نشرة”الإنسان والتطور”
2-9-2010
السنة الرابعة
العدد: 1098
الحلقة التاسعة والثلاثون
الجمعة: 23/2/1995
دعانى مصطفى إبنى للأفطار فى بلدتنا، هورين، مثل كل رمضان، كنت قد حدثت الأستاذ عن هذه العادة، وسر بالتقليد، لكننى كنت أحدثه لا لأستأذنه فى الذهاب مع إبنى والتأخر عليه، ولكن ضمن ما كان يسمح لى به بالحديث الشخصى عن بلدتنا بالذات، فهو يقر ويعترف أنه لا يعرف الريف المصرى (ولا غير المصرى)، ويحب أن يسمع أحيانا منى، لم يقبل اعتذارى لابنى من أجل خاطره، أصر ألا أقطع لابنى عادة، وأن ألبى دعوته ولو على حساب موعده، قلت له إننا فى رمضان، وأننى سوف أكسر صيامى مع العائلة، وأحضر فورا من قريتى، وهى ليست بعيدة، وكل ما يمكن أن أتأخره ليس أكثر من نصف ساعة، ووافق مطمئنا إلى أننى لن أخذل إبنى. هذا الرجل!!! رقة هذا الرجل شديدة الدقة والرهافة، يصلنى إبداعه أحيانا صاخبا محيطا ثائرا حتى لا أستطيع أن أتصور أنه يخرج من إنسان بكل هذه الرقة، المهم انتهيت من الإفطار فى دقائق، ولم أتمكن من تغيير ملابسي، وهيا.
وصلت القاهرة خلال ساعة واحدة ووصلت إلى الأستاذ متأخرا عن الموعد العادى بضع دقائق (وقبل الوقت الذى استأذنت أن أتاخره هذه الليلة) تعجب من سرعة حضورى، وتصور أننى لم ألبّ دعوة ابنى، لكنه لاحظ الجلباب المغربى الذى أرتديه، وقال مازحا بعد أن اطمأن أننى أفطرت مع عائلتى، قال ونحن على باب بيته بصوت منغم طيب “شا الله ياسيدنا المغربى”.
كان توفيق على موعد مع رأفت الميهى لمشاهدة فيلم فى عرض خاص قبل عرضه على الجمهور، قال لنا أنه لن يعلق على الفيلم حتى لا يجرح أحدا، لكنه مضطر للذهاب للمجاملة، حضر بسيارته ليغادرنا وقتما يشاء، اليوم الجمعة، واللقاء فى منزلى، قبل انصراف توفيق حضر زكى سالم، وشقيقته، المهندسة: جميلة صامتة تدرس علم نفس بعد الهندسة (لست أدرى لماذا) ثم حضر بعد قليل نعيم صبري، قبل أن يمضى توفيق تكلم عن فيلم شاهده، وعن الرقابة، وعن التكلفة العالية هذه الأيام، كل ذلك فى سياق الحديث عن تدهور حال السينما مؤخرا، وكان قد تكلم أمس عن المخرج صلاح أبو سيف، وإبنه محمد، وبدا متحفظا فى مسألة تكريمه، فحكيت له ما استشهد به سيجموند فرويد أثناء تكريم أحد المديرين بعد إحالته للمعاش حين قال أحد الخطباء من تلاميذه: إن ”جمود” هذا الرائد ..بدلا من أن يقول إن “جهود” هذا الرائد، وقد استنتج فرويد من زلة اللسان هذه رأى الخطيب فى الرئيس المكرم، ونبهت توفيق أن يأخذ باله من فلتات لسانه.
لم أجد موضوعا مناسبا نبدأ به، أو بمعنى أدق نواصل فيه، فانتهزت الفرصة ورجعت إلى موضوع ما يميز الإسلام موقفا فى الحياة، قبل أن يكون معتقدا فكريا أو سلوكا طقسيا، أو دينا منزلا، وصلنى أن الأستاذ ربما يكون الوحيد الذى التقط ما أعنيه من أن الإسلام هو: (1) فطرة سليمة، (2) وتجاوز إلى الـ “ما بعد”، ثم (3) ومصب فى المجموع (وهكذا معظم الأديان النقية)، وبالتالى فلا يجوز أن نحكم عليه بمقتطف من هنا أو فتوى من هناك لمجرد نسبة هذا أو تلك إلى ما يطلقون عليه “الإسلام”، آثار زكى سالم قضية متفرعه على الوجه التالى: إنه يتعجب من عدد وفير من محبى الأستاذ المخلصيين الذين يقرؤونه فيجدون فيه جرعة هائلة من الالحاد، فى حين أن عددا آخر بنفس الوفرة، وربما أكثر يقرؤونه فيجدونه مؤمنا شديد الإيمان بل داعيا إلى الإيمان، وينتظر المجتمعون تعقيب الأستاذ فيرفع حاجبيه ويهز رأسه ويرحب بالاختلاف على شرط أن يدعم كل صاحب رأيه وجهة نظره ، فيحتج البعض بأن إثارة هذه القضية على الملأ ، مدعمة بالآراء والاستشهادات، خاصة فى شقها الأول (الإلحاد) هى التى أدت بنا إلى الكارثة التى حدثت، ونتفق على أن هناك قضايا شفاهية وقضايا مسجلة، وأنهما ليستا متطابقتين، وأفرح لما يدعم رأيى وشكوكى فى أغلب ما يسمى “التاريخ”.
أحكى للأستاذ عن أن د. صبرى حافظ قد أرسل لى نسخة من ترجمة أطروحتى النقدية فى ملحمة الحرافيش إلى الإنجليزية لإبداء رأيى فيها، وهذا تقليد طيب وإن كان ليس إلزاما للمترجم طبعا، لكننى تعجبت أنها ترجمة خالية من الفكرة الأساسية التى أردت تقديمها من خلالها، بل إن بعض أجزاء جوهرية منها لم تصل إلى المترجمة، فيستفسر منى الأستاذ أكثر، وأرجح أن أحدا لم يقرأ له دراستى هذه، وأستبعد أن تكون قد قرأت عليه شخصيا ونسيها، فأنا أثق فى ذاكرته تماما تماما، قلت له بإيجاز شديد كيف أننى حاولت أن أثبت فيها أن الخلود (الدنيوى، دون أن أحدد ذلك) هو ضلال وهمى يكافئ الموت العدم الساكن، فى حين أن الوعى بالموت هو الدافع الحقيقى للحياة ، وأن هذه الدراسة قد تناولت فى نفس الوقت محاولة تدعيم فكرى فى ما هو “الإيقاع الحيوى”، اساسا لقوانين الحياة البيولوجية، وربما كل الحياة، وأن الإنسان يعيش طول الوقت، وليس فقط طول العمر وهو ينبض بهذه الدورات، بوعى وبغير وعى، وأن بعض هذه الدورات قد تتجلى فيما يسمى إعادة الولادة، التى تتميز بتغير نوعى فى الشخصية إلى أعلى على مسار النمو، أو إلى أدنى على مسار التدهور، وأضفت أن بعض من قرأ هذه الدراسة وصفونى (أو حذرونى أو اتهمونى وإياه) بالإلحاد لمجرد أننى لم أشر بوضوح مباشر إلى اعترافى المباشر بخلود ما بعد الموت فى الجنة أو فى النار، وبعضهم نبهنى أن هذا هو حل هذه القضية نهائيا، وبالتالى فلماذا الإبداع هكذا؟ ولماذا النقد؟ سألنى الأستاذ عن ردى عليهم، فقلت له إننى لم أعتد أن أرد على مثل هذه الآراء التسليمية الساذجة بشكل مباشر، وأن الفكرة التى تناولها النص فالنقد ليس لها علاقة بما يقولون، وأن الأطروحة تخدم تعرية أوهام اغترابية تضيع على الإنسان فرصة أن يعيش كادحا إلى وجه الحق عبر برامج فطرته التى نشوهها بمثل تلك المسلمات عن خلود ساكن، مع تهميش حقيقة أولى هى أنه “لكل أنه أجل كتاب”.
قلت أيضا وأنا أختم هذا الموجز تعسفا، إننى شطحت ذات مرة فميزت بين الملحد المؤمن، والملحد العدمي، فاستزادنى الأستاذ شرح رأيى هذا بحب الاستطلاع الذى أعرفه عنه، فقلت له: سامحني، فأنا فى حضرته يحق لى الشطح، ليصححنى، أو يتحملنى، فضحك، فأكملت: إن الملحد المؤمن هو الذى يؤدى به إلحاده إلى تأكيد كلٍّ ِِمن الفطرة والامتداد فى الناس ابتغاء وجه الحق (المطلق / “الما بعد” / الدائم الخ) فيجد نفسه فى رحاب الله حتى لو أسمى ذلك بأسماء أخرى، وأن هذا قريب من وصف محمد إقبال لنيتشه أنه مؤمن رغم أنفه، وأنه (نيتشه) كان يهم أن يقول “لا إله إلا الله، ولكنه توقف عند لا إله” (وقد استقبلت هذا التوقف وكأنه ”زُعظة” جاءته فجأة فحالت دون إكمال الجملة، ثم أضفت أن صيغة “لا إله .. إلا الله”، هى صيغة الإلحاد الذى يؤدى للايمان، والإ فكان الأولى أن تستعمل صيغة إثباتية من الأول دون نفى أو اسثناء مثل “الله هو الله” أما أن تبدأ الشهادة بنفى الله (كما لاحظ إقبال) ثم إثباته توحيدا فريدا، فهى حركة دالة رائعة، استقبلتها شخصيا بالسرعة البطيئة، (التى تصل إلى سنوات)، وفهمت منها مايشبه السماح بالالحاد (لا إله) شريطة أن يواصل الملحد السعى حتى يكمل الطريق – فقاطعنى الأستاذ: على شرط ألا يصاب “بزغطة” مثل نيتشه ويتوقف، وضحك، ودعانى أن أكمل، فقلت: أننى سبق أن أشرت أن الله عادل عدلا لا مثيل له ولاشبهة فيه، قال: حصل، قلت: وأنه يعلم السر وأخفى، قال: نعم بلا أدنى شك، فأضفت وأنه ليس على علم باقوالنا وافعالنا فحسب، بل بأدوارنا فى الإسهام فى الحفاظ على خلقته التى خلقنا عليها كما هى إلى ما أودعها فيها، وبالتالى فإن كل ما علينا هو الإسهام فى هذا الطريق طول العمر، طول الوقت، وافقنى الاستاذ وزكى سالم دون استيضاح أكثر، فمضيت أوضح تلقائيا قائلا: لو أن مجتهدا رفض صورة الله التى تلقاها جاهزة بعيدة من آخرين، فثم احتمال أن تكون استجابته بالنفى والرفض أن “لا” أىْ “لا إله..” ، لكن هذا المجتهد بفطرته النقية لو أنه لم يتوقف، بل واصل إلى: “إذن ماذا”؟ وراح يجتهد، ويجتهد ، ويكدح صادقا ناقدا مراجعا بجدية كاملة، ثم لنفرض أن الله سبحانه قبضه الله إليه قبل أن يصل إلى: “إلا الله” فإننى أعتقد أن الله” بعدله ورحمته” وعلمه بمسيرته سوف يد خله الجنة، لأنه يعلم تعالى أنه لو أطار عمره ليكمل فسوف يصل إلا تكملة الجملة وأنه “إلا الله” ، أما إذا سكن عند “لا إله”، (كسلا دون زغطة) أو استسهالا، أو غرورا فاننى أعتقد أن الله سيحاسبه على السكون والتوقف وليس على محتوى ما كان عليه حين قبضه إليه، عقّب الأستاذ قائلا “ياساتر، معنى هذا أنك تفتح الأبواب لتحتوى اختلاف كل المجتهدين الكادحين على حد قولك، فتصبح المسألة “بزرميط”، وضحك ، ففرحت، ولم أعقب.
ذهب الاستاذ “لتحريك النشاط الثقافي” وحين عاد حسبت أنه نسى ماكنا نتحدث فيه، أو تمنيت ذلك لأننى كنت أفضل ألا أكمل، لكنه حين عاد، فوجئت بأنه يسألنى “هذا عن الملحد المؤمن، فماذا عن الملحد الآخر الذى اسميته الملحد العدمى أو الملحد الكافر، بصراحة فرحت إذ أننى تصورت أنه أثناء “تحريك النشاط الثقافى” كان يفكر فيما قلت، وبرغم فرحتى هذه فقد كنت أتمنى ألا نكمل فى نفس الموضوع، قلت له إنه الملحد الذى ينكر وينفى كل ما لم تستسغه قشره عقله، إنه الملحد المعقلن الذى سجن نفسه فى منهج محدود وتصور أن عقله الأخير/الأعلى/الأحدث قادر على الإحاطة بكل ما يتطلبه وجوده، وأكدت على التفرقة بين العقلنة intellectualization والتفكير، ففى حين أن العقلنة هى نشاط عضلة العقل بمنهج محدود فإن التفكير هو عملية أشمل وأعمق وتتجاوز عضلة المخ إلى حركة الوجود، ثم إن الملحد العدمى ليس واحدا، وهو على أنواع شتى: من أول التسليم السكونى لما وصل إليه عقله حتى الموقف التفسخى لمكونات الوجود، وهو الموقف الذى تنحلل فيه عرى الفطرة وتتباعد فى نشاز متناثر بديلا عن مواصلة الجدل بين متناقضاتها نحو ولاف ضام،
ويبدو أن الأستاذ قد فوّت لى هذه الشطحة هو والحاضرون فلم يستوضحنى أحدهم أكثر.
ويسأل الأستاذ الحاضرين (وأظن أنه كان موجها السؤال لزكى سالم أساسا) عن رواية ثروت أباظة التى تنشر مسلسلة فى الأهرام وأنه سمع أحمد مظهر يقول أمس إنه قرأها، وأنها أعجبته أكثر من أعماله السابقة، فعقب زكى سالم متعجبا كيف تحمل الأستاذ مظهر قراءتها، وقال إنه حاول أن يقرأها فى البداية – على الأقل لأنه توقع أن يسأله الأستاذ عنها، لكنه لم يستطع أن يكملها عندما وجدها تدور حول نفس “التيمة” التقليدية لثروت أباظة عن الأسرة الغنية السامية والأخلاق الراقية التقاليد، والرعية الفقيرة المخلخلة، وكذا وكيت، وأنه حين واجه كل ذلك توقف، وقال يوسف عزب كلاما أقسى من هذا، أظن أنه قال: لو أنه (ثروت أباظة) رفع صورته من الصحيفة لكان ذلك أفضل للقصة، فأضفت فى قسوة رفضتها فيما بعد (خاصة حين تأكدت من حب الأستاذ له) أضفت: بل وربما يكون رفع اسمه أكثر تشجيعا للناس أن يقرأوا الرواية، ثم حاولت التراجع، ناظرا للأستاذ، لكننى لم أفعل فقد اكتشفت أننى كنت بعيدا عنه فلم يسمعنى، واكتفيت بأن أذكّر الحاضرين – ونفسى طبعا- كم يحب الأستاذ هذا الرجل، ولا بد أن له أسبابه الوجيهة التى لا يستوعبها أمثالنا، وتذكرت بداية الحديث وأنه كان عن حكى أحمد مظهر أمس عن هذه الرواية الجيدة، ودافعت عن حقه أن يقول رأيه فى عمل محدد ما دام قد بذل جهدا ووقتا فى قراءته، ثم تراجعت أكثر مذكرا نفسى والحضور بأنه ليس من حقنا أن نسارع بشجب عمل لم نقرأه، حتى لو كان لنا رأى فى عموم إنتاج كاتبه قبله، هذا ظلم وتحيز بعيدين عن الموضوعية، قلت ذلك وأنا أرفع صوتى وقد اقتربت من الأستاذ، فوافقنى، وبصراحة لم اشك أننى كنت أنافقه، فقد كنت أتراجع فعلا، يبدو أن الأستاذ قد فرح بهذا التعقيب الذى يمكن أن يكون قد أصلح بعض ما أفسده الهجوم المتجيز، فمضيت أحكى للأستاذ ما سمعته مرة (وكررته مرارا حتى شككت أننى سبق حكيه للأستاذ، ومع ذلك أكملت ربما للباقين) من محمد عبد الوهاب، وهو يرد على سؤال مذيع عن اللحن المبدع الذى جاء فيه بإبداع يميز ما لحنه لأم كلثوم عن بقية ألحانه، فأجاب عبد الوهاب إجابة تعلمت منها الكثير، قال: إن المبدع (الملحن فى هذه الحالة) لا يخرج إلا هوامش تلو هوامش منتظرا أن تستدعى هذه الهوامش فى الوقت المناسب الجملة (الموسيقية) أو الجمل الجديدة الأصيلة، (وقد ينتهى اللحن دون أن تأتى هذه الجملة) وقد تأتى فى وقت أو موقع لم يتوقعه من قبل، ومن يومها وأنا أغفر له ما اتهم به من أنه مقتبس (أو سارق) كثيرا من ألحانه، لأنى فهمت من خلال حديثه هذا أن سرقة الهوامش مسموح بها وحكيت للاستاذ عن قصة قصيرة كتبتها شخصيا بعنوان” المحلفون”، ثم اكتشفت بعد كتابتها أن أحدهم (أظن مورافيا) قد نشر قصة مماثلة باسم “المحاكمة” (كما أن صلاح جاهين كتبها شعرا أذكر أوله: “سيادى الحداود اللى حايمة على جتتى” بعنوان عن المرافعة؟) – وقال الأستاذ إنها ليست الفكرة وإنما التناول هو الذى يميز الإبداع، وبالتالى فتوافق الأفكار لا يعنى السرقة، ولا يقلل من قيمة العمل الإبداعي، وإذا بالغنا فى الاختزال فقد نجد أن كل الابداع الروائى يدور حول عدد محدود من الأفكار والأحداث التى يمكن أن تتكرر، لكن كل مبدع يشكلها بما يجعلها جديدة متجددة، فتميزه وتؤصل إبداعه ، وكنت قد سمعت منه مثل هذا الرأى قبلا، وقلت فى نفسى ، لست وحدى الذى أكرر، ورجعنا إلى موضوع ثروت أباظة، فقلت إن من حق أى مبدع يواصل الجهد والكتابة طول هذه السنين أن نأخذه مأخذ الجد، وأننى حين شاهدت فيلم “شيء من الخوف” (دون قراءة النص القصصي) أعجبنى تماما وفرحت أنه وافق فرضا علميا هو ذخيرة لى فى ممارستى، وهو فرض التعلم “بالطبعimprinting ” (البصم) الذى أعتقد بصحته وسبق أن أشرت إليه فى نقاشاتنا أكثر من مرة، الفيلم الذى شاهدته دون أن أقرأ القصة (أحسن) أظهر كيف طبعت بصمة شخصية الجد لحظة موته على الحفيد، وحين تعجبت فرحا كيف وصل حدس ثروت أباظة إلى هذا العمق، قالوا لى إن هذا فعل المخرج وليس من إبداع ثروت، ولم أقتنع كثيرا، فالمخرج لا يغير النص إلى هذه الدرجة، فقال يوسف عزب، لعل الكاتب لم يقصد ما وصلك، فقلت له لكنه وصلني، ومن هذا العمل دون غيره، وسواء قصد الكاتب أو لم يقصد، فهو الذى كتبه، وبالتالى فله فضل ما ظهر فى إبداعه، والمبدع ليس ملزما أن يقصد ما يخرج منه بمعنى الوعى الإرادى، لكن إبداعه حين ينساب قد يخرج منه حدسا وأصالة تدل على مرونته وعمقه وقدرته فيخرج لنا معلومات من الجدة والأصالة هى من حقه حتى لو لم يقصد إليها ابتداء.
ووافقنى الأستاذ، وقال إن هذا هو مهمة النقد فعلا، وأرد على سؤال عن المساحة التى يتحرك فيها الناقد فى هذا الشأن – شأن استخراج ما يقصد المؤلف – فيرد الأستاذ إن ذلك يتوقف على العمل الذى يتناوله، وعلى الناقد، ولا توجد حدود بذاتها يوصى بعدم تخطيها.
وانتهى النقاش إلى أن النقد هو كشف جديد للنص، وإعادة صياغته، وأن الإبداع الحقيقى هو كشف وتحريك وإعادة ترتيب، وليس تهذيب وتشذيب وتسكين وأحكام.
تساءل زكى سالم عن السبب فى خوف الناس من قراءة علم النفس؟ هل هو خوف من أن يعرفوا أنفسهم ؟ فقال الأستاذ كيف يخاف الناس من المعرفة، إن الإنسان عنده حب استطلاع باستمرار، ووجه زكى السؤال إلىّ تحديدا، فميزت بين التشوف للمعرفة لما فى الخارج وبين مخاطرة معرفة ما بالداخل، وان الإنسان من حقه أن يعمى وأن يستعمل ميكانزمات تقلل من حدة رؤيته لنفسه، وأن إخفاء الداخل لا يتوقف فقط على تغطية الميول الجنسية أو العدوانية، وإنما هو قد يمتد إلى إخفاء الفضيلة أو إنكار “الغريزة” الإيمانية، وحكيت عن مرضى ملحدين، أو تصوروا أنهم ملحدين، وكانوا يحضرون إلى ويشكون من أحلام حقيقية (أو أحلام يقظة) يرون فيها أنفسهم وهم يقيمون الصلاة، كما حكوا لى كيف كانوا يخشون (أثناء الحلم) أن يراهم أحد أقرانهم من الملحدين وهم يصلون فى الحلم، وكأن الصلاة (بالنسبة لهم) أصبحت من المحرمات التى تكتب فلا تظهر إلا فى الحلم، بنفس القياس الذى يتعامل به المتدينون أو المتزمتون مع الجنس، أضفت: إن الإنسان إذ يتعرض لمعرفة جرعة كبيرة مما أخفاه على نفسه لابد له أن يخاف، وفى نفس الوقت يتوقف نجاح حركية النضج على حكمة هذا الكشف التدريجى، رويدا رويدا، عن مساحات أكبر فكبر من طبقات الداخل، شريطة أن يكون المكتشف هذا قادرا على الاستيعاب، وعلى التمثل، من واقع هذه الإضافات الجديدة المتدرجة.
ثم أضفت: إن وظيفة الإبداع للمتلقى سواء كان مشاهدا أو قارئا أو مستمعا هو أنه يساعده أن يقوم بهذا الكشف المتأنى لذاته ولمن حوله بالجرعة المناسبة، ولذلك فأنا ضد فكرة أن وظيفة الفن هى التفريغ التطهيرى التى قال بها أرسطو، ولكننى مع فكرة أنه التحريك التكاملي، والمسألة كلها ترتبط بتناسب الرؤية مع القدرة (القدرة على الاستيعاب والقدرة على الفعل) فالمبدع الحقيقى هو الذى يكشف ويحرك لدرجة قد تبعث الخوف فى المتلقى الذى قد يعجز أمام الإبداع المتميز أن يظل محتفظا بدرجة الميكانزمات (العمي) السابقة فينطلق.
وقال يوسف عزب إنه حين يقرأ للأستاذ، وحين يقرأ الحرافيش خاصة يشعر بالخوف، وهو يشعر بأن الأستاذ يأخذ بيده إلى سراديب ومسارات مجهولة وخطيرة، وكأنه يصطحبه إلى الله بكل ما يحمل هذا من احتمالات المفاجأة وخوض المجهول، رغم الرغبة الأكيدة لمواصلة السعى إليه.
وعقب الأستاذ مازحا أنه ربما توقف عن الكتابة حتى ”لا يخيف قارئه” هكذا، فكررت عليه أن يوسف يقول: إنه يمسك بيده إلى الله، فانشرحت أساريره وهز رأسه راضيا.
وخجلت من جديد من الكلام المتخصص الذى استدرجت إليه إلى هذه الدرجة.
وفى النهاية حاولنا أن نرتب مواعيد وأماكن المقابلات والخروج مع الأستاذ، وانتهزنا فرصة غياب توفيق واتفقنا على تثبيتها، وأن الأمن الحكومى إنما يمنع “القضا المستعجل”، كما أسلفنا. وقلت إن هذا الحادث الذى أصاب لابد أن نعتبره خطأ تاريخيا لا أكثر، والخطأ التاريخى لا يتكرر بسهولة،
ثم ملت على الأستاذ قائلا: هيا نعتبره لم يحدث (تيجى نعتبره ما حصلش)
وضحك الأستاذ ضحكة أثلجتنى.
وضحكت أيضا
وضحك بعضنا معنا