الأهرام: 30/03/1994
الجنون والحضارة .. والمبنى والمعنى
ليست هذه أول مرة تثار فيها قضية مستشفى العباسية وعلاج الأمراض النفسية ويستحسن الافتراض المبدئى أن كل الذين أدلوا بدلولهم فى هذه القضية هم أحسنوا النية، مع التنبيه بأن حسن النية ليس مزية على طول الخط.
وحتى نتناول هذا الموضوع بطريقة موضوعية يمكن أن يسهم فيها الرأى العام، والرأى العلمى، والحس الحضارى على حد سواء لابد من ترتيب الأوراق وتحديد الأسئلة وطرح الفروض والبدائل ثم بعد ذلك يتحمل كل مسئول وعالم وشاهد وكأتم شهادة يتحمل كل هؤلاء ما ترتب على موقف تاريخا وفعلا (أجلا ومستقبلا) وأبدا بنفى بعض ما ينبغى أن ينفى ابتداء:
1- ليست القضية قضية رعاية خاصة للمرضى النفسيين والعقليين فهذه مسألة واجبة وليست محل نقاش والمرضى يرعون بقدر ما تتوافر لهم الامكانات والخبرات فى أى مكان بكل وسيلة.
2- وليست القضية ان مريضا مات وآخر أصيب لأن هذه أمور تحدث فى كل مكان والاهمال يجازى عنه المهمل بالطرق الإدارية والقانونية والإنسانية هذا إذا ثبت أن ثمة إهمالا أصلا.
3- وليست القضية هى نقل العباسية أو الابقاء عليها فهذا أمر ظهر على السطح لأسباب أخرى ليست واضحة تماما والتفسيرات تتراوح بين التفكير المقاولاتى والتوجهات الغامضة.
4- لذلك أرجو ألا تكون القضية هى تنفيذا لتوجيهات عليا بقصد أو بغير قصد بشفقة حقيقة أو خوف خفى.
5- وأخيراً ليست القضية قضية تبرعات أهل الخير والمقاولات فى مقابل التزام أهل الحق والواجبات.
فما هى القضية إذن:
ان المشكلة ان أغلب المتحدثين وغير المختصين من المسئولين وأصحاب القلوب الرحيمة من الظاهر وأصحاب التبرعات الوفيرة والمشاريع الكثيرة أغلب هؤلاء ينظرون إلى الأمراض النفسية من أعلى ويعتبرون أن هذه النظرة هى منتهى السفقة والعمل والرعاية وهم لا يعرفون بالقدر الكافى المعنى الحقيقى للجنون لا من منظوره التاريخى ولا من منظوره الحضارى.
ولنبدأ بتقرير حقيقة شديدة البساطة رغم غرابتها الظاهرة: وهى أن تاريخ الجنون هو تاريخ الحضارة وهذا لا يعنى أن الجنون هو الحضارة (فلا داعى للاسراع فى اللعب بالمغالطات المنطقية) ويترتب على ذلك أن موقف المجتمعات والأمم من الجنون يدل ارتباعا ودنوا على موقعها على سلم الحضارة وهذا المنظور التاريخى لا يتوقف على طريقة الرعاية التى يحظى بها المرضى العقليون فى مجتمع ما فى فترة بذاتها (وان كان هذا عاملا هاما) ولكنه يشير أساسا إلى مدى تحمل الناس لشطحات المجانين واحترام وجودهم والتعلم من خبطاتهم وحكمتهم للنظر فى أنفسنا لنجدهم داخلنا وليس فقط خارجنا ومنذ كتب ميشيل فوكوه كتابه الرائع عن تاريخ الجنون أصبح هذا المنظور من بديهيات التاريخ ومن أبجدية المعالمخ الحضارية لأمة من الأمم.
ومن هنا جاءت أهمية الدلالة الرمزية والتاريخية لمستشفيات الأمراض العقلية فى أى أمة من الأمم وفى أى مدينة من المدن ومن هنا جاء الحرص على أن تكون مستشفيات الأمراض العقلية مكانا ومعنى من أثار أى أمة تحرص على المحافظة عليها أينما هى كيفما هى مثلما نحرص على اثارنا فى كل موقع كما هى حيث هى سواء بسواء وتعامل مستشفيات الأمراض العقلية بكل ملحقاتها معاملة الاثار الخالدة والمسموح بالنسبة لها فى كل العالم، ومع احترام التاريخ هو ان يتم التحسين والتحديث إلى أرقى مستوى وصل إليه العلم دون مساس بأى مظهر أو مكان أو مساحة ذلك لأن الأمة التى تترك مساحة ثلاثمائة فدان حول مستشفى الخانكة ومائة فدان حول مستشفى العباسية (مثلا) ليست أمة بلهاء لا تعرف كيف تستغل الأرض لكنها أمة تعرف معنى الأرض ومعنى الإنسان عاقلا ومجنونا وحين يأتى مؤرخ يكتب تاريخ تلك الحقبة سيحنى هامته لنا وان كان خواجه سيرفع قبعته ثم بعد ذلك ليحكم التاريخ على ما يجرى الآن بما يستحق.
أما عن موضوع المستشفى فى وسط المدينة أو فى أطرافها فالنظرية الأحدث تقول انه يستحيل ان تحترم المجنون أو تعالجه الا إذا احترمنا جنوننا نحن ولكن دون أن نجنى ومن هنا جاء حرص المتحضرين والمبدعين على ان يجعلوا هذا الرمز قريبا من وعيهم وفى مجال رؤيتهم وذاكراتهم ولا يقذفون به بعيدا فى أطراف المدينة أو جوف الصحراء وكأنهم بذلك قد أعفوا أنفسهم من النظر إلى الداخل.
وبألفاظ أخرى: ان تاريخ الجنون هو تاريخ الحضارة لانه مصدر الابداع ودلالة التكامل ولا يقاس هذا التاريخ بحداثة المبنى أو نصاحة المقاولين (المتر هنا بكم) وانما يقاس باحترام المأساة لتصبح موقدا ودافعا للابداع ليس لإبداع الجنون ولكن لابداع الحضارة (ملحوظة مكررة: تاريخ الجنون واحترام الجنون ليس دفاعا عن الجنون ولا تبريرا له) لهذا اثارنى حديث أ.د.عكاشة حين نتهم نحن الذين وهبنا حياتنا لاحترام الإنسان ورعاية الجنون وخاصة جنون الأسوياء (لا يوجد خطأ فى التعبير) حين نتهم أننا متخلفون ونحن ندافع عن تاريخنا وحضارتنا .
وقد يكون هذا الاتهام مفهوما فى ظل القيم الجديدة بشكل أو بآخر حيث نخلط القيم الجديدة بين الحضارة والمدنية بين الرعاية الظاهرية واحترام الإنسان بحق ما هو انسان بين انجازات الاسمنت وعطاء الابداع ونحن نعلم تمام العلم ان كل المسئولين حريصون كل الحرص على كل ما هو حضارى وأن أيام منهم يستحيل أن يخلط بين الحضارة والمدنية بين الرعاية الحقيقية للإنسان الذى يعانى عقليا وبين تعتمد اخفائه بعيدا عن دائرة وعينا على طرف مهمش تحت زعم النظافة العصرية.
وكل هذا حاولنا أن نشرحه بتواضع وبالأرقام وبالقياس وبالاستشهاد بدول أخرى وتاريخ ثابت وعلم رصين لنمارس ديمقراطية حقيقية يستهدى بها صاحب القرار لكن بعد كل هذا وبعد الاجماع والمذكرات وبعد أن نهبنا إلى خطورة العبث الذى يمكن أن يلحق بآثارنا وبالتلطيخ الذى يمكن أن يلحق بتاريخنا رغم حسن النية بعد كل هذا اتهمنا بأننا متخلفون لا نعرف مصلحة مرضانا ولا نعرف معنى الحضارة.
لم يبق إذن إلا أن نصيح بأعلى صوتنا الا هل بلغنا فأشهد اللهم واشهد يا تاريخ امتنا واشهد يا وعى شعبنا أن بعض المسئولين حسنى النية دعونا ديمقراطيا لنقول فقلنا وها هم ينقلون الهرم البشرى المسمى مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية ليصنعوا بدلا منه مستشفى يتصورون انه عصرى مثلما يتصور أحد انه قادر أن ينقل هرم خوفو إلى مدينة السادات ويستبدل به هرما من البلاستيك المتين بصورة أفضل وحجم أكبر ومواصلات أسهل انقوا الله يا سادتى حسنى النية.
وأعلموا أن التاريخ لا يرحم وأن الديمقراطية لا تستعمل من الظاهر.
وأن ما نعانيه من فراغ وارهاب وضياع ظاهر وخفى لن نتجاوزه بمثل هذا اللاحوار وتجاوز التاريخ وتلطيخ الحضارة وادعاء التحديث
الا هل بلغنا اللهم فاشهد اللهم فاشهد .
(اشهد ولا تنتقم لأنهم أهلنا ..
ولأن انتقامك سيلحقنا قبلهم)
ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم.