نشرت فى الوفد
15-9-2010
تعتعة الوفد
الحاجة إلى إبداع “ديمقراطية” قادرة جديدة!
أصوات كثيرة ترتفع فى مواجهة المسيرة الغربية، أو بتحديد أدق: الأمريكية. لا ينبغى أن نفرح بعلو الصوت دون تحليل المحتوى. هيا نحاول أن نصنف بعض هذه الأصوات:
(1) فريق الوصم والمعايرة (والفخر والهجاء): وهو الفريق الذى ينبرى يعدد ما عندهم من أنواع الجريمة، ونسب الانتحار، وسيطرة المافيا، وقصص الفساد، وانتشار المخدرات، والشذوذ الجنسى، وكأن هذا كله يصف المجتمع الغربى دون سواه، وكأن هذه المثالب هى أهم ما يميز المجتمع الغربى دون الإنجازات العلمية والفنية والإبداعية..إلخ. هذا الفريق يمكن أن يمثل “الرفض الجزافى”، هذا الفريق لا يميز بين الحكومات والشعوب، ولا يميز بين الإعلان المغرض مدفوع الأجر سرا أو علانية، وبين موجات التعاطف الشعبية، ومواقف المبدعين والنقاد الأمناء من الغربيين أنفسهم.
(2) فريق التحذير والتبصرة، وهو فريق يتخذ موقف الحذر المترقب، فهو يفند ما يرى عندنا وعندهم قبل أن يحكم عليه، وهو الفريق الذى يغلب عليه الشك، وكثيرا ما يتهم هذا الفريق بما يسمى “التفكير التآمرى”، إذا تمادى فى تفسير كل ما يصيبنا، حتى لو كان ذلك بسبب تقاعسنا نحن، يفسره بأن هذه القوى الإمبريالية المسيطرة هى التى تحيك لنا المؤامرة تلو المؤامرة، وهذا وارد، لكننا مسئولون عنه ضمنا، وعلينا أن نحترم هذا الفريق بقدر ما أصبح ما يسمى التفكير التآمرى هو الأقدر على حفز التوقى الموضوعى من المؤامرات التى تحاك طول الوقت لتقسيم العالم إلى سادة وعبيد، (ونحن من العبيد طبعا!!) تحت عناوين جديدة، وتحالفات جديدة، وأيديولوجيات جديدة.
(3) فريق النقد الموضوعى والإبداع المحتمل: وهو الفريق الذى يرى نقصهم بقدر ما يرى تفوقهم وإنجازاتهم، وفى نفس الوقت هو يرصد النقص المقابل عندنا، كما يعترف بالقصور الوارد فى تقييم أدائنا فى مواجهة تفوقهم وتقاعسنا، وأيضا لا يفوته ما يمزنا الآن وليس أمس، وهو إذ يفعل ذلك يتفهم جيدا معنى النقد المسئول. كثير من أفراد هذا الفريق هو ممن شدوا الرحال إلى بلاد هذه الحضارة الأخرى، فعايشوا نبض الإيقاع اليومى لهؤلاء القوم الذين ننقدهم، واستفادوا من رحابة مساحة الحوار لديهم. وجهد هذا الفريق هو أحوج ما نحتاجه الآن ونحن نحاول أن نصيغ حياتنا بشكل أفضل وأقدر.
إن التفرقة بين الفريق الأول (فريق الرفض والشجب)، مضافا إليه بعض الفريق الثانى (فريق التحذير والتبصرة ) وبين ”فريق النقد الموضوعى والإبداع المحتمل”، هى أول خطوة للاستفادة من تحديات المواجهة فمسئولية السعى إلى ما قد نصلح به، ونتميز فيه.
نحن لن نكسب شيئا إذا توقفنا عند تعداد عيوبهم بالحق والباطل، لن نحرز أى هدف حين نعايرهم بالشذوذ الجنسى وكأننا بلغنا مرحلة الجنس البشرى التواصلى الخلاق، ولن ينفعنا الزعم بأننا أمتن فضيلة، وأعرق أخلاقا، إن المطلوب هو مواجهة حضارية ببدائل واقعية، قابلة للتطبيق هنا وهناك. إن علينا أن نعيد إبداع ما يمزنا، دينا، أو ثقافة، أو حضارة، وإلا فلا داعى للتمادى فى الوقوف على أطلال حضاراتنا، وحكايات تاريخنا، ونحن أبعد ما نكون عن هذا وذاك.
أقر وأعترف أننا بنظم تعليمنا الراهنة، وبنوع حكامنا الحاليين، وبأوهام غرورنا التاريخية، وبتجمد توقفنا عند آليات تفكيرنا السلفى، أقر وأعترف أن الفرص محدودة محدودة لإفراز مبدعين فرادى أوجماعات يمكن أن يساهموا فى المشاركة فى تجاوز أخطاء البشرية عبر العالم المتمدن والمتخلف على حد سواء.
منذ عقد كامل ينبهنا د. نبيل على فى رائعته “الثقافة العربية وعصر المعلومات” (عالم المعرفة يناير 2001) ينبهنا (ص 196) قائلا: … نحن نحتاج إلى فكر سياسى جديد، يكشف عن وهم الديمقراطية الزائف، ويحرر”سجناء الهواء الطلق” على تعبير أدورنو- الذين يعتقدون أنهم أحرار، وما هم بأحرار، يساقون إلى صناديق الانتخابات كالقطيع، وتحصد آراءهم ومواقفهم إحصاءات قياس الرأى العام.. إلخ” فنتذكر أن هذا هو نقدهم لما هم فيه، ولما يدعوننا أن نحذو حذوه، نحن لا نكف عن ترديد وتقديس أن “الديمقرطية هى الحل“، صحيح أن عند أغلبنا حق فى ذلك لأننا بمجرد أن نشكك فى جدوى أو فاعلية البضاعة المعروضة تحت اسم الديمقراطية، يفرح الحكام الشموليون المتسلطون وكأننا تنازلنا بذلك عن أبسط فرص المشاركة الفعلية فى اتخاذ قرارت مصيرنا، وخوفا من هذا الانقضاض على نقدنا للديمقراطية المعروضة لصالحهم، يسارع أغلبنا بالتوبة عن إثم النقد والأمل فى الإبداع ويعود يسبِّح للديمقراطية مهما شاهدت صورتها، وضعفت موضوعيتها (شىء أحسن ما لا شىء).
الشجاعة الحقيقية هى أن نواصل رؤية ديمقراطيتهم على حقيقتها، نعم من حقنا أن نشكك فى قيمة صناديق الانتخاب، وخداع قياسات الرأى العام، ولكن دون الوقوف عند هذه المرحلة؟ علينا أن نسأل فورا: هل يوجد بديل غير الحكم الشمولى؟ وسوف نجد الإجابة الصادقة جاهزة تقول: لا، لا يوجد بديل الآن. إذن ماذا؟
علينا أن نتجرع الكأس الحاضر دون أن نتغاضى عن مرارته التى تدفعنا للبحث عن حل، وهذا ما عنيته بما جاء فى مقالى السابق هنا “دمّقْرَطْ بالديمقراطية حتى تأتيك الحرية” (بتاريخ 5/8/2009)، ولكن الحرية لا تأتى إلا لمن يدفع ثمنها من المعاناة والإبداع.
قبل أن اختم حديثى أود التحذير مما يحاوله البعض وهو يدعونا أن نمارس نفس النظام المعيب والناقص، تحت عناوين يستعيرها من منظوماتنا السلفية، هذا البعض لايتردد أن يستعمل كلمة الديمقراطية وهو يلصقها لصقا بما يتصوره عن دينه، فيزعم أن ثمة ما يسمى “ديمقراطية الإسلام” مثلا، ثم يمارس تحت نفس الشعار المفبرك كل عيوب الديمقراطية المشبوهة دون ميزاتها.
إن من حقنا أن نعترض، وأن نحذر، وأن نرى النقص حتى لو لم نملك البديل الجاهز الآن. لكن هذا الحق لا يكون شريفا ولا مسئولا إلا إذا أصبح دافعا متجددا متحديا للبحث عن بديل حقيقى قادر فاعل.
لابد أن هناك بدائل أفضل،ليست بالضرورة جاهزة أو مستوردة، وعلينا أن نشارك فى البحث عنها باستعمال أحدث أدوات العصر، لنخلق منها وبها حلولا جديدة تماما، ما دامت حلولنا السلفية قد انتهى عمرها الافتراضى، وحلولهم المستوردة مقولة بالتزييف، والتمويه والخداع.
أكرر: واثق أنا من أن التكنولوجيا الحديثة وثورة التواصل سوف تتطور حتى تسمح لنا ولهم بتعدد مستويات الحوار، لتحل تدريجيا محل غول الإعلام المركزى، وتفرد الوصاية المؤسساتية فى كل المجالات دون استثناء البحث العلمى الملتبس، لكن هذا لن يتحقق إلا باجتهاد كل البشر “كفرض عين” إذا قام به البعض، لا يسقط عن الباقين.
لا مانع أن نقبل المرحلة، لكن لتكن مرحلة لها نهايتها فى انتظار تراكم المحاولات الإبداعية، هذا هو ما أسميته “الانتظار المبدع”، وشرطُهُ ألا تتوقف المحاولات مهما طال الزمن.
لا بد أن قانون البقاء قد تغير إلى ما يليق بمن هو إنسان:
البقاء للأشجع إبداعا، وأقدر تكافلا، وأعدل نقدا،
وليس: للأفتك أسلحة، ولا للأكثر مالا، ولا للأعلى إعلاما وشعارات، ولا للأخبث ديمقراطية ومناورات ومفاوضات مشبوهة.