الجيوش الشكلية والشعوب المحاربة (تعتعة سياسية)

نشرت فى الدستور

2-8-2006

الجيوش الشكلية والشعوب المحاربة

خلال الثلاثين سنة الأخيرة، وحتى الأن، حاولت أثناء ممارستى مهنتى أن أسأل أى شاب حاصل على الثانوية العامة ممن يتقدمون للحاق بالكليات العسكرية عن سبب رغبته تلك، فلم أجد إجابة واحدة – لا فى الوعى الظاهر ولا فى عمق الوعى الكامن – لا من أى منهم، ولا من أهله، تقو: إنه يفعل ذلك ليحارب فعلا، ليحرر ناسه، ليدافع عن بلده. أنا أتكلم عن الحاصل على الثانوية العامة وليس عن الذى يمكن أن يسمّع درسا فى التربية الوطنية فى الكلية العسكرية بعد  ذلك.

الذى يقرأ تاريخ الصراع الدائر منذ 1948 لابد أن يكتشف أن الجيوش العربية لا تحارب إلا استثناء، لا أعنى بالجيوش العربية أفراد الجيوش من جنود وضباط، وإنما أعنى مؤسسة الحرب حتى وإن سمت نفسها مؤسسة الدفاع (فالدفاع ليس إلا الاسم الحركى لكل الحروب)، تلك المؤسسة  التى تقود هذه الجيوش، وتشترى لها الأسلحة بمليارات الدولارات، والتى  ينتهى عمرها الافتراضى قبل أن تستعمل أصلا. قد يجرى لأفرادها تدريب أو استظهار بعض الدروس العسكرية ولو من باب الإلهاء او تزجية الوقت، لكن الوعى بالحرب كواقع مطروح،  واحتمال وارد على الأرض، الحرب لما جعلت له الحروب، هو وعى غير موجود أصلاً.

تاريخنا الحديث يفيد أن  الذين يحاربون بمعنى الحرب، وبنفس طويل عنيد، هم الناس وليسوا المجندين انتظاما، حتى الأبطال النظاميين الذين يعرفون المعنى الحقيقى للأرض، والعرض، والكرامة، لا يتمكنون –عادة- من أداء دورهم الوجودى الشريف إلا خارج الجيوش العربية النظامية.

 كان البطل الشهيد أحمد عبد العزيز واحدا ممن حملوا الدعوة إلى الجهاد وتنظيم الأفراد المتطوعين فور صدور قرار التقسيم وانتهاء الانتداب البريطاني في 14 مايو 1948. قام بالتدريب والإعداد بتلقائية رائعة، وبدلا من أن يلقى دعما رسميا من الدولة فوجئ بمن يخيِّره بين ترك وظيفته -وكان برتبة مقدم- أو ترك عمله التطوعي والبقاء في الجيش، قائلا له: “إذا أردت الجهاد فلتحل إلى الاستيداع”، فأجابه دون تردد: “ورتبتي أتنازل عنها إذا تطلب الأمر، ما دام في ذلك مصلحة البلاد”.

بدأ “أحمد عبد العزيز” العمل على الفور، واستقبل المتطوعين في معسكر “الهايكستب”، وتولى تدريبهم وإعدادهم، واعتمد في تسليحهم على ما أمدّته به قيادة الجيش من مدافع خفيفة وأسلحة، وقدر من الذخائر بعد أن ألح في الطلب، كما اعتمد على ما جمعه المتطوعون من الأسلحة التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية؛ فأصلح ما يُمكن إصلاحه منها، ولما بدأت قوات الجيش المصري الرسمية تتقدم إلى فلسطين عرضت على “أحمد عبد العزيز” العمل تحت قيادتها، فتردد في البداية فى قبول العرض، واحتج بأنه يعمل مع جماعات المتطوعين الذين لا يلتزمون بالأوضاع العسكرية التي يلتزم بها الجيش النظامي، ثم كان ما كان حتى استشهد بنيران صديقة فى ظروف ملتبسة .

ما يقوم به الآن حزب الله بقيادة حسن نصرالله يذكرنا بهذا التاريخ حتى لنعجب ونحن نتساءل: من الدولة ومن الناس؟  لماذا جعلت الجيوش إن كان الأصلح والأطول نفسا والأقدر دفاعا هو مثل ما يجرى؟ حين رحبت بما يسمى معاهدة السلام، كنت أتصور أننا سنستغلها لنبنى أنفسنا فى كل المجالات استعدادا لمواجهات متجددة أصعب وأروع باستمرار، بما يشمل أن  نحد من عدد ومصاريف الجيش النظامى مع تغيير نظام التعليم والتوظيف حتى يصبح كل الناس فدائيون فعلا تحت الطلب طول الوقت، لكن الذى حدث هو أن الجيش تضخم وزادت المصاريف وكثرت التصريحات، وخلاص.

فى العدوان الثلاثى وبعد انسحاب الجيش من سيناء انسحابا مدروسا ضروريا، تولى الشعب أساسا حرب الشوارع فى مدن القناه، وفى بورسعيد خاصة، وحين تمت التنازلات سرا لم يستشر أحد هؤلاء المقاتلين فى تلك التنازلات التى لم نعلم عنها شيئا إلا قبيل كارثه 1967.

أما انسحاب 1967 فكان شيئا آخرا مخزيا وغبيا. عندما كنا –كأطباء- نستقبل جنودنا وضباطنا فى قصر العينى وهم عائدون من الفضيحة، وقد تورمت أقدامهم وانكسرت نفوسهم، كان أغلبهم لا يشكو من جروح أو تورم قدميه، أو يحكى عن عطشه، أو جوعه، كان يشكو من أنه “لم يحارب”. انقلب بعض الجنود والضباط إلى مجرد” ناس لهم أرض وكرامة أولا وقبل كل شىء، كانوا يريدون العودة للجبهة أفرادا مقاومين قبل أن نضمد جراحهم. كان بعضهم يرفض زعم قائدهم أنه أمر بانسحابهم العشوائى المضطرب لكى يحمى أرواحهم لأنهم يعرفون أن أرواحهم هى لحماية بلدهم، قبل العكس.

هل وظيفة جيوشنا – كما يشاع – هى أن تحمى النظم القائمة، قبل الأرض والعرض؟

أنا لا أصدق، ولا كل رجالات الجيش الشرفاء يصدقون.

غالبا.