نشرت فى الدستور
22 – 2 – 2006
الجوع إلى وطن
لم تكن لى أبدا علاقة حميمة بهذا العَلَم، كان عندى عمى ألوان سياسى/تاريخى تجاهه، ربما تم ذلك إراديا دون أن أدرى، لم أحرص على التأكد من ألوانه يوما ما، هل هى الأحمر والأزرق والأبيض، أم الأحمر والأسود والأبيض. بعد إجهاض الاتحاد العشوائى مع سوريا، ازداد موقفى تجهيلا لهذا العلم المُفرَغ من التاريخ. حين ذهبت إلى فرنسا سنة 1968 وكان اسم جمهوريتنا مازال “الجمهورية العربية المتحدة”، نظرالموظف الفرنسى المهذب فى جواز سفرى، ثم رفع رأسه إلىّ ساخرا بعد أن قرأ أننى من “الجمهورية العربية المتحدة”، وقال: يا مسيو: المتحدة معَ مَن ؟ِ Avec qui. كان العلم قد زاد نجمة بلا ناس ولا تاريخ أيضا، برغم كل ذلك فإننى لم أرحب أبدا باقتراح العودة إلى علم مصر الأخضر ذى الهلال والثلاثة نجوم، أنا لا يطيب لى الغزل فى أيام زمان، عشت نصف قرن بلا عَلَمْ حتى مساء يوم الثلاثاء الموافق 7 فبراير 2006 .
تجنبتُ منذ البداية، أو قل تغافلت عن مشاهدة مباريات كأس أفريقيا، وحتى عن سماعها، مع أننى تابعت أخبار نتائجها، ورقص وفرحة أحفادى حول أحداثها، وهم يرددون بتلقائية – لأول مرة: اسم بلدهم “مصر”، فرحت “بزعبوط” حفيدى “على” ذى الألوان الثلاثة، وحتى بشخبطة وجه “رانا” و”ليلى” بنفس الألوان. كنت أتعرف على ألوان علمهم/علمى، لأول مرة، كنت قد يئست من أن يدخل إلى وعيهم ما هو “مصر” بطينها وناسها وعلمها وتاريخها، قارنت مشاعرهم الآن بما أفجعنى منهم فى الساحل الشمالى أو العين السخنة وهم منفصلون، هم وأقرانهم، عن أرضهم وناسهم، كنت أتصور أنهم لم يعرفوا أصلا أنهم ينتمون لأرض فيها ناس، لهم حكومة، وعلم، وفيها انتخابات ومشاركة ومسؤولية، لم يعتذر أى والد لهم عن صحبتهم يوما إلى النادى أو المدرسة، بسبب أنه ذاهب إلى صندوق الانتخاب، يشارك فى إدارة وطنهم “مصر”.
فى تلك الليلة (الثلاثاء السابع من فبراير)، وفى تلك الساعة (حول التاسعة مساء)، فى ذلك الشارع (فى المعادى)، كان مذياع السيارة مغلقا تجنبا للتوتر، وخوفا على مشاعر أحفادى، مصر ضد السنغال، الدور قبل النهائى، تـُرى من الذى كسب؟ ! مازال المذياع مغلقا. انطلقت فجأة أبواق السيارات حولى، تيت تيت، تا تا، فانطلق منى كيان مستقل يرقص دون ورع، رحت أردد بهدوء زائف : الحمد لله، الحمد لله، ثم أخذت أضغط على نفير عربتى وكأننى أجيب طارقا ما، لم تمض دقيقتان حتى انشق الشارع عن شباب بلا عدد يجرون راقصين فى الشارع وكأنهم جانٌّ خرج من تحت الأرض. تلون الشارع كله حتى السماء بألوان هذا العلم الذى أحسست أننى أتعرف عليه لأول مرة، خفق قلبى بشدة دون إذن منى، عندى أربعة عشر عاما، صباح تغنى “أنا ستوتة” “أنا إنسية، لا انا عفريتة، ولا جنية”، تنورتها فوق الركبة بكثير، هؤلاء الشباب “الجن” الذين انشقت عنهم الأرض هم حقيقة لا وهما، هم ناسى بحق وحقيق؟ كان قلب صباح وهى تغنى فى الفيلم، والهواء يداعب طرف تنورتها، يقفز راقصا خارج قفصها الصدرى، رأيت هؤلاء الشباب والأطفال وبعض الشيوخ وكأنهم قلب مصر يقفز خارج أسوار القفص الحاكم النظام الجامد الجاثم.
بعد ثلاثة أيام مساء الجمعة، كاد قلبى يتوقف وعصام الحضرى يصد الهدف تلو الآخر، لم أشاهد من كل المباريات إلا هدفنا الصحيح المُلغى فى هذه المباراة النهائية، ثم ضربات الجزاء الترجيحية.
فرحتُ طبعا بلا حدود، لكننى رفضت أن أخدع وأضخم معنى ودلالة هذه الفرحة!! لم أفرح لمجرد النصر الذى كان يمكن أن ينقلب محزنة تُقلّب علىّ القديم والجديد من هزيمة 67 إلى عبّارة السلام 98، ليس لهذا النصر من دلالة إلا أن أحدا ليس من حقه أن يصدر شهادة وفاة بالموت الإكلينيكى سياسيا لشعب مصر، هذا هو قلب مصر: مازال شابا يمكن أن يقفز خارج الأسوار.
بلغنى كل ذلك على أنه إعلان عن جوع الناس إلى وطن، له حكومة من ناسه، يُرْمز له بعلم يدل عليه، يتجمع حوله أهله وهم ينتصرون، وهم يحافظون على كرامته فى أى امتحان حرب أو اقتصاد أو سياسة.
هى مجرد رسالة، تذكرة، احتمال بداية، لا أكثر ولا أقل.
الجوع إلى وطن لا يرويه صد ضربتَىْ جزاء من حارس مرمى بطل.
تُـرى هل نستوعب صرخة هؤلاء الأطفال الشباب الشيوخ لنكون مسؤولين عما تعنى؟
أم نتمادى فى استغلال جوعهم لوطن، لمزيد من التزييف السياسى، أَكَذب وأغُبَى؟