يفتش فى إحدى كتل الطين، وفرحنا، لكننى أذكر أننى نظرت إلى والدى حانقا رافضا سوء ظنه، واهتزت صورته وأحببت أمانة الرجال، ولعلى كنت أحمل مندوب المبيعات ابن عم إبراهيم سويلم على كتفى كما ذكرت أمه فى هذا اليوم، انتبهت إلى شدة انتباه الأستاذ ومتابعته لى وأنا أحكى له حكاوى شخصية شديدة الخصوصية، لكننى كنت قد تعودت قراءة وجهه، فوجدت أنه كان متابعا مرحبا فعلا، حتى أنه سألنى عن بعض التفاصيل، فتشجعت وأكملت بعض ذكريات نفس السن، فى زفتا أيضا: كان والدى قد اشترى منزلا من ثلاث أدوار كل دور شقة، سكنا نحن فى أحد أدواره، وأجرنا الدورين الآخرين وجاء مهندس أعزب، يبدو أنه كان فنانا، كانت له لحية محدودة أسفل الذقن فحسب، ولا أذكر إن كان يدخن غليونا أم لا (أحسب أنه كان يفعل لزوم الفن والهندسة) ، وكان والدى قد صحبنى يوما لزيارته ولبعض المصالح، ولأننى سمعت أبى يذكر هذا الساكن ونحن فى شقتنا بصفات شديدة القبح، تعجبت جدا أنه أخذه بالحضن وكال له المديح حين التَقيا، وما إن انصرفنا حتى اكفهر وجه والدى ثانية، وأرسلنى وحدى (وأنا فى هذه السن) أطلب منه الإيجار، وتساءلت ساعتها لم لم يطلبه هو شخصيا وكنا عنده منذ دقائق، ولماذا يستعملنى هكذا فيما لا يقدر عليه، واهتزت صورة والدى مثل الهزة الأولى وهو يشك فى البحارة، نظرت إلى الأستاذ وهو ينصت بكل حب وسماح، وفرحت حتى كأنى نسيت أننى شيخ فى العقد السابع من عمرى، وجدتنى أنتسب إلى والد جديد، لا تهتز صورته، ولا أريدها أن تهتز، فهل ياترى أنا الغى من رؤيتى ومن كتابتى هذه كل ما يمكن أن يهز صورة الأستاذ؟ أليس فى هذا افتعال يضر بصورته أكثر مما يحدد ملامحه، إن ما أكد عظمة والدى عندى هو أن صورته كانت قابلة للاهتزاز، فلماذا لا أقبل أن تهتز صورة نجيب محفوظ تأكيدا لإنسانيته، وزيادة فى موضوعية، وقلت لنفسى: علىّ أن أنتبه إلى هذا الذى أفعله.
قال الاستاذ فجأة إن كل ما يتعلق بتجارب النوم، وفاعلية الحبوب المساعدة على ذلك لم تنجح كما كان يتصور، وكان قد اعتذر عن أن نكمل السهرة فى بيتى (كان توفيق قد اعتذر هذه الليلة كما قلت فى البداية)، وسألنى الأستاذ عن الساعة، فقلت له إنه ما زال أمامنا أكثر من نصف ساعة، وأننا مازلنا مبكرين بالنسبة للعودة ليلة الحرافيش، وأننا قد لانجد أحدا من أفراد الأسرة فى المنزل، وهو لم يتناول عشاءه ، قال نذهب نتمشى فى طريق الاسكندرية، وقد كان، فرحت بهذا الشيخ الذى يواصل الحياة هكذا بما تبقي.
انطلقت بالسيارة وهو بجوارى والحارس خلفنا، وسيارة الحراسة تتبعنى على طريق الإسكندرية، وتذكرت أن هذا لم يدرج فى خط سير سيارة الحراسة، وقلت للحارس أن يخبرهم أن يتصرفوا، حتى لو عادوا هم آفلين خشية مخالفة الأوامر، ولم أذكر للأستاذ أية تفاصيل عن تصرفى هذا، فأنا أعلم أنه كان سيعترض حرصا على مصلحة هؤلاء الطيبين، ولكن تم الاتصال والإذن نتيجة لحسم إصرارى غالبا.
فى الطريق الصحراوى ظل الأستاذ صامتا مدة، وتصورته قد أغفى، لكنه فجأة قال: “أنا أتعمد ألا أحدثك حتى تنتبه للطريق المظلم وحتى تتبين الفتحة التى ستلف حولها لنرجع”، قالها برقته البالغة بدلا من أن يقول “كفى هذا ، وارجع بنا”.
وضحك عاليا
وضحكت راضيا
ورجعنا” احنا الاثنين”
كان يوما خاصا مرهقا نسيت نفسى فيه حتى بدا لى أننى أضجرته بقصصى الخاصة، لكننى أبدأً لم أستشعر ملله ولا أحسب أنه أخفاه.
ومع ذلك، لم تكن صحبتنا نحن الاثنين منفردين مثل ذلك اليوم الأول الذى اختليت به وحكيت عنه: “يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين” “نشرة: 25-2-2010 الحلقة الثانية عشر”
ملحوظة
حين جاء وقت الحساب رفض الاستاذ استعمال بطاقة التخفيض التى أعطتها له المندوبة الجميلة التى زارته بالمنزل، ووجدت فى ذلك حياء مصريا رقيقا رغم تعارضة مع كل الأحدث فى المعاملات،
استعمال هذا الخَصْم الاستثنائى الكريم حق بسيط، لكن عدم استعماله كرم وأجمل،
ماذا أعمل فيما أتعلمه من حياء ورقة هذا الرجل؟!!
الحمد لله.