“نشرة” الإنسان والتطور
25-11-2008
السنة الثانية
العدد: 452
الحرمان من الحق فى الألم، والرفاهية المسامحة (3)
(تعقيبات وردود)
مقدمة:
لم نكمل حالة عادل بعد، هذه هى الحلقة الثالثة، ومع ذلك جاءتنا تعقيبات هامة تحتاج إلى ردود لعلها تفيد.
ملحوظة: برجاء قراءة الحلقتين السابقتين فى يوميتى “الحق فى الرفاهية (1)” ، “الحق فى الرفاهية (2)” فالاختصار لا يفيد، ومع ذلك فهذه هى محاولة محدودة كالتالى:
“عادل شاب عمره 24 سنة، ذو بداية مبكرة وتاريخ طويل فى الاعتماد على المواد المخدرة والاتجار بها، مريض سكر منذ صباه كما أنه كان مصابا باضطراب فرط الحركة منذ طفولته، ذو تاريخ عائلى ايجابى فى الاعتماد على المواد المخدرة من قبل الأب والأم معاً، فى انتظار الحكم فى قضية تعاطى.
بدأ التعاطى من سن 13 سنة، وتعثر دراسيا، كما تذبذب حتى الفشل فى محاولات العمل، وهو مازال يحاول اكمال الدراسة، دخل المستشفيات للعلاج 18 مرة وانتكس فى كل مرة.
وعرض فى هذا اللقاء العلمى الإكلينيكى لمناقشة الحالة والتخطيط العلاجى فى مواجهة كل هذا الفشل.
والده ناجح بكل المقاييس المعاصرة المتاحة فى المال، والمركز، والمتعة، والسفر، ثم التدين لزوم ضمان الجنة (من وجهة نظره)، وأمه عادية باهتة الحضور شديدة السماح، ناجحة أيضا فى بيتها ووظيفتها (وهى نفس الطريقة برغم اختلاف نوع الشخصية) بطريقتها.
الرفاهية المسامحة
أنس زاهد
1- المشكلة كما أرى هى أولا وقبل كل شيء مشكلة ثقافة. حالة عادل تتمحور حول علاقاته الأسرية التى تم استعراض أبرز ملامحها فى الحلقة الثانية. أول مظاهر الاعتلال فى الثقافة التى أشرت إليها هى التسطيح. خذ حكاية تدين الأبويين مثلا وستكتشف أن المسألة ليست سوى رشوة لله بغرض دخول الجنة. إنها معادلة تم قياسها بالمليمتر تلجأ إليها كثير من الأسر العربية التى تنتمى إلى الطبقة المتوسطة الرفيعة أو للطبقة المخملية. سنوات من اللهو دون حساب، ثم سنوات من التدين ، وهكذا يكسب الإنسان الدنيا والآخرة وكأنه تاجر يود الخروج من كل الصفقات، بأقصى قدر ممكن من الأرباح.
د. يحيى:
أوافقك من حيث المبدأ، فقط أحذرك من البدء بالاستبعاد، (أولا وقبل كل شىء)، لماذا لا يكون الذى يقع هنا فى المقام الأول هو الاستعداد الوراثى، ليس للإدمان بشكل خاص، وإنما الاستهداف للاهتزاز فالاضطراب فالتوازن الكاذب والحلول الزائفة؟ بل لماذا يكون هناك أصلا ما هو أول وثانٍ… إلخ.
لقد تعلمنا من المرضى، وبالذات من حالات الإدمان، ومما علمتنا إياه مؤخرا العلوم الكموية Quantum الأحدث، والشواش والتركيبية .. إلخ، وهو هو ما حاولت الفلسفة وخبرات التصوف أن تعلمنا إياه. لقد تعلمنا من كل ذلك ألا نسارع بترتيب أولويات ما على السطح، على حساب بقية العوامل وطبيعة الأعماق.
واحدة واحدة يا أنس لو سمحت، العوامل تتداخل بشكل رائع مرعب معاً، فلا تسقط أفكارك الجاهزة هكذا بهذه السرعة.
أنس زاهد
2- ثانى مظاهر الاعتلال فى ثقافتنا هو تهميش الفرد لحساب المؤسسة الاجتماعية. الفرد بحد ذاته ليس له قيمة ذاتية ، وإنما القيمة ترتبط بمدى ما يمكن أن يحققه من نجاحات حسب مفهوم النجاح الذى يحدده المجتمع. وهذا يتجلى فى شخصية الأب.
د. يحيى:
هذا صحيح، لكننى أعود أذكرك بالحذر من التعميم، “ثقافتنا” فللأسف، أو لحسن الحظ، أنه لم يعد لدينا ثقافة واحدة، بل ثقافات متعددة، وهذه ليست ميزة، وأيضا ليست عيبا صرفا، ربما أدى هذا الأختلاف إلى يقظةٍ ما، فحركةٍ ما.
ثم إن التأكيد على قيمة الفرد فى مجتمعات متقدمة جدا، وحرة جدا، لم يمنع من انتشار ظاهرة مثل الإدمان مثلما هى منتشرة عندنا وألعن، إذن لابد من التأنى فى إصدار الأحكام.
أنس زاهد
3- ثالث مظاهر الاعتلال هو الكبت الذى يتجلى فى شخصية الأم…. ولا أعتقد أن الأم راضية عن حياتها الجنسية مع زوجها المتحفظ جدا ، فهذا النوع من الشخصيات حسب اعتقادى يمارس الجنس بشكل سطحى للغاية. إنه لا يترك لنفسه حتى التفوه بالألفاظ المثيرة التى يصنفها البعض بأنها خارجة، أثناء ممارسة العملية. الأم متقلبة المزاج ، وشخصية تبدو حية جدا بالمقارنة مع زوجها. وهذا مؤشر إلى أنها لا تمارس الجنس بالشكل المطلوب مما ورث لديها شعورا بالحرمان أدى إلى تقلباتها المزاجية الحادة. الزوج يقول أنها لا تهتم بمظهرها فى حين يقول التقرير عكس ذلك ، وهذا يعنى أن الزوج لا يقدر أنوثتها بالشكل الكافى وهو ما يسهل إدراكه بالنسبة لأية امرأة تمتلك قدرا من الحيوية.
د. يحيى:
هذه الاستنتاجات المباشرة، الجاهزة تزعجنى أكثر فأكثر، برغم أنها شائعة فى المسلسلات، وبعض الإبداع المسطح، وأنت – على ما أعرف – لا تنتمى لهذا أو ذاك.
لا يقاس نجاح الجنس أو فشله بمدى اختراقه للمألوف بالسماح بالتفوه بالألفاظ المثيرة (الخارجة)، ولا يقاس أيضا باستعمال أحد الطرفين للآخر ولا باستعمالهما بعضهما البعض بلغة شدة الفحولة أو نعومة الغنج ما وصلنى من الجزم الذى تصف به هذا أو تلك هو رؤيتك أنت من زاويتك أنت، وهى رؤية من حقك، لكنها ليست بالضرورة غاية المنى.
الجنس الإنسانى يا أنس هو الجنس الحوارى المعرفى الخلاّق وهو ذو حضور آخر، وله نبض آخر، وإن لم تكن له –حتى الآن- مقاييس مباشرة، اللهم إلا ناتجه الإنسانى الإبداعى على الطرفين معا، دعنا نأمل أن نسبر بعض غوره يوما ما، فنوصل بعض ملامحه لمن يهمه الأمر، لعل عددا أكثر فأكثر من الناس يعرفون، أو يتعرفون على بعض معناه أو حتى معالم الطريق إليه.
أما هكذا:
فاعذرنى
لا أنت محق (من وجهة نظرى)
ولا هذين الزوجين يهمها ما يدور حوله حوارنا الآن (غالبا)
أنس زاهد
4- رابع مظاهر الاعتلال هو الهروب من المواجهة. حياة زوجية فاشلة بهذا الشكل لم يكن من المفروض أن تستمر. لكن حرصا على إرضاء المجتمع كذب كل من الزوجين على نفسه واستمرا فى ممارسة علاقتهما المرضية.
د. يحيى:
هذه الأحكام أيضا فيها وثقانية جافة، تقول: “لم يكن من المفروض أن تستمر”، هكذا خبط لزق،
والعلاقة تصفها –خبط لزق أيضا– بأنها “مرضية”، مع أننا نتردد مائة مرة قبل إصدار تصنيفات الصحة والمرض بهذه السهولة.
لماذا تستهل إصدار الأحكام هكذا وأنت قادر على غير ذلك.
شكرا يا أنس
وأرجو أن تراجع موقفك ومنطقك دون أن تتراجع بالضرورة.
شكرا.
****
الحق فى الألم: ضد الرفاهية
د. محمد أحمد الرخاوى
خلقنا بغاية الكرم
وغاية التكريم
\”نفخنا فيه من روحنا\”
فسجدت الملائكة
د. يحيى:
لسجود الملائكة تفسيرات عديدة يا محمد
اختُبرنا بالطاعة المطلقة
في الجنة!!!!!
وكانت شجرة
ثم ثمرة
فعصي آدم ربه
ثم تاب عليه وهدي
وقال \”اهبطوا منها جميعا\”
د. يحيى:
الطاعة المطلقة أيضا لها تشكيلات متنوعة، بعضها خلاّق، وبعضها عدم صرف، وهى عموما ليست كل شىء، الطريق إلى المعرفة ليس فيه طاعة مطلقة بالمعنى السطحى، وإن كان فيه طاعة أخرى لا داعى للخوض فيها الآن.
(أكتفى بهذا لمجرد دعوتك إلى أن تهدّئ اللعب،
ثم دعنا نرجع لما يتعلق بالحالة).
د. محمد أحمد الرخاوى
يخرج الانسان من محاور وجوده، اذا فقد الألم ان يتصل بأصله، يطلب أيام وصله!!!!!، يتحول الانسان الآن الي كتلة عبثية، من فقدان المعني، فالكدح، فالهدف، يفقد ألمه !!!!!، يُثَبِّت شقاءه، يغشي نفسه بكل الأغطية، التي تطمسه، يتمردداخله،…. لا يرضي إلا ان يدور، في لاغائيه، فتزداد الهوة ، بين \”ما هو\”، \”ما خلق من أجله\، وبين ما أصبح، فيأت المصير،\”إن يشأ يذهبكم، ويأت بخلق جديد\”، لكي يحملوا الامانة.
د. يحيى:
هل ترَىَ يا محمد أن الحل الأمثل هو أن يذهب الله بنا ويأت بخلق جديد،
أم أن علينا أن نسعى إلى وجهه ونحن نخلّق أنفسنا من جديد؟
ما علينا
****
د. محمود حجازى
أشكرك على هذا المجهود الرائع مع هذا التحدى وصعوبة المنهج وصعوبة توصيل هذا الكلام ليس فقط لغير المختص، ولكن لكل من لا يعرف هذا المنهج فى قراءة النص البشرى، لم أستطع تحمل حقى فى الألم.
د. يحيى:
تصور يا محمود أننى لا أعمل حساب الأكاديميين والمنظرين الذين يختلفون معى فى أهمية الحزن والألم فى مسيرة النمو، بقدر ما أعمل حساب عامة الناس والإعلام الخائب والدراما المسطحة والدين التسكينى المستبعِد لغير ذلك.
أنا يخيل إلىّ أن كل هذا قد برمَج ويبرمَج الناس على أن الحياة الصحيحة هى الدعة والطمأنينة السلبية، والرفاهية، بدون ألم، بدون خوف، بدون حزن، ما هذا الذى يفعلونه يا محمود، يا شيخ: حتى الحيوانات لا تقبل هذه البضاعة.
عدم استطاعتك يا محمود ألا تحتمل ألمك، هى بداية اعترافك به .. ما أروع الصعوبات الداعية للتعامل معها.
أ. عبده السيد على
الحق فى الألم شىء محترم، وساعات كتير باشوف نتائجه فى الشغل، بس عندى مشكلة: أنا كتير زمايلى يقولولى مع حالات فيها مقاومة شديدة ما ينفعش تتألم … للعيان، أعمل إيه فى ناس متبلدة وصعب تتألم؟
د. يحيى:
لم أفهم رأى زملائك تحديدا، ربما ينبهونك ألا تبالغ فى التألم للمريض، الألم البناء هو ألمنا نحن “مع” المريض، ليس له، ولا بالنيابة عنه،
تعرف رأيى يا عبده أنه لا يوجد “ناس متبلدة”، يوجد ناس يخافون أن يتألموا فى وحدة مطلقة حتى لا ينسحقون،
انسحاب العواطف (الوجدانات) الأصيلة ليس بالضرورة تبلدا، وقد يكون فى كثير من الأحيان نوعاً من الهرب من العلاقة.
أ. عبده السيد على
وصلنى اتهام للأهل بالتقصير، أنا عاذرهم جداً من جوايا، ومش عارف ليه، يمكن علشان النجاح الظاهر ده بيحقق القبول، واستمراره ما قدّاش غرضه.
د. يحيى:
لم أقصد، ولم يصلنى، هذا الاحتمال باتهام الأهل بالتقصير (اللهم إلا من الصديق أنس زاهد وقد رددت عليه قبلك حالا) محاولة لتعرية خطأ ما، إن لم يكن لهؤلاء الأهل بالذات أو لابنهم، فلغيرهم ممن يخدعون فى مثل هذا النجاح وهذه الرفاهية الناعمة الكاذبة.
حين بدأت الممارسة الطبنفسية منذ خمسين عاما ولمدة ليست قصيرة، كانت عندى مشاعر سلبية نحو مثل هؤلاء الأهل، كنت حين أتيقن من دورهم فى إحداث المرض لدرجة الجنون المُقْحَمْ Falie Inposé، كنت أرفضهم وأتحفز ضدهم وكانت قد انتشرت أيامها شائعة علمية عن “الأم المحدثة للفصام Schizophrenogenic Mother، لكننى بتقدم الممارسة تراجعت عن ذلك رويدا رويدا، فأصبحت أركز أساسا على محاولة رؤية الجارى الآن “العوامل المُديمة Perpetuating Factors” لإمكان إيقافها،الآن، بديلا عن التفحير فى الماضى بما يترتب عليه وضع اللوم والاتهام،
أما أن النجاح “ماقداش غرضه” فهو فعلا ما قداش غرضه، بل العكس.
د. محمد الشاذلى
إننا لا ندرك أو لا نصدق أن لنا حقاً فى الألم والحزن والكراهية والغباء، إن قيمة الرفاهية تخلق “صوبات زجاجية”، حول من تحب أن تحميهم من حق العذاب والوجع – هى التى تحرمهم تلقائيا من حق الحياة، لكن الصعوبة الحقيقية تكمن فى إمكانية السماح بالألم، ورؤية الألم، مع دعم ضام كاف دون إفراط فى الحماية أو عمى عن الرؤية، أظن أن الحق فى الألم يسمح به عندما نسمح بالرؤية والمسئولية والرغبة فى الحياة دون تجميل مزيف أو تشويه يائس.
د. يحيى:
يا خبر يا محمد، وصلنى كلامك باعتباره “المختصر المفيد”، تعبيرك الرائع “صوبات زجاجية” فرحت به حتى حسدتك وأنا أتعجب لماذا لم يخطر على بالى هكذا، طمأننى تعقيبك هذا إلى أن ما نمارسه مع كل المرضى بلا استثناء تقريبا كل ثلاثاء، ونحن نعرض عليهم أن يمارسو حقهم فى الحزن (وبدرجة أقل الألم) دون الإسراع بلصق هذا أو ذاك بأسباب عابرة أو ظاهرة، ودون كلام أو شرح أو تعبير لفظى، لعل كل هذا قد ساهم فى تكوين هذه الرؤية البليغة، بهذا الإيجاز الرائع، ياه!! إذن نحن نعمل شيئا يمكن أن يوصف.
فقط أريد أن أضيف أننا لا نستطيع أن نسمح لهم (لأولادنا أو لمرضانا) بمعايشة الألم البناء والحزن الجياش المبدع، إلا إذا سمحنا لأنفسنا بهذا وذاك بأى درجة من الصدق.
شكراً.
د. إسلام إبراهيم أحمد
مش فاهم إزاى المريض لعبها من زمان لما أبوه ربطه، مش فاهم إزاى الابتسامة تكون فى مثل هذه القوة فى خلق مسافة بين الداخل والخارج.
د. يحيى:
أظنك تعرف حالة الصبى الذى أشارك فى علاجه هذه الأيام مع الزميلات د. مارى، د. مى، وأ. عبير، أ.علاء وآخرين، أنا أرى أن فى هذا الصبى –دون ذكر اسمه- قوة يمكنها أن تكسر كل الأصنام أولها طموحات و الده المغتربة، واستعماله لابنه لتحقيقها بكل مقاييس الأب حتى حدث ما حدث .
عادل هنا أيضا بدا لى، منذ كان فى سن صديقى الصبى هذا: ساخر عنيدا قويا تماما، هل تذكره حين وجه أباه أن يحسن ربطه “هكذا”، أو حين نظر فى الساعة وهو يقول “فاضل كام” من زمن العقاب (الحبس).
د. إسلام إبراهيم أحمد
وصلنى أن فى هذه المقابلة التى عرضت بنصها تقريبا، تحرك عند المريض شىء فى الأعماق
وصلنى أننا فقط نحاول أن نحرك لا أن نعالج بالمعنى الطبى،
يا د. يحيى شوقتنا المريض ده وصل دلوقتى لحد فين.
د. يحيى:
أما ما وصلك فقد وصلنى أنا أيضا، واتضحت لى معالمه أكثر أثناء كتابته
ولعل الحوار كان أقدر على التوصيل من الوصف.
أما عن ما وصل إليه هذا المريض الآن، فسوف استفسر عن ذلك من الزملاء، علما بأن الحالة هى من الحالات الأقدم (قبل سنوات)، وأنا اتعمد ذلك إمعانا فى الحيلولة دون التعرف على أحد برغم تغيير الأسماء وغير ذلك.
***
وبعد
أتوقف الآن – مرغما – لنكمل غداً التعقيب النهائى بدءاً بما دار فى الاجتماع العلمى التجريبى.