نشرت فى جريدة الوطن
6/11/ 2000
الحضارة الشفاهية والمواثيق المكتوبة
الإنسان حيوان ناطق, وقد ظل يتميز بهذه الميزة مئات الآلاف من السنين قبل أن يخترع الكتابة, فهل يمكن أن تحل الكتابة محل المشافهة؟ ثم إننا نحن العرب قد بنينا وعينا من قديم على المشافهة والمواجهة والرواية, رواة الشعر قديما, ثم رواة القص الشعبى والملاحم الشعبية الذين ظلوا وما زالوا يتناقلون التاريخ, ويحفظون نبض وعى الناس جيلا بعد جيل.
حين ظهرت الكتابة انتقل الإنسان نقلة رائعة وهامة, وأضيفت إلى إمكاناته ما وسع أفقه, وحفظ ذاكرته حتى بدا وكأن ما راح يحفظه بالكتابة هو امتداد لخلايا دماغه, فأى ثورة وأى إنجاز. لكن الأمور أخذت تتطور ليس كلها إلى أحسن.
مع تراجع المشافهة قل التواصل المباشر بين البشر, وجها لوجه, لسانا لأذن, وحل محله الكلام المكتوب. وحتى التواصل بالأصوات أخذ يتم عبر الهواتف ثم عبر الإنترنت, وكل هذا يمكن أن يدمج مع إيجابيات تطور الإنسان بشكل أو بآخر, وإن كانت بعض مضاعفاته أن اتسعت المسافة بين الأفراد, وحرموا من ريح الحضور المباشر, ورائحة العرق الحيوى، ونبض النظرات العميق.
ما علينا هذا هو التطور بما له وما عليه.
ثم أخذت الكتابة تزحف رويدا رويدا على كل مجالات حياتنا, بدءا بالعقود وانتهاء بالمعاهدات. قلنا هذا حسن أيضا, فليكن كل شيء مدون حتى لا نضل ولا ننسي.
ثم زحفت الكتابة بعد ذلك- إحلالا أيضا – إلى منطقة أصعب وأكثر غموضا: حين انتشرت بدعة مواثيق الأخلاق, وما يسمى بحقوق الإنسان وحقوق الطفل, وحقوق المرأة. إلى هنا والأمر يبدو ضمن التطور المطلوب والمحتمل, لكن هذه الخطوة بينت أن كل شيء يمكن أن يسجل بالكتابة حتى الأخلاق والقيم, لكن هل يمكن أن تسجل آلأخلاق كتابة أم أنها ممارسة تمشى على الأرض؟
حين وصفت السيدة عائشة رضى الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كان خلقه القرآن كان فى ذلك تنبيه ضمنى إلى أن السلوك والأخلاق هى “ممارسة فعلية” يومية وليست شعارات أو حسن نية.
يمكن أن أحدد الحقوق والواجبات فى عقد مكتوب, لكن لا يمكن أن أحدد كيف أؤدى الحقوق وأقوم بالواجبات من موقع أخلاقى وبالتزام داخلى وخارجي.
لا مفر من أن نعترف أن هذه المواثيق التى تلوح وكأنها مقدسة ليست سوى تسجيل كتابى لما هو التزام أخلاقى أولا وقبل كل شيء, وهذا هو ما يحتاج إلى وقفة نقاش.
حين شاعت هذه المواثيق المسماة حقوق الإنسان, وحقوق الطفل, وحقوق المرأة, وحقوق الأقليات, فرح الناس وكأن مجرد كتابة هذه المبدئ البراقة على الورق كفيل بضمان تطبيقها. الأمر الذى لم يتحقق أبدا, بل على العكس من ذلك, اطمأن الأقوى وقد عين نفسه, دون توكيل, وصيا على تنفيد هذه المواثيق, وإصدار الأحكام وإعطاء الدرجات لكل العالم, اطمأن أنه بعيدا عن المحاسبة, وسمح لنفسه فى ظروف منتقاة بأن يكيل بأكثر من مكيال.
إن الموقف الأخلاقى له مستويات لا يمكن أن نلغى أيا منها ونكتفى بإثبات ما نثبت على الورق مهما بدا ما نثبت براقا وجميلا وواعدا.
هناك المستوى الخلقى الذى يشهد به عامة الناس (بما فى ذلك العرف)
وهناك المستوى الخلقى بين الإنسان وربه (بل الإنسان على نفسه بصيرة, ولو ألقى معاذيره).
وهناك المستوى الميثاقى المكتوب وهو أسطحها وأكذبها.
إن حقوق الإنسان قبل وبعد المواثيق هى ممارسة خلقية دينية فى المقام الأول. وبالتالى فإن الكلام المكتوب لا يمثل إلا السطح الذى لا ننكر ضرورة الالتزام به, لكنه أبدا ليس نهاية المطاف. “الممارسة الأخلاقية لا يظهر صدقها الحقيقى إلا العدل الحقيقى . وأى خلل أو تحيز فى تطبيق مبادئها لابد أن يشككنا فى توظيفها وأن يدفعنا إلى محاسبة القائمين عليها والمنادين بها لتطبق على فئة دون الأخري.
إن الذى يتابع ما يجرى حتى الآن فى القدس خاصة وفى فلسطين عامة وفى أنحاء أخرى من العالم لابد وأن يشك فى كل هذه المواثيق التى تسمح بهذه الممارسات, فى الوقت الذى تصنف الدول من أول الصين حتى أفغانستان حسب معايير وضعها الناس الأبعد دون أن تصدر حكما دامغا وفوريا لما يرتكبه هؤلاء الصهاينة. لم يجرؤ أى منهم على وصف ما يجرى فى فلسطين الآن- بوضوح حازم – إن كان ضمن حقوق الإنسان أم لا . أى لجنة لتقصى الحقائق, مع أن الحقائق قد تقصتها كل تلفازات العالم بلا استثناء.
حين يحرم إنسان من أرضه, ويهدم بيته, ويطلق عليه الرصاص مع سبق الإصرار والترصد, ولا يحاسب مرتكب كل هذه الجرائم بما جاء فى هذه المواثيق فلابد أن نشك فى المواثيق وفى كاتبها وفى الأوصياء عليها على حد سواء.
حين يصل الأمر إلى المساواة بين طفل يمسك نبلة وبين قائد دبابة يطلق صاروخا على بيت آمن, فلابد أن نمزق الأوراق التى يمسكها مدع يفرض وصايته على بلد ليست بلده, لينشر فيها الفتنة تحت زعم حماية أقليات لم تستجر به.
هل يحتاج الأمر إلى ميثاق مكتوب ليتمكن إنسان على أرضه أن يعلن أنه ولد عليها هو وأجداده, وأن من حقه أن يعيش على أرضه هذه وله اسم وجواز سفر وهوية؟
هل يحتاج الأمر إلى ميثاق مكتوب ليسمح لإنسان أن يرى أمه التى حال مغتصب بينه وبين أن يقبل يدها, فتدعو له ذات صباح؟
إن الحضارة الشفاهية كانت تلزم الإنسان بالكلمة, وبالعهد, وبالوفاء, كانت الكلمة تتسق مع الفعل بالضرورة لأنه لا يوجد دليل على صحة الموقف أو متانة الخلق إلا الممارسة المعلنة وشهادة الناس, ثم علاقة الإنسان بربه (وضميره), وحين انقلب الحال إلى الكتابة بدأ التلاعب المقصود وغير المقصود.
هل يمكن أن نصدق أن مجلسا مثل مجلس الأمن, يوقف مصير أمة على أداة التعريف فيظل الخلاف أكثر من ثلث قرن حول ما إذا كان الانسحاب الإسرائيلى ينبغى أن يتم من “أراض” أم من “الأراضي”, ويقال إن النص الإنجليزى يقول إنها “أراض” فى حين يقر النص الفرنسى أنها “الأراضي”, ماذا لو أن مثل هذا القرار كان شفهيا ؟ هل كان الأمر يحتاج إلا إلى خلق قويم, ومنطق سليم يقول “على المحتل أن ينسحب ” . نقطة . ينسحب من ماذا ؟ من الأرض التى احتلها. نقطة. الأمر لا يحتاج إلى أى كلمة زائدة تشرح هذا الموقف الشفاهى البسيط.
ألا يدل هذا الموقف الذى اتخده مندوب انجلترا – بقصد واضح – وهو يحذف أداة التعريف – على طبيعة الأخلاق الكتابية دون الشفاهية .
وفى الممارسة الطبية, ما زال المرضى فى مجتمعنا يثقون والحمد لله فى أطبائهم ثقة تسمح بممارسة المهنة ومساعدة الناس حتى لو لم يقبلوا المساعدة فى أول الأمر, إن المريض يلقى بكل ثقته على الطبيب حين يعلن له من البداية أن رجاءه هو فى “الله ثم أنت”, هنا يقوم الطبيب دون كتابة أو إقرار ببذل كل ما عنده احتراما لهذا العهد المعلن, والمسئولية التى ألقاها المريض الطيب فى وجهه دون طلب منه. أما حين تدخلت الكتابة, وضرورة الإقرار المعلن قبل منح أى مساعدة, وحين تدخل المحامون وسيطا ثالثا بين المريض الطبيب (فى الخارج أساسا ثم فى الداخل تدريجيا) تراجع الطبيب يحمى نفسه قبل أن يمد يده بالمساعدة لمريضه. بل إننى سمعت من بعض زملائى الأجانب وهو يعتزل المهنة آسفا أنه إنما يعتزل وسوف يترك مرضاه بكل ألم “ليعالجهم محاموهم”,وكأنه يعاقب نفسه ومرضاه بجريرة المحاميالذيحال بينهما. ولا حول ولا قوة إلا بميثاق مكتوب.
مرة أخرى أنا لست ضد الكتابة, ولا الإقرار, ولا مواثيق حقوق الإنسان, والأطفال, والمعاقين, والمسنين, وحتى مواثيق حقوق الحيوان. كل ما أردت التنبيه إليه ألا تحل الكتابة محل الممارسة, وألا نعمل كاللص الذى شعر أنه جاءه الفرج حين طلب منه أن يحلف (قالوا للحرامى إحلف : قال جاك الفرج).
إن حقوق الإنسان لا تمارس بعيدا عن حقوق الله سبحانه
إن حقوق الآخر هى هى حقوقى على نفسى لأكون بشرا سويا أما م رب العالمين. أنا لا أكون إنسانا أستأهل الأمانة التى حملتها, والرسالة التى على أن أوصلها إلى بنى جنسى إلا إذا اعتبرت أن حق الغير على هو حقى على نفسي. هذا أمر لا يكتب فى الورق إلا للتقاضى والدعاية والهجاء والمديح .
إن جذورحقوق الإنسان تتكون ونحن ننمى تلك العلاقة المنتظمة مع الله يوميا بصورة جادة وحقيقية ومستمرة . إن عملية تكوين “الداخل” وليس فقط الضمير تحتاج سنين طويلة, وناسا حقيقيين, ودينا طيبا, ووعيا مشتملا. ثم بعد ذلك نكتب ما نشاء أو لا نكتبه.
قد تفيد الكتابة, بعد أن تدهورت الأخلاق, واختلت القيم أن تحدد المعالم, لكنها أبدا لا ينبغى أن تحل محل موقف الممارسة والكلمة الصادقة.
إن كل ما يتصل بإنجازات الإنسان التى تتصل بوعيه وعلاقاته ينبغى أن يحتوى الجديد منها القديم, لا أن يحل محله. ينبغى أن تحتوى الكتابة المشافهة لا أن تحل محلها
كما ينبغى أن يحتوى الحاسوب والتواصل الإلكترونى الكتابة والتواصل الشفهى لا أن يحل محلها.
هذا فقط هو الذى يسمح للإنسان أن يواصل مسيرته كما كرمه الله.
لا وصاية لورقة مكتوبة, مهما كان اسمها براقا,على الوعى البشري.
ولا وصاية لرسالة ممهورة بأدق الأختام على علاقة الإنسان بربه.
لابد أن نحافظ على إيجابيات العرف ونحن نكتب القوانين
ولابد أن نحافظ على إيجابيات العلاقة بالله ونحن نمارس العرف.
مرة أخرى :
بل الإنسان على نفسه بصيرة, ولو ألقى معاذيره حتى لو كانت معاذيره هذه قانونا مكتوبا أو ميثاقا لحقوق الإنسان وغير الإنسان.