الوفد: 18/4/2002
الحقائق… والوثائق
أعرف أنه ليس هذا وقت الحديث عن شخص، مدحا أو قدحا، نحن فى ماذا أم ماذا ؟ ومع ذلك فقد وجدت أنها ليست مسألة شخص، وإنما هى إسهام فى بداية تغيرات نحن أحوج ما نكون لها الآن وليس بعد. إن ما تفرضه علينا دماء الشهداء الغالية ، ونحن عاجزون، أو محجوزون، عن مساعدتهم المباشرة على أرض التحرير، هو أن نراجع كل شىء. كل فعل، كل عرف، كل كلمة، كل كسل، كل تبرير، كل منظرة، كل زعيم، كل تقديس بشرى. إننا إذا لم نستطع أن نمد يدنا إليهم بما ينبغى كما ينبغى، فليس أقل من أن نمد يدنا إلينا، بداخلنا، وخارجنا، تعديلا وتنقيحا واستعدادا لجولة قادمة، نكون فيها جاهزين لكل شىء، بما ينبغى كما ينبغى. كل شىء هذا لا بد أن يشمل الحرب (المواجهة) كما يشمل القدرة على تجنبها حين نمتلك القدرة على خوضها، كما يشمل المشاركة فى مسيرة الإنسانية عامة بالفعل والإبداع لا بالتقليد والتبعية.
هذا يستلزم أن نتجاوز اللحظة دون أن نتخلّى عنها، كما يتطلب أن نتجاوز الأشخاص دون أن نبخسهم حقهم وفضلهم.
نحن -الفلسطينيين والعرب وسائر البشر – نمر بمأزق إنسانى خطير، لا ينفع فيه أن نختزل الجارى إلى مجرد أرض مغتصبة، أو قومية مهزومة، أو أمن مهدد. قلت مرارا فى أكثر من مقال : إن التهديد الحالى هو تهديد للجنس البشرى، إن إنجازات البشر تستعمل ضد البشر عن طريق قوة غاشمة، وإعلام مضلِّـل.
دور الفرد وتقديسه
عادت لنا نغمة لم تكن قد اختفت أبدا تؤكد على دور الفرد المــُـلْهَـمْ. دوره لا بمعنى القدوة والاستمرار، ولكن بمعنى الاعتمادية والحلم بالمهدى المنتظر. أسمّى هذه الظاهرة مرحليا “ظاهرة الفرعنة”. (فرّعَنَ، يُفَـرعِنُ أى صنع منه فرعونا). نحن جاهزون طول الوقت لصناعة الفرعون، سواء كان عند هذا الذي نصنّعه مقومات وقدرات الفرعون أم لا. نحن – المصريين والعرب ومَنْ على شاكلتنا – نستلقط أى قائد، أو شيخ قبيلة، أو متميز فى أى مجال، وهات يا تقديس،وهات يا نفخ، وهات يا تزويق، ثم سرعان ما ننسى، كما ينسى الذى تفرعن، أننا مسئولون عمّا آل إليه. فيصدّق، ونصدّق، ثم هات يا تصفيق وهات يا تبعيّة، وهات يا انتظار الحلول السحرية.
عودة الغائب
الأستاذ هيكل لم يغب عن وعى الناس ولا لحظة، حتى صمته المختار، كان حضورا كثيفا عند البعض وثقيلا عند آخرين. وقد عزى هو بعض هذا الصمت فى حديثه الأخير إلى رغبته فى إعطاء الفرصة للجيل الأصغر فالأصغر، وعلينا أن نصدّقه كما نصدّق كل القادة والرؤساء – أمدّ الله فى عمرهم جميعا – حين يضطرون بعد مثل هذا الإعلان إلى البقاء بناء على ضغط الجماهير وعدم وجود البديل . معذورون والله، أكثر الله خيرهم .
قبل أن ننظر فى معنى ودلالات هذا الظهور المناسب فى وقت نحن فى أشد الحاجة إلى مثله، دعونا ننظر فى نموذج أكثر إلحاحا، وهو يقع فى بؤرة الأحداث، وهو التركيز على ياسر عرفات فردا، ورئيسا، وتاريخا، ومعنى.
جُرْجِرْنا (جرّنا شارون بالعافية) مؤخرا إلى التركيز على شخص ياسر عرفات بشكل كدنا ننسى معه سنّه وصحّته ومحبسه، حتى صار شغلنا الشاغل هو مسألة السماح له، أو عدم السماح له، مرة بالذهاب إلى بيروت، ومرة باستقبال مستشاريه، ومرة باستقبال كولن باول. صحيح أن ذلك قد أعاد إليه مجد بطولته وأحيا تاريخ كفاحه، وصحيح أيضا أننا نحتاج إلى رمز نلتف حوله فى هذه الأوقات العصيبة، لكن الصحيح أكثر أن هذه ليست القضية، ولن تكون، ولا ينبغى أن تكون . بل إن الأستاذ نبه إلى خطورة هذه الانحرافة ودلالاتها فى حديثه، (الذى لن أتطرق إليه فى هذا المقال).
إن ما يجرى فى فلسطين الآن يلزمنا بأن نتجاوز هذه الظاهرة (فَرْعَنة الأفراد) إن ما يسيل من دماء الشهداء يلزمنا بالكف عن هذه الاعتمادية العبثية، إن الفتاة أو الشاب الذى يفجر نفسه لا يفعل ذلك بأمر عرفات، ولا هو يفعله من أجل عرفات، إن هذا الشاب أو هذه الفتاة هم القادة الحقيقيون لنا الآن ، هم القادرون على تغيير الوعى دون استئذان، على بعث الحياة دون تقديس لفرد بذاته، على تجسيد الحلم دون تأجيله. إن هذا الواقع الذى يفرض نفسه هو الذى ينبهنا بإلحاح على أنه علينا أن ننتبه إلى دورنا مع، وبدون، هؤلاء الرموز القادة الأفاضل.
بعيدا عن السياسة
لا تقتصر هذه الظاهرة (ظاهرة صناعة الفرعون) على رئيس دولة ، أو زعيم أمة، أو صوت إعلامى قدير، بل إنها تمتد إلى أى رمز منا يحقق أى إنجاز متميز. لا يكاد أحدنا يحصل على تقدير ما حتى نلتف حوله: لا لنتعلّم منه، ولا لنحذو حذوه، ولا لنلحق به ، وإنما لنقيم له هرما ندفنه فيه (من كثرة المديح والاعتمادية) أو نقيم له مقاما ندور حوله ونتبرّك به. حدث مثل هذا مع نجيب محفوظ نفسه ، مع أنه أبعد الناس عن الحاجة إلى ذلك. فى الافتتاح التجريبى لمكتبة الإسكندرية، (أكتوبر الماضى) أنهيت كلمتى قائلا ” إن نجيب محفوظ ليس ماضيا يحكى، وهو ليس جائزة نتباهى بها، أو نتوقف عندها، وهو ليس صـُدفة عابرة، وهو ليس لحنا منفردا. إننا نحن الذىن أفرزناه، وهو يمثلنا، فنحن قادرون على إفراز مثله.”…إلخ
حضرنى كل ذلك وأنا أتابع تلك الهالة التى أحاطت بظهور “الأستاذ” هيكل يخاطب الناس فى قناة مصرية خاصة.
دعوة وتقصير
دعيت فجأة إلى مناقشة حديث “الأستاذ” (محمد حسنين هيكل) فى قناة دريم 2، ولم أكن قد شاهدته، أو قرأته تفصيلا، فاعتذرت وأبديت السبب، فأصرّ الداعى الصديق ابراهيم عيسى أن الحلقة هى عن دور الإعلام عموما فى هذه المرحلة، وأن اللقاء هو أعم من حديث الأستاذ، رغم أنه من مدخل حديث الأستاذ. فقبلت، وذهبت ، وساهمت بما تيسّر، فكانت مشاركتى من واقع ما دار فى اللقاء لا ما قاله “الأستاذ”.
قلت فى هذا اللقاء إن التعامل مع ما يقوله الأستاذ يستحسن أن يجرى على محاور متوازية ومتداخلة معا، ذلك أن “ظاهرة هيكل” لها أبعاد ثلاثة، فهو تاريخ، ومؤسسة، ومدرسة، وأن لكل بعد من هذه الأبعاد ما يحتاج إلى وقفة ومراجعة وحوار (طلبه الأستاذ شخصيا فى حديثه)، وحين بالغ أحد المنتدين (الصديق الأديب يوسف القعيد) فى الإعلاء من شأن ما يتميز به الأستاذ من ترتيب، وملفات، وتوثيق دامغ، وجدتها فرصة أن أحجّم من هذه المبالغة إسهاماً فى هزّ قيمة “الفرعنة” موضوع هذا المقال. قلت إن التنظيم، والتوثيق، وفرز الملفات، هى أمور كلها رائعة ومطلوبة ولا غنى عنها. بل إن التقصير فيها أو القصور دونها لا يدعو للاحترام وهو يضعف من قيمة الخطاب حتى لو كان إعلاميا صرفا. ومع ذلك فمسألة التعامل مع الوثائق هى مسألة منهجية حولها جدل صعب، حيث تحمل خطر الانحياز العفوى أو المغرض، مثلما تحمل احتمال الفائدة. إن التسليم للوثائق دون نقد، ودون نقد النقد، المقارن طولا وعرضا، يوازى خطر التسليم لمقولات التاريخ أو بعض المنشورات الأكاديمية بما لا يتفق مع الواقع الماثل. إن استعمال الوثائق عادة ما يُصاحِـبُه قدر من الانتقائية تتحكم فيه درجة من التحيز لا يمكن التحكم فيها – شعوريا ولا شعوريا . هذا إشكال ضخم يتعلق بمدى موضوعية أو شَخْصَنَةْ طريقة الاستشهاد بالوثائق، حتى أننى استعملت ذات مرة تعبير “الكذب الموثق”. لأحذر من خلاله من استسلامنا -كعلماء أو باحثين أكاديميين- للأرقام والأبحاث السابقة ونحن منبهرون باسم المجلة العالمية المشهورة دون اتخاذ موقف نقدى مما يصلنا ومما نقرأ. الكذب هنا ليس بالمعنى الأخلاقى السائد، ولكن بمعنى الافتقار إلى المصداقية Validity . فإذا كنا في العلم نحتاج إلى ما يسمّى التحليل النقدى البعدى , فنحن فى كتابة التاريخ، وفى الإعلام الموثَّق (الذى يمثله الأستاذ خاصة) نحتاج إلى نفس القراءة النقدية للوثائق، وكثيرا ما يحدث ذلك، خصوصا إذا تعارضت الوثائق مع بعضها البعض.
إن إسرائيل نفسها تبرر وجودها بالوثائق المقدسة التي تفسرها حسب مزاجها. إنها تغتصب الأرض وتقتل الناس وتطرد البشر من ديارهم استنادا إلى الوثائق. من هنا تصبح أى وثيقة هى مشروع للتحدى، ليس فقط من جانب العالم الذى يستشهد بها، وإنما من جانب المتلقى ، سواء كان قارئا عاديا أو مشاهدا عابرا لإعلامى موثِّق، أو كان طالب علم أو راهب بحث. إن المطلوب – لنقلل من ظاهرة الفرعنة- أن نتعلم القراءة(والمشاهدة) النقدية لمصادر متعددة معا.
نقد النقد
مثال جاد لهذه القراءة النقدية وصلنى حديثا من باحث زميل (د. محمد الجوادى) فى كتابه الذي صدر مؤخرا باسم “فى أعقاب النكسة” (دار الخيال 2001) حيث قام بجهد متميز لما أسماه الناشر مشروع “نقد النقد المدوّن”. وقد تناول الكتاب بما يقابل ما يسمّى التحليل البعدى Meta-analysis لكل من مذكرات مدكور أبو العز، ومحمد صادق، وصدقى محمود، ومحمد فوزى ، وطه الحديدى، ليخرج منه بما اعتبره تصحيحا للتاريخ المعاصر فى تعقيب يقول “إن صناعة الهزيمة القاصمة فى يونيو 1967 هى صناعة مصرية سياسية ، وإن كانت معقبات الهزيمة قد شملت المنطقة كلها، وأغلب الظن أنها قد تستمر إلى ما يعرف بنهاية التاريخ”. وإنى إذ أختلف مع الفقرة الأخيرة بفضل ما يفعله أهل فلسطين الآن وهم يصنعون بداية أخرى لتاريخ آخر، أود فقط أن أنبه إلى مقارنة متواضعة لما جاء فى هذا العمل الرصين مع آخر مقال كتبه الأستاذ هيكل فى مجلة وجهات نظر (منذ عام أو بعض عام، لا أذكر التاريخ) وبّرأ فيه أهل السياسة من مسئولية الهزيمة.
لست هنا فى موقف الحكم أى الرأىىن أصح ، لكننى أنبه إلى أن القارئ العربى، والقارئ المصرى (ثم المشاهد فيما بعد) لم يتدرب بالقدر الكافى على أن يشك فى الأرقام، وأن يفحص جزئيات الحقائق والمعلومات الطرفية التى تعرض عليه، و لا على أن يبحث عن أكثر من مصدر ليتحقق، باختصار نحن لا نعرف كيف نتخذ موقفا نقديا أصلاً. من هنا جاءت وقفتى أمام خطورة الاستسلام لما يقوله الأستاذ وأمثاله من الثقاة الأفاضل المتميزين حقا.
عينة من التقديس الخطر
عند عودتى من الاشتراك في اللقاء السالف الذكر حول حديث الأستاذ، حاولت أن أصلح تقصيرى فرحت أبحث عن الحديث حيثما نشر، حتى تفضل صديق بإعارتى عدد مجلة الأسبوع (الإثنين 8 ابريل 2002) وقد نشرت الحديث كاملا (على عهدتها). حين بدأت بقراءة مقدمة الحديث فزعت، وتيقنت أن أول من سيرفض هذه المقدمة، بل ويحذر منها، وقد يكذبها. إن شاء الله، هو الأستاذ نفسه. جاء فى مقدمة الحديث حرفيا:
(1) ..فحين يتعلق الأمر بمنحنى تاريخى صعب يهدد العالم العربي بانكسار لم يحدث منذ الحملات الصليبية ، يكون رأى حكيم بوزن هيكل هو الماء والهواء والدواء !!!!!”
ثم (2) “..إذا كان عدد من الزعماء العرب يجلسون من هيكل مجلس التلميذ من الأستاذ ، فلا حرج من أن يجلس القادة مجتمعين نفس المجلس، إلى أن قال “.. وحين يصاب أحدهم بجلطة فى المخ ، لن يتحرج وقتها من أن يضع نفسه تحت أمر طبيب ورهنا لمشرطه الجراحى”
ثم يضيف(3) ” والأمة الآن مصابة بجلطة في المخ..وعليها أن تخضع نفسها لواحد من أمهر الأطباء”
دلالات الحديث ومغزى استقباله
الذين استقبلوا حديث الأستاذ بهذا الترحيب الذى وصل إلى حد التقديس لم يستقبلوا صحفيا يتحدث ، أو موثقا يدلى بشهادته، إن المسألة أكبر من ذلك. وفيما يلى بعض دلالات هذا الاستقبال، كما تراءت لى:
أولا: إننا نتحرك، ولو ببطء ، نحو التخلص من وصاية الدولة على الإعلام، وفى ذلك شهادة لم أتردد فى إعلانها أثناء اللقاء: إن فضل الدولة التى سمحت بقناة خاصة ، لا يقل عن فضل الذين نجحوا فى إقناع الأستاذ حتي تفضل بما فعل. لقد تابعت من بعيد، لظروف شخصية، الجهود التى بذلها المهندس أسامة الشيخ حتى نجح فى إقناع الأستاذ بهذا الحضور الشديد الدلالة. هذه شهادة لمن سمح بإنشاء قناة خاصة، بقدر ما هى شهادة للقائمين على هذه القناة، فالأستاذ.
ثانيا : إننا شعب يحترم الكفاءة، ويحترم القدرة ويحتاج إلى عقل منظم، وكلام موثق ، أكثر من حاجته إلى خطب تحريضية، وبيانات باهتة، وشعارات مؤقتة.
ثالثا: إن هيكل ، حتى لو أصر على أنه ليس إلا صحفيا محترفا (الأمر الذى أكده فى لقائه مع الرئىس حافظ الأسد فى الحديث) إلا أن استقباله – فى مستوى ما من وعى الناس – كان رمزا لعبد الناصر من ناحية (كتاريخ لم تكتمل صفحاته)، وللأمل القومى من ناحية أخرى، (كحلم لم يتم إجهاضه).
رابعا: إن كل ذلك يفسر المبالغات التى تلت الحديث رغم سلبية أغلبها هذا هو ما دفعنى لكتابة هذا المقال.
المتحدث قبل الحديث
ينفى الأستاذ عن نفسه دائما صفتين، أنه أديب، وأنه شريك فى القرارالسياسى، وفى تقديرى أن هذا هو من أحسن ما يميزه: التخصص وزعم التواضع (أو “التواضع”-هو حر) . أما مقدار ما فى ذلك من موضوعية، فهاكم اجتهادى:
أما أنه أديب، فهو أديب. هذا الأستاذ يكتب الخبر بشاعرية لا يمكن إنكارها، وهو يقدم المعلومة بتصويرأدبى ربما لا يقصده ، لكنه هو كذلك دون استئذانه. هل يستطيع أحد أن يغفل الصياغة الأدبية فى بعض ما جاء فى الحديث ، مثل: وصفه لمقابلته لديجول عقب 1967 “.. أتذكر كيف دخلت لديجول وكيف أحرجنى منذ اللحظة الأولى ..حينما أعطانى نصف ظهره”. أو مثل قوله ” هذه الاستقالة من الحياة ومن المستقبل ومن الزمن” ..إلخ . بل إنها شهوة الأدب والتأدب، بما فيها من إغراء بالحديث عن الذات، والمشاعر الخاصة والإيماءات التشكيلية المتجسّدة ..إلخ هى التى تغلب أحيانا فى مقدماته حتى تكاد تطغى، فتنسينا الموضوع الأصلى الذى قد نخرج منه بخلاصة دوّارة مغلقة ليس فيها جديد مقارنة بانبهارنا بأسلوبه الأدبى الذى طال فى المقدمة بجمال لا يخفى!.
الصفة الثانية التى ينفيها عن نفسه الأستاذ تتبدى حين يؤكد أنه ليس مشاركا فى القرار السياسى وهذا أمر يحتاج إلى مراجعة أهم. أظن أن هذا الزعم إن صحّ حالا، فهو يجانب الصواب تاريخا، وحتى ما جاء فى حديثه الأخير فى سياق لقائه بالمرحوم الرئىس حافظ الأسد من أنه مجرد”: رجل لا يملك إلا أن يكتب كلاما فى جريدة ، يقدمه لأناس يدفعون جنيها …إلخ” هو كلام يتعارض مع تحديد دوره كمستشار، وضمير، ومعين ومشارك للرئيس عبد الناصر يرحمه الله ويغفر لهما. بل إننى أذهب إلى أبعد من ذلك حين أضع فرضا (أقول فرضا) يقول “إن سر خصومته – التى وصلت فى كثير من الأحيان إلى درجة الكراهية للرئىس السادات، هو أن الأخير لم يضعه فى نفس المكان، أو المكانة التى كانت له عند الرئىس ناصر بالنسبة للمشاركة فى المشورة واتخاذ القرار، فكان ما كان. إن الرجوع إلى تاريخ الأستاذ لا بد أن يشرفه بأنه كان مشاركا في القرارات الأخطر طول الوقت، من واقع ما اعترف به، وفخر ببعضه فى معظم كتاباته، وأيضا من واقع ما يعرفه عن نفسه، وعن علاقته بعبد الناصر، مما لا يعلمه إلا الله ، الواقع الأول نستطيع أن نحاسبه عليه، أما الواقع الثانى فلا يستطيع أن يحاسبه عليه إلا ضميره و رب العالمين.
صفة ثالثة لم ينفها الأستاذ عن نفسه، وإن كان لم يتهمه أحد بها ألا وهى صفة المحلل النفسي. فمنذ أن كتب فى أوائل الستينات “بصراحة” عن “العقد النفسية التى تحكم الشرق الأوسط، حتى ما كتبه تفصيلا عن الملوك والسلاطين العرب، وهو يمارس هذه الهواية بحذق شديد. لا اعتراض لى على ذلك فهو يتناول التحليل النفسى بمهارة تفوق المختص فى كثير من الأحيان (هذا إذا استطاع المختص، أو كانت عنده الفرصة والمعلومات لفعل ذلك). إلا أن هذه الهواية تستدرجه في كثير من الأحيان إلى مزلقين : الأول أنها تغريه بالتداعى الحر، ثم هى تتطلب النظر فى نفسه فى نفس الوقت، فالتحليل رحلة بين الذات والآخر، يترتب على ذلك أن يقوم بتقديم أهم الشخصيات انطلاقا من مقابلة شخصية، أو انطباع ذاتى ، أو فراسة خاصة، حتى أنه حين عرج إلى ياسر عرفات فى حديثه الأخير، بدأ بأنه “…أول من رآه فى مصر..، ..إلخ”، ما لزوم هذه الجملة خصوصا أن مصداقيتها ليست بالدقة التى يتصورها، ولا أريد أن أفعل مثله لأذكر متى رأىتُ ياسر شخصيا بصفته زميلا وجارا (مصر الجديدة) سنة1950، ثم مدربا لنا ونحن نستعد للمقاومة الشعبية سنة 1951. ماذا يفيد ذكر مثل هذه العلاقات، اللهم إلا إن كانت تنفع فى ممارسة هوايته فى التحليل النفسى.
مرة أخرى ليس عندى أدنى تحفظ أو اعتراض، لكن هذا المنحنى قد أوصله مرات كثيرة إلى شىء من التعسف والشطط، مثلما حاول أن يربط – صراحة أو ضمنا – معنى تغيير اسم عائلة السادات من سادات إلى السادات وبين بعض تصرفاته، ومرة أخرى خيّل لى أنه يلمح إلى أثر بشرة والدة السادات السوداء، (رحم الله الجميع)، حتى اضطررت عفوا-ربما فى صحيفة الأحرار أيامها- إلى التنبيه إلى هذا التجاوز، حيث بينتُ أننا إذا رضينا مثل هذا التأويل فيجدر بنا أن نلحقه بتذكرة أن السيدة الفاضلة زوجة السادات كانت ومازالت بيضاء ومثل القمر. ، فهل أثّر ذلك فى نفسيته، ومن ثم فى قرارته، وكيف كان ذلك ؟
أعتذر فهذا ليس وقته، لكنه تنبيه أردت أن أختم به مقالى وأنا أقدم بكل احترام وعرفان بعض ملامح المتحدث، قبل أن أعرج إلى الحديث نفسه فى مقال لاحق. (ما أمكن ذلك).
خاتمة
إلى أن أعود إلى مناقشة بعض محتوى “الحديث نفسه” أذكر القارئ ونفسى إلى أننا بقدر ما نحن فى أشد الحاجة إلى رأى ورؤية أمثال الأستاذ، وإلى صحوة وغضب الشارع المصرى والعربى، فنحن فى حاجة أكثر إلى الوعى الموضوعى بالجارى بأكبر قد من المسئولية الفورية : الفردية فالجماعية. نحن نحتاج إلى البدء دون انتظار المهدى المنتظر، ولا الحكيم الجراح ليزيل جلطة المخ . نحن نحتاج إلى البدء حالا بالتعلم فالتغير (أفرادا فجماعات فرؤساء ورواد، وبالعكس) .
لقد وضَعَنَا الشهداء فى واقع ماثل يتفجر دما وشرفا وكرامة، واقع لا بد أن يستنفر وعيا آخر، وإبداعا آخر، طول الوقت، بطول الزمن إلى ما بعد نهاية التاريخ حيث ليس للتاريخ نهاية فى منظور التطور الحتمى.
إن أولادنا وبناتنا وأهلنا وشهداءنا فى فلسطين قد حددوا بداية أخرى لتاريخ آخر، تاريخٍ ليس له نهاية، نرجو أن نكون أهلا له ، فهو واعد بكل خير وكرامة للبشر كافة.