نشرة “الإنسان والتطور”
27-5-2010
السنة الثالثة
الحلقة الخامسة والعشرون
الأربعاء: .. / .. / ….
….هو الذى فتح بنفسه هذا الصباح، كنت قد واعدته أن أمر عليه صباحا حتى اطمئن على جلسات العلاج الطبيعى الذى كان يضيق بها، وأيضا لأخذ عينات المتابعة للسكّر وعد الدم ونسبة الدهون، هو الذى فتح لى بنفسه، ورآنى لتوه قبل أن أنطق، كنت عادة أبادر برفع صوتى حتى يتعرف علىّ قبل أن يضطر أن يدقق النظر، فرِحْتُ أنه تعرّف علىّ قبل ان يصله صوتى، كان مرتديا ملابس منزلية، لم يكن موعدا للخروج، كنا صباحا كما قلت، سألته عن الأهل فقال إن عندهم واجب عائلى، قلت له “خيرا”، طمأننى وقال “كله خير بإذن الله”، سألته عن موعد حضور أخصائى العلاج الطبيعى، فسألنى: “لماذا”؟ قلت له لمواصلة التدليك والتدريب، وذكّرته أننى حضرت خصيصا هذا الصباح لهذا السبب، وللتأكد من أخذ عينات التحاليل، قال: إنه لم يعد هناك داع لهذا أو ذاك، وأن ذراعه قد تحركت إلى مداها المعتاد، بل وأصابع يده كلها حتى عاد للكتابة مثل قبل الحادث، تصورت أنه يداعبنى كعادته، وإذا به يترك الردهة منطلقا وهو لا يتحسس طريقه، ويدخل إلى حجرة المكتب، ثم يعود بسرعة وهو يحمل كراسة مثل كراريس التدريب، ويفتحها، ويقدمها لى ففوجئت بخطه الجميل الذى كتب إلىّ به رسالته فى السبعينات التى أشرت إليها فى الحلقة السابقة، ضحكت وقلت له، هذه كتابات قديمة، عقبال ما تعود فعلا للكتابة مثل زمان، قال: قديمة ماذا؟!! انا كتبتها قبل قدومك مباشرة، وقهقه بضحكته الواسعة، وناولنى إياها قائلا: خذ واقرأ:
رحت أقرا
“باسم الله الرحمن الرحيم،
ولقد خلقنا الإنسان فى كبد،
أيحسب أن لنْ يقدر عليه أحد”
ثم:
“يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه”
ثم: فاطمة نحيب محفوظ
أم كلثوم نجيب محفوظ
ثم:
“لعلك باخع نفسك على آثارهم ،إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا”
سبحان الملك الوهاب
يهب الرزق لمن يشاء
من قدّ إيه كنا هنا
سلمى يا سلامة
خفيف الروح بيتعاجب
ثم التوقيع:
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
(بدون تاريخ)
كنت نسيت المفاجأة، رحت أقرأ ما بالكراسة دون أن ألحظ اختلاف الخط، فجأة انتبهت، وقلت له من جديد ” هل كنت تكتب قبل الحادث نفس الكلمات والمقتطفات التى تأتيك الآن فى التدريب؟ قال حادث ماذا يا يحيى بيه، ألم تأخذ بالك؟ قلت ” بشرة خير”، إن شاء الله أدعو الله أن تعود إلى الكتابة بهذا الخط الجميل، قال لى: دع هذا الآن ” اليوم الأربعاء، هل انتهيت من كتابة يومية الغد التى خصصتها حاليا لذكرياتنا معا تلك الأيام”، قلت له دون أن أنتبه إلى سؤاله جيدا؟ “ليس بعد”، سوف أكتبها بمجرد عودتى للمنزل، قال: (كما اعتاد أن يحفزنى أن أحفل بالكتابة العلمية اكثر) “أنت تشغل نفسك فى أكثر من مجال فى نفس الوقت، ألم نتفق أن تكتب نظريتك أولا؟ قلت: “حاضر”، قال: هذه هى المرة المائة التى تقول لى فيها “حاضر” ولا تفعل، قلت له: إن الشخص العادى اوْلى بما أكتب، بل والمرضى، فرؤيتى وتنظيرى تصل لهم أوضح وأبسط وأكثر فائدة، قال “بأمارة ماذا؟ ألم تشكُ لى من ندرة المعقبين على نشراتك، وهى متاحة لكل الناس، الشخص العادى وغير العادى، قلت له: لا أحد يسأل فىّ. قال: كيف هذا؟ ولا حتى أصدقاءك وأصدقاؤنا
قلت: أحيانا يحن علىّ زكى سالم بتعقيب أو تشجيع، وصديقنا حافظ يقرأها قبل نشرها بالموقع
قال: فقط؟؟؟!!!، كيف حالهما
قلت: بخير
قال: سلم لى عليهما
قلت: حاضر
قال: كم وصلت عدد نشراتك اليومية حتى الآن؟ قلت له اليوم: “ألف بالتمام والكمال”، ولقد تعجبت للمصادفة التى جعلت العدد الألف يقع بالصدفة فى يومك الذى خصصته لك، يوم الخميس، يوم الحرافيش.
قال فى دهشة: تقول ألف؟؟
قلت: أى والله: ألف!!
قال: مستحيل
قلت له ألم تقل لى:
” المستحيل هو النبيل الممكن الآن بنا” (قصيدة “صالحتنى شيخى على نفسى” فى عيد ميلاده الـ 92)
ضحك ضحكته الواسعة وقال، هل أنا الذى قلت؟ أم أنت؟ ألم يكن هذا هو البيت الأخير فى قصيدتك
قلت: يا خبر هل مازلت تذكر
قال: نعم، بل إنى أذكر الحلم الذى أنهيت به القصيدة، والذى كنتَ فيه أمًّا وجنينا معا، وأذكر نهاية القصيدة نصا:
“وسمعت صوتا هامسا فى عمق أعماقى يقول
المستحيل هو النبيل الممكن الآن بنا”
ونسبتَهُ إلىّ
قلت له: نعم، لكنه كان صوتك أنت فعلا.
قال: “ألف” عدد!!، لم تتوقف يوما!! هل هذا صحيح؟ مستحيل، والله مستحيل، ما هذا؟
قلت: كله بفضل الله، وفضلك، صدق أو لا تصدق أننى مدين لك بكل هذا، وعلى فكرة انا أقرأ النشرة يوميا قبل إدخالها الموقع بصوت مرتفع كما كنت أقرأ عليك يومية الدستور قبل نشرها، هل أقرأ لك الآن التعتعة الأخيرة مع أنها نشرت اليوم فعلاً؟
قال: ياليت، لكن ماذا عن مقال الأهرام، لماذا توقفت عن الكتابة للأهرام
قلت له: هم الذين توقفوا، أنا عدت للكتابة فى الوفد أسبوعيا
قال: عن أى موضوع كانت التعتعة هذا الاسبوع
قلت: عن “ثقافة الحرب”
قال: ثقافة ماذا؟!!
قلت: الحرب،
قال: ماذا تعنى بثقافة الحرب؟
قلت: والمصيبة أننى لصقتها بك؟
قال: بى أنا؟ ماذا تعنى؟ ولكن إقرأها أولا ثم نرى
وبدأت أقرأ
نجيب محفوظ يعلمنا، “القتل العبادة” = ثقافة الحرب!!
حين بلغتنى صعوبة ما أحاول توصيله لتفسير ماهية وحتمية ثقافة الحرب”، ورفض ثقافة السلام حتى لا تنقلب ورقة المعاهدة إلى استسلام دائم، رحت “أستعين بصديق” لإبلاغ رسالتى، فلم أجد أحب إليكم من جاهين ومحفوظ. أظهرت فى تعتعة سابقة كيف أن صلاح جاهين أبلغنا موقعه من غمر الدماء للبقاء بكرامة طول الوقت: “أنا كلـّى دم، قتلتْ ولا اتقلتْ”، وأيضا اقتطفته وهو يصارع النهار الجديد، يا قاتل يا مقتول: “نهار جديد أنا .. قوم نشوف نعمليه، أنا قلت يا ح تقتلنى .. يا ح اقتلك!!” ثم وعدت أن أواصل محاولاتى من مدخل نجيب محفوظ فى إبداعه “ليالى ألف ليلة”، ونقدى لها.
أنا أعرف نجيب محفوظ مبدعا وروائيا منذ 1948، ثم عرفته فى مقابلة واحدة مرتبة من أصدقاء فى مبنى الأهرام فى منتصف السبعينات، ثم تعرفت على إنتاجه ناقدا حين بدأت أمارس النقد الأدبى بانتظام، ثم عرفته بعد محاولة الاغتيال مريدا وصديقا عددا من السنين، ثم اكتشفت وأنا أمارس الآن كتابة بعض ذكرياتى عن هذه الأيام الأولى التى صحبته فيها، وكنت أكتب لمحات عنها آنذاك، ثم قررت أن أنشرها حاليا فى موقعى كل خميس بعنوان “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، اكتشفت أننى أتعرف عليه من جديد بشكل لم أكن أتصوره، أكتشف أثناء تحرير كل نشرة أننى قد عاشرت داخله بقدر ما عاشرت خارجه، وأننى حفظت بعض حواراته عن ظهر قلب، بل وأننى أستطيع أن أقرأ ملامح وجهه الآن وأنا أعيد التحرير، إذ يبدو أننى استوعبت زوايا انحناءات رأسه أو جسده، وتنوع أشكال صمته، وتجليات مختلف ابتساماته وضحكاته، وأننى تعلمت كيف أرصد عمق زوابع غضبه حين يكتمه أو يحوره بإرادة واعية، وأننى تعلمت وربما عانيت من صلابة عناده…إلخ، أضف إلى ذلك أن هذا التحرير الجديد قد سمح لى أن أعيد تقييم مواقفه، وأيضا أن أعيد تقييم مواقفى منه، بما فى ذلك مواقفى النقدية من أعماله، فتراجعت -نسبيا- عن مبالغتى فى رفض نهاية ملحمة الحرافيش التى بدت لى توفيقية ساكنة بشكل ما، لا تتناسب مع زخم الخلق والعدوان والبطولات والتحدى طوال الملحمة.
ثم إنى بمناسبة حديثى عن ثقافة الحرب عدت اراجع نقدى لروايته ليالى ألف ليلة، فوجدت أننى لم اربط بين توقيت كتابتها وبين موافقته المعلنة على معاهدة السلام، وبالتالى قدمت دراسة نقدية كاملة عن تجليات القتل العبادة، فى مقابل تشكيلات القتل الدموى الغادر، دون أن أنتبه إلى ما حرّك كل هذا القتل فى إبداع محفوظ إثر معاهدة السلام مباشرة. وبالذات إثر موافقته عليها، صحيح أننى استشهدت فى نقدى بأطروحتى الأساسية عن علاقة “العدوان بالإبداع” (الإنسان والتطور1980& فصول1992) لكن لم يخطر ببالى أن أستثمر هذا التوقيت لأكشف عن ما أسميه الآن “ثقافة القتل” إبداعا وغير ذلك.
الفرض الذى أطرحه حالا (لأعود إليه بالتفصيل) لاحقا، يقول: إنه بمجرد أن وافق نجيب محفوظ على معاهدة السلام 17 سبتمبر 1979، تحرك داخله الإبداعى ليعلن بداية الحروب التى لا تنتهى (عكس ما أشيع أن حرب 73 هى نهاية الحروب) فكتب هذه الرواية ليحافظ على زخم العدوان الخلاق فينا وفيه، (نشرت الرواية سنة 1981ولا بد أنه كتبها خلال أكثر من عام قبل ذلك)، فتجاوز بها كل ما ورد فى إبداعه من قتال ودماء وجرائم وبطولات قبل ذلك، وهكذا تكشف الرواية وقد حركتها “ثقافة الحرب” بفضل معاهدة السلام عن حقيقة التركيب البشرى القوى المقتحم فى مقابل الاسترخاء الغبى الغافل (ثقافة السلام).
وبعد
انتهت مساحة تعتعة اليوم، فأضطر أن أكتفى بسرد قائمة لبعض القتلى والضحايا فى هذا العمل الملئ بالعبادة والدم (ثقافة الحرب)، آمِلا أن يتاح لى أن أواصل فى تعتعات لاحقة ما تيسر من تفاصيل لازمة.
شهريار- صنعان الجمالي - جمصة البلطى (عبدالله الحمال- عبد الله المجنون) - جلنار – المعين بن ساوى – فاضل صنعان – علاء الدين أبو الشامات – وحسام الفقى – ودرويش عمران وابنه حبظلم بظاظة – الطفلة المغتصبة فى البداية – وعلى السلولى – كرم الأصيل - زهريار- شملول الأحدب – يوسف الطاهر- قوت القلوب - توأم شاور العجان بائع البطيخ - قمر العطار.
رجاء:
هل يمكن لمن ينوى أن يتابعنا أن يقرأ، أو يعيد قراءة الرواية، ولو على حسابى؟
شكرا.
****
وحين انتهيت، من القراءة أطرق مليا، ثم رفع رأسه، ومد ذراعه اليمنى التى كانت مصابة ووضعها على كتفى، ولم يعقب
قلت له: هل أعجبتك؟
قال: لم يصلنى ما تريد تماما
قلت: هل أقرأها ثانية
قال: لم نعتد ذلك، سوف يصلنى
قلت: انا واثق من ذلك، ولكن هل يصلهم
قال: لا عليك، قل ما عندك، وسوف يصل إلى ربنا، وإلى أصحابه حتما فى وقت ما
قلت: هل تصدق حضرتك أن هذه الألف نشرة، لم تصدر بهذا الإلحاح والانتظام إلا بفضلك
قال: لا يا شيخ !!!!!!
وضحك
ففرحت