نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 21-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3915
عودة إلى:
جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (من الإبداع)
مقدمة:
برجاء قراءة مقدمة أمس وأول أمس بما فى ذلك “ملخص ما نشر” إذ أنه هو هو، أما التفاصيل، وهى أصل الأصل، فهى التى تجعل ملخص ما نشر بمثابة “إهانة” النص، وهى ما ثلة تتجدد، وتدعوك للعودة إليها بما نستطيع.
ثم إن اليوم هو يوم نشر الفصل مجتمعاً كملحق لهذه النشرة.
وهو أيضا يوم مغامرة نشر (اقتراح) الملاحظات والإشارات.
ملخص ما نشر:
عبد السلام المشد مواطن مصرى، طيب، من أواسط الوسط، من أسرة متواضعة فى الريف المصرى، وهو موظف بالمدينة “متزوج ويعول”. فجأة وبدون أى مقدمات أو علامات منذره وجد نفسه فى خبرة يقال عنها “مرضا” وذلك حين فوجىء وهو واقف فى صف دفع ايصال كهرباء متأخر، فوجىء بلا مفاجأة: أن موظفة الشباك تسأله: “الاسم يا سيد”، وإذا به وكأنه يتعرف لأول مرة على أن له اسم، وأن هذا الاسم ليس جاهزاً طول الوقت، وأنه غالبا يدل على من يتسمى به: الذى هو المدعو عبد السلام المشد نفسه، وإذا به يعيد النظر فى “مـَـنْ هو ولماذا هو وإلى أين، يعيد النظر فجأة وبحدة وتشتت، هكذا ينطلق داخله، فى التجوال داخل داخله وحوله وخارجه بطريقة لم يـَـعـْـتـَـدها، ثم يواصل التداعى وهو يصف المفاجأت المتتالية والتداخلات العشوائية بين بعضه وبعضه وبينه وبين من حوله، بما يتضمن من مراجعه ونقد وربكة وتساؤل ونقلات.
(ومازال عبد السلام يحكى خبرته (تيار الوعى):
****
الجزء الثالث من الفصل الثانى:
“إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”: (رواية الواقعة) (1)
…….
…. طرقت باب الأستاذ غريب دون سابق موعد، كنت قد تأخرت بعض الوقت عن ميعاد عودتى إلى البيت دون سبب، فقد تعودت فى الأيام الأخيرة أن أترك قدمى تنفصلان عن جسمى وتتصرفان بوعى خاص، أما أنا فقد كنت أنتهز الفرصة وأواصل الفرجة على هذا العرض المستمر بلا ملل، أتذكر أيام الطفولة حين كنا نختبئ، فى دورة مياه دار السينما بعد انتهاء حفلة الماتينيه، وذلك حتى نحضر حفل السواريه بدون مقابل: نفس الفيلم، نفس الأحداث، لا مفاجأة ولكن مجرد الفرجه مرتين أو ثلاثا كانت ضربا من شطارة الفلاحين التى اصطحبتها معى من القرية إلى المدينة، فى بعض دور العرض الأخرى كان مسموحا “بالعرض المستمر” دون حاجة إلى الاختباء فى دورات المياه.
حين كانت قدماى تسوقانى إلى حوارى سوق السلاح، والسيدة زينب، والمغربلين كنت ألاحظ أن التمثيل هناك من النوع “الواقعى” جدا: الأدوار مسبوكة والحركة طبيعية حتى تكاد تظن أنها ليست تمثيلا أصلا بالمقارنة بما يجرى داخل الشقق المخُكمة ووراء المكاتب الحكومية التى تتطلب بعض الفكاهات البذيئة، وأحاديث السياسة الدائرية حتى تكسر الملل من المسرحية المعادة بلا نهاية.
فى تلك الساعة المتأخرة من النهار طرقت باب الأستاذ غريب بدلا من بابنا، وأحسست بقرون استشعارى تسعى إليه تحاول البحث فى موقفه: تـرى هل هو ممثل فى مسرحية لا أعرفها أو أنه متفرج مثلى؟ أشعر أنى بإقدامى على هذه الخطوة أدخل دنيا جديدة على تماما، دنيا تختلف عن تلك التى كنت أعيشها فى حالة التنويم السابقة وعن تلك التى أحاول أن أعيشها هذه الأيام، ولو أنى أدركت أنى لا أعيش هذه الأيام ولكنى فقط، أحاول تأجيل مصيرى الذى لا أعرفه بالفرجة، والمكر، وادعاء الحكمة، واختراع نظريات جديدة،
فتح لى الأستاذ غريب الباب بعد فترة، كانت تبدو عليه آثار النعاس، يبدو أنى لم أنظر فى ساعتى لأتبين أننا قرب العصر، وقت القيلولة، نظر إلى فى دهشة برغم أن جزءا منه بدا عليه وكأنه ينتظرنى منذ عهد بعيد، مرت فترة صمت كادت تفسد على توازنى، هذا الرجل لا أستطيع أن أعامله مثل سابق علاقتنا، ما العمل؟ تـرى ما الذى جعله يختلف عنهم إلى هذا الحد؟ هل جاء من كوكب آخر غير كوكبى؟ هل له شبيه إنسانى مثلى؟ هل هو دائم الفرجة من قديم مثلما أصبحت؟ وهل هو سعيد بذلك أم شقى؟ ولماذا هذا الشحوب الحزين؟ أنا متأكد أنه كان يتفرج على فيما مضى من أيام، فهل يستطيع الآن؟ قطع علىّ تساؤلاتى بقوله:
- خيرا يا عبد السلام أفندى، تفضل.
كدت أدخل إلا أنى سمعت آخرا “فى داخله” يقول من خلال عينيه بشماتة متوسطة (أخيرا جئت!!)، رفضتُ، وملكنى عناد شائك يحفزنى أن أقبل التحدى رافضا بحزم سرى أنه” لا، … لم أحضر”، يا غريب أفندى، أنا أتمتع بالفرجة وحدى ولن أسمح لك بالفرجة علىّ بعد الآن، سوف نلعب مع بعضنا البعض، “كيكا عا العالى” كلما صعدت درجتين لتنظر من فوق، صعدت أنا أعلى درجتين لأنظر لك من فوق الفوق، أنا الآن – مثلا – استطيع أن أعرف أنك وحيد تماما، وأنك خائف مثلى، وأنك تبحث عن شىء لا تعرفه، وأنت بدورك قد تعرف عنى مثل ذلك، ولكن بلا فائدة؟ أنا لم أحضر بعد، كما أنى لن أحضر أبدا”.
لكن الذى صدر منى كان كلاما آخر يقول بأدب ليس لزجا:
- آسف لإزعاجك، ولكن النور انقطع لدينا فأردت أن أعرف هل عندكم نور أم لا، حتى أبلغ المصلحة؟ .
- دقيقة واحدة.
ذهب إلى الداخل وكأنه يلتقط أنفاسه لإكمال المبارزة، غير أنه حضر بادى الامتنان وقال:
- نعم، .. ليس عندنا نور أيضا، ..شكرا، لقد نبهتـنى قبل دخول الظلام.
- لا شكر على واجب، الناس للناس، عندى التليفون وسوف أقوم باللازم.
***
هذا عجب، والمصحف الشريف هذا عجب، جاءت هذه المرة سليمة، بل ورائعة أيضا، ليس عنده نور!! مجرد صدفة، ولكن أنا؟ من أين لى أن أعرف أنه ليس عندنا نور أيضا؟ هل هذه آخر أخبار الزلزال؟
هل كشف عنى الحجاب؟
دخلت إلى حجرتى مباشرة بعد أن تخلصت برفق من ابنتى التى تعلقت برقبتى هاتفة لمجيئى، أخذت أقلب فى بقايا الكتب التى علاها التراب فوق الصيوان، تعجبت أنى فى يوم من الأيام اقتنيت مثل هذه الكتب، أخذت أنفض عنها التراب وأعجب لأسمائها وكأنها لم تمر على من قبل، أو كأنى ودعتها منذ عهد بعيد، رفعت الحشية عن الأريكة العربى التى تستعمل مخزنا فى نفس الوقت، فتحتها، وأخذت أخرج محتوياتها من كتب وأوراق، ما هذا كله؟ هل أنا أمتلك هذه الكتب فعلا؟ متى نقلتها من بيت أمى، أرادت أن تتخلص منها ردا على زواجى، أخذت أقلب فى العناوين: “الحيوان” “سقوط الدولة الرومانية” “الوجود” “الأبله” “من هنا نبدأ”، أين ذهبت هذه الأشياء جميعا من عقلى طوال عشرين سنة، ماذا حدث لى وأين كنت طوال هذه المدة؟ كيف نسيت تماما كل شئ؟ كيف غفوت حتى نمت عشرين سنة؟ لابد أن هناك مسحوقا تضعه الحكومة فى الماء مثل الكلور يقفل مسام عقول الشباب رويدا رويدا حتى لا يفكروا الا “فيما يفيد”، ينساب هذا الغازالسائل فى خلايانا لنكف عن التساؤلات السخيفة التى تقضى على فترة من شبابنا دون مبرر، ويبدو أن خلاياى قد استجابت لهذا المطهر بطريقة قصوى حتى لم أعد استطيع- حتي- قراءة الصحف، ثم جاء هذا الزلزال ليشكك فى مفعول هذا المطهر العظيم، آه لو علمت الحكومة بتأثير هذه الزلازل على مخططاتها، إذن لطهروا جوف الأرض جميعا من كل الطاقات والحمم.
ما الذى حدث لى حتى انتهيت إلى تلك الحال قبل الزلزال؟
جاءنى شعور خاص أن شخصا ما سرقـنى، وبدلا من ضياع الوقت فى البحث عن “حسن” (المخرج) ينبغى أن أبحث عن هذا السارق لأنتقم منه أو أشكره، أو حتى أسأله عن الطريقة التى تمت بها السرقة لإعجابى الشديد ببراعته: سرقة من أحدث طرق التحايل، عملية نصب عالمية تمت وراء ظهرى، المصيبة أنها لا تتم دفعة واحدة ولكنها عملية نزيف مستمر، شىء أشبه بالاختلاس المنتظم الذى لا يـكتشف أمره إلا حين تخرب عقولنا تماما.
وأحاول أن أتذكر شيئا معينا فلا أستطيع.
أرجعت كل شىء مكانه بعد أن احتفظت ببضعة كتب قد أحتاجها فى المبارزة مع غريب، وإن لم يكن لدىّ نية قراءتها، كما أخرجت كومة من الخطابات عثرت عليها وقد علاها التراب وهى مربوطة بخيط من “الدوبارة”، وما أن قلبت فيها حتى تذكرت أنها الخطابات المتبادلة بينى وبين زوجتى فترة الخطوبة، وضعت كل ذلك على المنضدة القديمة فى ركن الحجرة وجلست بجوارها ويدى على خدى، حتى فى زواجنا كانت تحيطنا آمال وأحلام بلا حدود، كنا نتحدث كثيرا ونتحمس كثيرا وتمتلئ خطاباتنا بأفعال نابضة مثل “نقرأ، .. نحاول، … نعمل، .. نغيـِّر، .. نتألم” هذه الأفعال الخمسة كان لها بريق ونبض يدل على أنها صالحة للاستعمال، نتبادلها على الورق أو حول قرطاس ترمس على الكورنيش، ثم حلت محلها الأسماء الخمسة ” الأولاد، .. الأسعار، ..الحسد، .. الستر، .. حسن الختام”.
ماذا حدث؟ وماذا يحدث؟
كيف تنقلب الأفعال إلى أسماء؟
المصيبة أن ما حدث لى هو نفس ما حدث لسعيد عبد الراضى (شاعر اتحاد الطلبة) وعبد المهيمن المنقبادى (قائد المظاهرات) وسعاد زهران (راكبة الدراجة محطمة التقاليد) وسميحة عبد الوارث (الحالمة بالجنة على الأرض) وسناء، وفتحى، وعبد الودود، وسميه رمضان (الشابة الحاجة ذات الإيشارب والحماس لإرجاع الكون إلى أصله)، كلهم استبدلوا الأسماء الخمسة بالأفعال الخمسة، ولم يبق منهم إلا “التهامى محمود” الذى يبدو أنه احتفظ ببعض الأفعال حية فمازلت أسمع بعض تعليقاته بالصدفة على برامج الموسيقى التى لا أفهمها.
”الله يخرب بيوتكم”.
قلتها بصوت مرتفع وأنا أنظر إلى الخطابات، ولكنى لم أكن أوجه إليها السباب، ولم أكن أوجهه إلى أحد على وجه الخصوص، استمررت غارقا فى دهشتى لما يحدث ولـما حدث، هل أذهب ثانية لسؤال الأستاذ غريب عن السر؟ ولكن يبدو أنه ليس فى الأمر سر لأنها القاعدة، كما يبدو أن السؤال ينبغى ألا يقتصر على حالتى، ما الذى أعادنى ثانية إلى تلك الفترة؟ من ذا الذى يحاول أن يوقظ فى الأفعال الخمسة؟ كيف أهرب ثانية إلي”الأسماء” الساكنة المستقرة؟ كنت أعيش، وهم جميعا مازالوا يعيشون، فلمصلحة من أرجع وحدى وأفيق من خدر الأسماء لأواجه أفعالا تتحدانى وأنا لا أفعل شيئا؟ وماذا سيكون مصيرى حين أعجز عن الاستمرار فى لعب هذا الدور المزدوج؟
دخلت زوجتى على وأنا مازلت أنظر إلى الخطابات ساهما، ويبدو أنها سمعت صوتى دون تمييز، .
- هل كنت تنادى؟ .. لقد تأخرت اليوم، هل أعد الغداء؟ .
انتبهتْ إلى الكتب على المنضدة، فعلت وجهها الدهشة، ولكنها حين التفتت إلى كومة الخطابات ابتسمت ابتسامة حنون وكأنها التقت بعزيز غائب، غير أنها لم تستطع أن تتمادى فى هذه المشاعر، وكأنها خافت هى الأخرى من أن يتحرك شىء فى داخلها، نظرت إليها فى بله، فقالت فى تساؤل:
- ما الذى ذكـَّرك؟
- كنت أبحث عن أوراق خاصة،
- كنا أطفالا، مشاكل الدنيا أكبر من الآمال والكلام.
قالتها وكأنها تحاول أن تقنع نفسها بما تقول أو أن تبرر شيئا مفروضا عليها فرضا، لم أصدق أنها ما زالت تستطيع أن تحس هذه المشاعر، وحين تصورت أن هذا محتمل ارتبكتُ، ..، حاولت أن أتجاهل الموقف برمته، هل هذا محتمل؟ ارتبكت غاية الارتباك وداخلنى رعب خفى، لقد استرحت فى وحدتى ومكانى بين المتفرجين، حتى غريب أفندى ذاته لن يستطيع أن يدخل إلىّ أو يشاركنى مقعدى، ثم تأتين أنت تلوحين بهذا الذى دفناه بغير شهادة وفاة؟ إلا هذا، .. إلا هذا ياولية انت!! حذار!
”أن أنشق من داخلي”، هذا محتمل.
”أن أنسى اسمي”، هذا أمر جائز.
” أن أمضى طوال النهار وجزءا من الليل أحدث نفسي”، هو فى حدود الطبيعى.
”أن أعالج عند طبيب أمراض نساء وأطفال”، إجراء على قدر فلوسى.
أما أن أحس بأن هناك من يشاركنى فى هذه اللعبة الخاصة أو يحاول أن يعيشها معى فهذا هو الخطر الأكبر، ما طمأننى من غريب أنه من كوكب آخر، أشعر الآن بالتهديد خشية أن أجد كوكبى مسكونا بمخلوقات غيرى، والمصيبة الكبرى أن تكون زوجتى من بين هذه المخلوقات، زوجتى الصورة التى أعدمت أصلها منذ زمن سحيق ولم أقرأ نعيها إلا بعد أن زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها.
زوجتى؟ نعم، تلك المرأة التى اغتالت خطيبتى (صاحبة الخطابات) تأتى الآن لتشاركنى فى تأبينها، أو لتمثل شخصيتها!! لا، لا أحتمل، سوف ألغى من عقلى ومن جسمى كل ما رأيت، كنت قد أصدرت عليها حكما بالإعدام حين ثبت أنها هى التى اغتالت الأخرى، وحين قرأت نعيها بعد الزلزال تأكدت من أن القصاص يأخذ مجراه ولو بعد حين، فلماذا تأتى الآن لتطل على فجأة من بين كومة خطابات؟ لابد أن فى الأمر خدعة،
- خدعة خدعة.
قلتها بصوت عال، وقد حسبت أنى أكلم نفسى، لكن يبدو أن زوجتى قد سمعت.
- نعم خدعة، ولكنها كانت خدعة لطيفة، كنا أطفالا وكان لابد أن ننخدع فى الألفاظ الحلوة والآمال الكبار.
الآن أستطيع أن أهدأ، رجعت الأمور إلى نصابها وتأكدت أنها حفلة تأبين، وليست طقوس إحياء الموتى، كل ما خطر ببالى أو لمحته سواء بين الخطابات أو بين ملامح وجهها هو من وحى أرواح الضحايا التى تحوم حول القتلة فى هيئة الذباب الأخضر، هذا الذباب ليس ضارا ولا يحمل إلا معنى الرمز والذكرى.
الآن أستطيع أن أرجع إلى مقعدى بين المتفرجين مرتديا طاقية الإخفاء أكمل المسرحية التى ليس لها نهاية، وأنا فى أمان أننى الكائن الوحيد فى كوكبى الكونى الخاص.
***
ملحق النشرة (1):
الفصل الثانى (مجتمعا): “إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”
يقول الراوى (عبد السلام المشد):
-1-
فى قرارة نفسى، شعرت بشىء من الراحة حين تصورت أن ما بى يمكن أن يكون حمى أو حتى مجرد مرض يمكن أن يعالجه طبيب، ولكن جزءا منى كان يعرف أنى مُسـّهـِمٌ فيما حدث بشكل ما، هو لم يأت هكذا مثل القضاء والقدر، أعلم الآن أنى كنت أسعى إليه، أنتظره، أو أتمناه، ربما، برغم أنى كنت أخاف منه، أتحاشاه، أهرب من مجرد احتماله، غيظى من الأستاذ غريب، ضجرى مما كنت فيه، تساؤلاتى حول عم محفوظ، لو قالوا لى ألف مرة ومرة، قبل أن يحدث ما حدث، إن الإنسان يمكن أن يسهم فى اختلال توازنه لهزأت بهم واعتبرتهم قساة القلوب جهلة، أما بعد تلك الكلمة ذلك الصباح، وبعد أن دار رأسى، وأفرغ، وامتلأ، وانقلب عاليه سافله، عرفت أن وراء الأمور أمورا، وحمدت الله أن أحدا لا يعلم هذه الهواجس وإلا اتهمونى بالتمارض والادعاء، لو كنت أعلم أنها كانت ستكون بمثل هذا العنف والرعب والسخرية والغرابة لما سعيت إليها أبدا، ولكنى لم أسع إليها، بل هى التى سعت إلىّ.. ولكن يبدو أن “هي”.. ليست إلا “أنا”.
هل من سبيل إلى التراجع؟
لعلى أجده عند طبيب الحى حين يكتشف المرض بإذن الله، ولكن ماذا سأقول له؟
شىء عجيب هذا الذى فىّ – كيف يأتى وكيف يذهب؟ لست أدرى، أحيانا أشعر بانقلاب السماء على الارض، تتملكنى الرعشة من رأسى إلى قدمىّ أحس كأن رأسى كتلة من السحاب أو من القطن المندوف، أو من الدخان القاتم المتكاثف، يقوم بينى وبين الناس ساتر غريب وكأنهم يتحركون على بعد لا أعرف مداه، وأحيانا أحس بصفاء كامل مع تغيير شامل فى نظرتى للحياة وكأنى كنت مسافرا لعدة قرون ثم رجعت فجأة، وأحتار بين غربتى ووحدتى وأصاب فى فترة صحوى بميل قاس إلى فكاهة عابر السبيل الذى لا يعنيه إلا أن يربط بين الأشياء ربطا خاصا جديدا وفريدا، تتشابك فى عقلى العلاقات والرموز بشكل أقرب إلى قفشات الحشاشين، أكتم هذه التعليقات فى داخلى خشية أن يضبطونى متلبسا فيصدرون أحكامهم على: إما بالجنون، أو بالتمارض، فى كلتا الحالين لن أسلم من أيديهم.
يا ويلى لو راحت عنى الرعشة قبل ذهابى إلى الطبيب، ولم يبق عندى إلا هذه السخرية الحشاشة، ما الذى سوف يقوله؟ متصنع أنا؟ ربك يستر.
دخلت عيادته وكلى أمل أن أجد حرارتى مرتفعة حتى بدون رعشة، أو أن يكتشف فى عقلى جنينا غير شرعى يمكن أن يخلصنى منه كما سبق أن فعل مع زوجتى حين خلصها من ضيف الصدفة الذى استقر فى أحشائها على غفلة منا بنية إفشال جهود تنظيم الأسرة وتهديد العالم بالمجاعة، مازلت أذكر أن هذا الطبيب الإنسان قام بعمل اللازم فى أمانة وثقة، واعتبرته أيامها بطلا وطنيا إذ أسهم فى تخفيف أعباء الوطن – وخصوصا وزارة التموين – بهذا العمل السياسى السرى: إجهاض زوجتى.
كان طبيب أمراض نساء وأطفال أساسا، وكنا نستشيره فى كل شىء من أول التخلص من ذلك الزائر المشاغب، حتى مضاعفات المعدة من كحك العيد، فجأة ضبطت نفسى متلبسا بهذه السخرية، ارتعشت، وانزعجت، وأخذت أبحث عن ذلك الشخص القديم الذى كان يخاف من زيارة الطبيب ويخرج من قبل السؤال عن الميعاد، ويشغل باله كل الوقت بكل تفاصيل طلبات زوجته غير المفهومة، فلم أجده، هدأت قليلا وتجسد أمامى عم محفوظ فوجدتنى أنظر إلى اللافتة المعلقة “أخصائى أمراض نساء وولادة وأطفال”، أشعر بسعادة غريبة لأنى متأكد- بشكل ما – أن مابى لا يتعدى هذه التخصصات الثلاثة، إذن: فأنا الشخص المناسب وهذا هو المكان المناسب، هذا الطبيب نفسه سبق أن خلص زوجتى من الجنين الذى كاد يفرض وجوده رغما عنا، هو إن لم يستطع أن يخلصنى من الطفل الغريب الذى دخل عقلى أيضا دون استئذان، والذى أكاد أشعر به أحيانا وهو يخرج لى لسانه بين الحين والحين، فقد يخمدنى حتى أنام بعض الوقت، أكاد أتذكر أنى تخايلت به (الطفل فى عقلي) أثناء ذهابى إلى النوم ليلة أمس وهو يكاد يقفز من مخى بالرغم منى ليجرى فى الحجرة حولى، أكذب نفسى وأحاول أن أتناسى هذا الأمر خشية أن يظن بى الظنون، حاولت أن أتجاهله فى كل مرة يظهر فيها كما حاولت أن أطمسه بالانشغال والتوهان وربما بالرعشة، لكنه كان يتقافز داخلى كلما طاردته جادا، ذات مرة أخرى ضبطته ينهنه نهنهة مكتومة فى صدرى بالرغم من أنى ساعتها كنت أكلم زوجتى، وحمدت الله على أنها لم تسمع.
دخلنا جميعا إلى الطبيب (الرجل الحامل، الذى هو أنا، والطفل الشقى، وزوجتي)، أكرمنا الممرض فقدم دورنا لصداقة قديمة، بعد أن تأكد من إشفاق الآخرين علىّ لما يصيبنى من رعشة بين الحين و الحين، ما زالت نظرة الممرض تتابعنى، تلك النظرة التى نظرها إلىّ بشك بعد أن أخذ حراراتى وهو يعلن نتيجة مقياس الحرارة، قائلا: “ستة وثمانية” (كدت أرد عليه: أربعتاشر)، خشيت وأنا داخل إلى الطبيب أن تتكرر تلك النظرة على مستوى أقسى، خاصة وأنى كدت أقفز على كتفه لما نادانى للدخول، تحكمت فى نفسى بسرعة وجهد، ولم أحاول أن “أنهرنى” أكثر حتى لا تزداد الرعشة، فأتعثر، وأقع، توكلت على الله، ودخلنا.
ما إن جلست أمامه حتى نسيت كل ما كان، حتى الأفكار الخاصة بالأعراض اختفت، تركت لزوجتى المجال لتحكى له قصة لا تعرف عنها شيئا، وبعد التحيات والسؤال عن بقية الأولاد، .. اتجه إلىّ مستفسرا.
- كيف الحال؟
شتان بين هذه وتلك، فليأت الأستاذ غريب ليتعلم كيف يسأل الناس الطيبون عن الحال، أجبته نفس الإجابة:
- الحمد لله
يبدو أنه لم يسمعنى، كان مجرد تلطف عابر يسمح له بعد ذلك أن يعرينى ويضع آلاته على جسدى وكأنه يبحث عن شىء يمكن العثور عليه، فى حين أنه مشغول – على أحسن الفروض – بعدد الكشوف المتبقية فى الصالة، أو بميعاد زوجته التى تنتظره أمام الكوافير، كنت قبل ذلك أخشى التمادى فى مثل هذا التصور وأتهم نفسى بسوء الظن، أما اليوم فأنا أكاد أقرأ أفكاره، أكاد أقسم أنه أصدر قراره بطردى لتفاهة حالتى بعد أن اطلع على الورقة المكتوب عليها نتيجة قياس الحرارة، على الرغم من أننى كنت على يقين من كل ذلك إلا أنه كان عندى أمل فى حدوث شىء آخر يفسر الأمور، شىء أقرب إلى السحر.
- مم تشكو؟
- لا شئ.
”زغرت” لى زوجتى “زغـرة” المذعور وكأنها تقول”: كسفتنا الله يخيبك”، نظرت إليها بارتباك، وأحسست أنى فى امتحان، وينبغى أن أقوم بتسميع ما حدث، وهى لا تدرى أن ما حدث، هذا مازال حادثا فعلا، ولكنه يأتى بمزاجه الخاص، يفعل بى الأفاعيل، وينتهى فجأة دون تدخل منى.
أنهـى الطبيب الموقف بأن قال:
- على كل حال، دعنى أطمئن عليك، هيا إلى الكشف.
حمدت الله أنه أنقذنى من تحقيق طويل لم أكن واثقا من نهايته السلمية، خلعت ملابسى من على نصفى الأعلى وفرحت حتى كدت أضحك لأنى تصورت أنى فى الحمام مثل زمان حين كانت خالتى أم صبحى تدخل معى ليلة العيد الصغير، تليـّفنى، كنت أسعد سعادة غامرة حين أتخلص أمامها من كل ملابسى وصوت وابور الغاز يتماوج تحت الطشت النحاس ذى الوسط المخنصر القائم فوق الوابور فى شموخ وأنفة، وبخار الماء والدخان ورائحة الغاز تختلط بغناء أم صبحى فى كتلة واحدة تملأ جو الحمام، وأنا سعيد بهذا العرى، وسعيد أكثر بأنى عريان أمامها بالذات، كنت ألمح أحيانا نظراتها تقول: “والله كبرت ومابقى إلا أن تتزوج” فأحس بفخر الرجال، حتى أكاد أقفز إلى رقبتها وأقبلها، وأنتظر حتى ينتهى الحمام فتلفنى فى “البشكير”، وتحملنى فوق ظهرها الطرى فألتصق بها فى فرحة التصاقا لا يبرره خوفى من الوقوع، ويدى تحيط بعنقها من خلف حتى أكاد أضمها حتى تضعنى بجوار أمى مازحة “اسم الله عليه، بسلامته عايز يتجوز”. يشرق وجه أمى بالفرحة النسائية الخاصة التى تـُرَى على وجوه نسوة ذلك الزمان حين تصل قفشاتهم إلى تلك المنطقة الخاصة التى “تدغدغ” وجدانهم وتهيئهم لأعمال الليل الممتعه فى تسليم وانتصار معا.
انتهيت على صوت الطبيب وهو يحدث زوجتى عن اختفاء الصابون، وكأنهم قد ضبطونى متلبسا بخيالات الحمام ودفء ظهر أم صبحى، والإشراقة الجنسية على وجه أمى، تقدم الطبيب ووضع السماعة على أجزاء مختلفة من صدرى، تلك الآلة السحرية التى ينحنى أمامها وتحتها أعظم عظيم فى تسليم واحترام، لم أكن مهتما إلا بقراءة أفكار الطبيب وهو يضع السماعة على صدرى، رأيته فى خيالى مشغولا بحساب الميكانيكى، وهو يشك فى أنه قد غير قطعة الغيار كما وعده، ويتساءل: هل ستسير العربة بعد هذه السرقة دون عطل، أو أنه مـَوّال ما لن ينتهى؟.
- خـذ نفسا.
ترى: هل يقولها لى أم للميكانيكى؟ كدت أضحك بالرغم منى وأنا أكاد أمد يدى إلى مطاط السماعة كأنها نرجيلة فى قهوة الفيشاوى آخذ منها نفسا، نظرت إلى وجهه لاتأكد أنه لا يقرأ أفكارى كما أقرأ أنا أفكاره، اطمأننت إلى أنه لا تصل إليه إلا طاعتى العمياء، أفكارى وذكرياتى ونزعاتى هذه تتم فى أقل من ثانية، أحاول أن أقارن بين هذا الطبيب، وبين الميكانيكى الذى تصورت فى خيالى أن الطبيب يتهمه بالسرقة، الميكانيكى يتعامل مع مئات الماركات دون أن يسمع شكواها، أما هذا الطبيب فهو لا يتعامل إلا مع الآلة البشرية، وهى ذات تركيب واحد، أعظم ما فى حالتى أنها حالة سرية، فعلى الرغم من اعتقادى بأننى أقرأ أفكار الناس، أصبحت متأكدامن أن أحدا لا يستطيع اختراق أفكارى، إذ من ذا الذى يستطيع أن يتابع هذا السيل من الشطحات والهرج العظيم، خطر ببالى أن أذهب إلى ذلك الميكانيكى أستشيره فى حالتى إذا ما فشل هذا الطبيب فى إجهاضى، أو علاج طفلى، أو اكتشاف حمى الفلسفة التى أصابتنى.
أخذت نفسا، ونفسا، وسعلت، وتقلبت على الجنبين، وحين انتهى دور السماعة وبدأ ينقر على ظهرى كدت أسمع ذلك الطفل بين ضلوعى يقول:
- مين؟
ولم يرد عليه أحد.
- “مين اللى بيخبـّط”.
ولم يرد عليه أحد.
انتبهت إلى ما يدور حولى بوعى عادى، وبسرعة اختفى كل شىء فى الداخل، عاد الغمام يظلل فكرى وانتبهت إلى موقعى من الحجرة، وإلى وجود الطبيب بجوارى، وأحسست أننى لا أذكر متى جئت وكيف، وكدت أعتذر له عن بعض أفكارى، نظرت إلى وجهه أستفسر إن كان قد وصل إليه أى شئ، لم أجد إلا هذا الجمود الطبى الباسم فى حرفية حتى يحمى نفسه من شطحات أمثالى.
الصداع يكاد يقتلنى، اختفت كل أعماقى ولم تبق إلا قشرة جافة داخلها خواء يتردد فيه الصدى، بدأت أرتجف بعنف وبدت على زوجتى مسحة من فرح حتى يرى الطبيب الحالة بنفسه ولا تضيع أجرة الكشف هباء، لاحظت بدورى بعض الاهتمام على وجه الطبيب، ولكنه اهتمام العارف ببواطن الأمور مسبقا.
قال فى هدوء:
– إنك ترتجف من البرد، لستَ متعودا على التخلى عن ملابسك فى حجرة واسعة مثل هذه.
لم أرد، ولكن زوجتى اعترضت قائلة.
- هذه هى الحالة يا دكتور، وهى تأتيه بنفس الشدة وهو متدثر بكل ملابسه، حتى وهو تحت اللحاف.
- لا تخافى، فهى نوع من الحساسية للجو.
كنت أتابع الحديث عنى فى استسلام وتحد معا، استسلام من لا يملك من أمره شيئا، وتحد لثقتى فى أن أيا منهم لن يصل إلى داخلى ولو بأشعة الليزر، لكن الرعشة اشتدت بى، وملأ الغيام عقلى حتى أخذت أصر على أسنانى بعنف لأوقف هذه الدوامة من الفراغ التى تلف فى رأسى، ولم يلاحظ الطبيب شيئا.
فى الوقت الذى كنت مطمئنا إلى أن أحدا لا يرانى، كان جزء منى يتمنى أن يرونى بأية درجة فيها ظل مما يجرى، تمنيت أن يسألنى أكثر، وألا يدعنى أزوغ منه، أن يتبين كيف أن نارا تغلى فى داخلى حتى لو كانت حرارتى صفرا، كنت أعرف أنه رجل طيب وماهر فى صنعته، وكم انبهرت بذكائه قبل ذلك، ولكنه فى هذه المرة لم يكد يلـمحنى أصلا.
تناول قلمه وأخذ يكتب بعض الأشياء التى لابد أن أتناولها قبل الأكل أو بعده، كما أخذت زوجتى تستفسر منه عن بعض التفاصيل، ورد عليها بأن كل شىء مبيــن بالتذكرة.
سألته سؤالا أخيرا:
- والنوم؟
قال:
- كل شىء سيعود كما كان بعد استعمال هذه المقويات، ضعف عام وإرهاق، ليس إلا.
***
خرجنا من العيادة وأنا أكاد أحس بنظرات زوجتى تلكزنى فى جنبى، وكأنها تلومنى على هذه المصاريف الضائعة، وعلى ضعف احتمالى، وربما ضعف شخصيتى بالمرة.
كدت أنكمش خجلا من نفسى، وحاولت أن أصوِّر الأمر على أنه كابوس وسينقضى إن عاجلا أو آجلا، بدأ الصداع الحاد يحل محله ثقل غريب يكاد يقفل عينى، سرت بجوار زوجتى وكأنى منوم أحاول أن أختبئ فى ملابسى عن أعين الناس حتى لا يعرفوا أنى متمارض، أو بى مس من تحت الأرض.
***
أمضى الليل مع الوحوش والثعابين والصقور والحيتان، أصارع الفهد على حافة البحيرة، والزواحف تلتف حولى من كل ناحية، والصقور تأكل جثتى فى منظر آخر، أقوم من النوم فزعا ولكن فى صمت، أنظر إلى وجه زوجتى وأحمد الله أنها نائمة، وأنها لم تكن معى فى تلك الغابة التى زُرِعت فى رأسى فجأة، وامتلأت بكل أنواع الحيوانات والهوام والطيور الجارحة، أحاول أن أنام فلا أستطيع، أذهب إلى زجاجة الدواء وأشرب من فوهتها مباشرة، بلا فائدة، أشعل سيجارة وأحاول أن ألتهم دخانها بتلاحق حتى أصاب بذلك الخدر الذى قد يساعدنى على النوم، أنجح أخيرا فى أن أغفو بعض الوقت، أصوات القطارات تتلاحق فى غير انتظام، تخرج عن قضبانها، تطير فى السماء، تصطدم بطائرة جانبو خطفها أحد الفلسطينيين، يطلّ الأطفال بالأجنحة من نوافذ القطار والطائرة تواصل طيرانها على أرض الجنة، الموسيقى الخاصة تملأ أرجاءها حتى تكاد الأشجار تتمايل معها، الأنهار تجرى من تحتها، ينزع الأطفال أجنحتهم يقفزون إلى أنهار الجنة، آخذ جناحين وأحاول تركيبهما فى ظهرى، أحس أن هذا ممكن، أصفق بهما من خلف مثل الإوز حين يجرى فجأة صائحا فى جماعات دون هدف، يتناثر رذاذ الماء حول جسدى، أزيد من حركة الجناحين، أطير، يملؤنى الخوف، أتحسس جناحَىّ فلا أجدهما، أبدأ فى السقوط، الرعب من التهشيم يملؤنى، تبتعد الأرض عنى، أتمنى السقوط حتى الموت بدلا من هذا الرعب بلا نهاية، أصرخ أصرخ أصرخ، تهزنى زوجتى، أصحو، أنظر فى عينيها.
- مالـَـك؟
أخاف منها بقدر خوفى من السقوط إلى الأرض، أخجل أن أحكى لها الحلم، إن كان حلما تقول:
- إخز الشيطان وقل بسم الله الرحمن الرحيم.
- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم.
تضع يدها فى رقة على جبهتى، أحس بالراحة لها لأول مرة منذ فترة الخطوبة، أتمنى أن تفهمنى أكثر، ولو قليلا، أرعب من هذه الفكرة، لا، لا، ينبغى أن تفهمنى أو أن ترانى من داخل، أنظر فى الساعة: السادسة والربع: الحمد لله جاء النهار وسأذهب إلى عملى، لكن كيف سأعمل؟ رأسى يصبح فارغا حين أفكر فى أشيائى اليومية، ويمتلئ حين أسبح فى دنياى الجديدة المليئة بكل ما لا أعرف، كيف سأذهب إلى عملى اليوم؟ كيف سأراجع الملفات وأرص الفواتير؟ كيف سأقابلهم هذا الصباح وهو ليس مثل كل صباح؟ فيما مضى كان الذى يخفف من هول الصباح أنه مثل كل صباح، أما أن يكون جديدا مختلفا فهذا أمر آخر، هذا صباح يلوِّح بالموت مثلما يلوِّح بالحياة، من الذى سيرجح الكفة؟ هذه حالة لا تطاق، ماذا جرى لى يارب؟ ما هذا الذى حدث؟ لماذا يتضخم هذا الشىء كلما حاولت أن أستهين به؟ شىء ما قد حدث يا ناس، شىء خطير يهز الدنيا ويفجر البراكين: – القارعة – الزلزال – الحاقة – الواقعة، أى شىء له هذا الوقع الضخم المرعب، بدا بسيطا لا معنى له، ثم ها هو يتضخم كل يوم، انقلبت الأمور أو انعدلت؟ لست أدرى، زادت تعقيدا أم أصبحت أبسط من أن تعقد، أتذكر الأستاذ غريب وعم محفوظ السباك فأهدأ قليلا، الشئ!! هذا الشئ!!! الذى حدث!!! الذى أنا فيه: هو أضخم من كل شئ، دون معالم، ماذ يفيدنى هذا الهدوء الظاهرى؟ ماذا أقول لهم فى العمل؟ أقول لهم إن حرارتى ستة وثمانية؟ أقول لهم إنى ذهبت إلى طبيب أمراض نساء لأنى حامل فى طفل لا يريد أن يتركنى فى حالى؟ أقول لهم إنى نسيت اسمى وإنى أتعرف على الألوان لأول مرة فى حياتى.
ليس لى خيار، عملى هو مصدر رزقى الوحيد، هو فى نفس الوقت المهرب الشرعى من البيت، أذهب إليه حتى لايموت أطفالى جوعا أو أموت أنا اختناقا، “كل شىء تغير، كل شىء تغير”، حقيقة لم يعد فيها جدال حتى لم تعد ترعبنى، لم أعد حريصا على مقاومتها أو رفضها، وعجبت أنى استسلمت هكذا فى خلال هذه المدة القصيرة، ينبغى علىّ أن أبدأ من جديد، أن أتعرف على الأشياء والناس من الأول، ولكن هناك مشاكل عاجلة لا تنتظر، كيف سأقوم بعملى وأنا لا أكاد أتذكر جدول الضرب؟ كيف أكتب المذكرات وأنا أجاهد لأجمع حروف الهجاء لأكون كلمة؟ ومع ذلك فأنا لا أملك إلا المحاولة والمواجهة والاستمرار، ياعبء كل شىء عادى، يا عبء كل شىء غير عادى، الهواء له قوام ملموس باليد !! كيف سيدخل إلى صدرى..يا ناس!!؟
فى نفس الركن من الحجرة جلست أمام مكتبى أحاول أن أختبئ منهم حتى لا يظهر علىّ ما بى، أخرجت الملفات ووضعتها بجوارى وأعدت رصها، كنت قد حاولت أن أقرأ تعابير وجوههم وأنا ألقى عليهم تحية الصباح لأختبر فيها أى انطباع غير عادى، حمدت الله أنى لم ألاحظ شيئا، الغريب أنى تعرفت عليهم هذا الصباح”ككتلة من البشر” مجتمعين بلا تمييز، أنا أعرف اسم كل واحد منهم على حدة، لكننى لا أستطيع أن أذكره وحده، كلما ذكرت اسما لاحقه أو صحبه اسمان، ثلاثة، عشرة، الجميع، وكأن عقلى قد أصبح جهازا من نوع آخر، جهازا يرفض أن يميز بين الناس وبعضهم البعض، يحقق بطريقته الخاصة – وفى وقت واحد – جوهر الدين وهدف الشيوعية، أما عواطفى فإنى أحس أن شيئا ما قد استيقظ منها حتى اختلت كل القيم التى ارتبطت بها، ثم امتد الخلل إلى تضارب أو تناقض ليس له تفسير، فى الوقت الذى تيقنت فيه أنى لم أعد أحب أو أكره أو أحزن أو أفرح مثل زمان، أدركت أنى لم أحب أو أكره أو أفرح زمان أبدا، ماذا حدث؟ ربما اختلف نوع الحب والكره أو هدفهما أو معناهما، أنا الآن أستطيع أن أحب مثلا ولكنى لا أجد من أحبه، وفى أحوال أخرى أخاف أن أحب بهذه الدوافع الجديدة لأنى أحس أنها من نوع آخر، ربما أكثر صراحة وربما أكثر وقاحة، أما كيف ولماذا؟ فهذا ما يكاد يطرحنى أرضا بعد أن يـنهكنى التفكير فى مالا علم لى به.
أستسلم فى النهاية إلى الفراغ بلا قاع.
أحاول ثانية: فأتذكر مشاعرى نحو زميلى أسعد، أو سيادة المدير أو الأستاذ نصحى، فأجدنى متبلدا لا تهز أسماؤهم شعرة فى داخلى.
حين أنظر إلى آمال بجوارى، أجدنى أستطيع أن أعترف بحبها، أعترف لمن؟ هو حب من نوع آخر، كأنى كنت أحبها منذ بدء الخليقة، أو كأنى أحبها هى الآن ولا أحب ما كنت أعرفه عنها، شىء ما تفجر فى داخلى فى هذا الاتجاه أيضا يدفعنى إلى الاقتراب منها دون حساب ولا استئذان، ولا يمنعنى من الاعتراف بحقى فى الرغبة من الاقتراب منها حتى الالتصاق، ليس جنسا على وجه التحديد، لكن له طعم الجنس.
لا أكاد أصدق أن أحدا يمكن أن يتصور هذا التناقض، إما أننى أعيش اللامبالاة بكل برودها وجمودها، وإما أننى أتفجر بالحب والصدق الوقح الذى لا يستبعد الجنس مع امرأة فاضلة ومتزوجة وحامل وفى شهورها الأخيرة، فهمت الآن معنى تعبير “العجب العجاب” !!!!
كل الناس تعرف أشياء أخرى غير الحقيقة التى أعيشها هذه الأيام، كنت مثلهم، وكنت أحس أن حبهم هوالحب، وأن أدبهم هو الأدب، الآن أعيد النظر وأنا فى رعب الوحدة ودهشة الغريب، تأكدت أن شعورى نحو آمال ليس شاذا ولا بشعا، إنه مجرد تفجير شىء موجود منذ عهد سحيق، قبل ذلك كنت أتجنبها وأعاملها بشىء من الجفاء، لم أكن أميز ذلك الشىء المختبئ بين أحشائى نحوها، وإن كنت دائما أخشى نظراتها الثاقبة التى تتخطى حدودك الظاهرة لتستقر بين ضلوعك مباشرة، قبل ذلك كنت أحتمى من هذا الفيض المقتحم بمزيج من الحياء والتبلد والجفاء، يبدو أن هذه النظرات والذبذبات تتراكم على مر السنين، فإذا اختفت المشاعر القديمة انطلقت من عقالها بلا توجيه.
نظرت إليها من وراء الصحيفة، فوجدتنى مثلما كنت زمان، زمان قبل هذا الزمان، كنت قد أيقنت أنى نسيت هذه المشاعر تماما، أو أنها كانت من خداع الطفولة والمراهقة، مشاعر تغمر خلايا جسمى قبل قلبى و عقلى وتدغدغ أعمق أحاسيسى، قد تظهر على سطحها شهوة ما، ولكنها ليست بالضرورة شهوة.
حين فتح الباب المجاور فجأة اختفت كل هذه المشاعر فى جوفى مثلما يغلق التلميذ الصغير دُرجه فجأة على قصة غرامية أثناء دخول والده عليه، لم يبق على وجهى إلا بقايا تقلصات جمدت مكانها من سنين، وإن كانت الآن قد أصبحت عبئا لا أحتمله، ما أسخف أن تشعر بعضلات وجهك أو أن ترصد حركاتها وكأنها تتحرك “بالسرعة البطيئة”.
ما هذا كله؟
أريد أن اختبئ أنا نفسى، تحت المكتب. لم يكف أن أخفى مشاعرى فى الدرج مثل القصة الغرامية، أخشى أن يرانى هؤلاء الناس من حيث لا أدرى، أن يروا مالا أراه أنا مثلا: لست واثقا من حدودى ولا من مداخل ذاتى، مـُلـْقى صريعا بين الامتلاء الغامر والفراغ الدائر إلى أسفل، وبين ما يدور فى رأسى بسرعة خمسة آلاف كيلوسيكل فى الثانية، هذا الفراغ الهلامى الهائل، لا أتبين خيط وجودى.
هل أنا أحب آمال السيدة الفاضلة الزميلة الحامل؟ هل هذا هو الحب؟ هل هناك مخلوق يعرف معنى الحب؟ هل يمكن أن أحب وأنا أعرف أن مشاعرى كلها قد اختفت؟ فإذا لم يكن هذا حبا فماذا أسميه؟ هل لابد من لغة جديدة تنجح فى وصف هذه المشاعر الجديدة؟ ثم: هل هذه المشاعر خاصة بآمال فقط؟ هل أنا أشعر بالتعاطف معها لأنى حامل مثلها؟ أنا أشعر بهذا الطفل غير الشرعى يجوس خلال دروب عقلى فى السر، أما طفلها فوجوده معلن مستقر، أحس بمشاعر مشابهة تجاه أخريات لسن حوامل، وتجاه آخرين أيضا، “أمانى” مثلا، ابنة جارتنا، لمحتها هذا الصباح فى الشرفة فكدت أقفز إليها، ألقى لها بتحية الصباح بشعور مغاير لشعور الأبوة والجيرة، قبل ذلك كنت لا أعير وجودها فى الشرفة اهتماما إلا بقدر اهتمامى ببائع الصحف يجرى فى الشارع، أو قدر الفول على الناصية، حتى مشاعرى تجاه الممثلات تغيرت، سعاد حسنى التى كنت أستثقل دمها حين أراها وكأنها تتحدانى بحيويتها بدأت التعرف عليها من جديد، بدأت أحس نحوها بهذه المشاعر الحية المقتحمة، فى الأتوبيس غمرتنى نفس المشاعر نحو تلك التى كانت تجلس بجوارى ونحو العجوز التى كانت تمسك بحفيدتها، ونحو حفيدتها، ونحو سائق الأتوبيس، مع كل هذا الفيض الذى لا أعرف اسمه فأنا فى قمة اللامبالاة إذ أننى على يقين من أنى لا أحب ولا أكره مثل زمان.
أنتزع نفسى من بين سطور الصحيفة التى كنت أختبئ وراءها لأفكر فى حرية، أحاول أن أنظر فى وجوه زملائى فلا أجد عليها إلا آثار فول الصباح، أعظم مضاد للتفكير الخلاّق، مالى أنا وما “للتفكير الخلاق”؟ لا أتذكر متى سمعت هذه الكلمة من قبل ولكنى ألاحظ هذه الأيام أن كلمات تقفز إلى ذهنى لم أكن أتصور أنها مرت علىّ فى يوم من الأيام، ربما دخلت إلى عقلى من وراء ظهرى، ثم ها هى ذى تقفز إلى سطحه وكأنها تتحدانى، بل إنى ألاحظ هذا الصباح أن قراءتى للصحيفة اليومية قد اختلفت، فى اللحظات التى استطعت أن أتعرف فيها على الحروف مرة ثانية وأنجح فى تكوين الألفاظ، لم أتمكن من قراءة الأخبار العادية التى كانت تجذبنى قبلا (البخت والإعلانات والوفيات وأخبار الإصلاح الوظيفي) ينجذب نظرى إلى المواضيع التى كنت أضعها تحت بند الكلام الفارغ والضحك على الدقون: “انتحار الفكر الجديد”، “المد الثورى فى العالم الثالث”، “مخاطر المجاعة وانقراض الإنسان”، كانت هذه العناوين تصيبنى بالإعياء، أما الآن..؟!!
ماذا حدث لى دون إذن منى؟
هل أنا أخدع نفسى بالترقى مباشرة إلى “كادر المثقفين” بعد أن تخطانى الإصلاح الوظيفى؟ ما سر صداقتى السرية مع الأستاذ غريب، وفى نفس الوقت مع عم محفوظ السباك؟ ما وجه الشبه بينهما؟ الأستاذ غريب بكل علمه، وفكره، وصمته، وكتبه، وغموضه، وعم محفوظ بكل أمانته، وأمنه، وبساطته، وزهده، وخجله، وأسراره، ثم أنا: عبد السلام المشد، .. حتى اسمى له وقع غريب على، عندما أنجح فى استرجاعه أسارع فأقسمه إلى أجزاء، عقلى هذه الأيام متناه فى صفاته: إما أن يستقبل كل شىء مع كل شئ، وإما أن يفصل أى شىء عن أى شئ، حتى يكاد يقسم الحرف الواحد إلى قسمين، اسمى يرعبنى حين ينفصل إلى أجزاء عبد ..السـ..لام، ..المشــد: “أنا”، ربما كان هذا هو السبب الذى حال دون تذكرى اسمى أمام تلك المرأة الكالحة ذلك الصباح.
من هو هذا الذى هو “أنا” تحديدا؟
أكاد أقوم من على مكتبى أسألهم من أنا، حتى أتأكد أنى إن لم أكن عبد السلام المشد، فلابد أن أبحث عمن أستطيع أن أقضى به أبسط حاجاتى وألزمها من أول صرف شيك البنك بالمتأخرات حتى شراء تموين السكر والزيت قبل نهاية الشهر.
- الملفات يا أستاذ، .. صباح الخير.
أصاب بالفزع، دخل صوت عم جمعه البسيونى إلى جسمى مباشرة غير مار بأذنى كأنه ناقوس يأتى من عالم آخر يعرض على اختيارا فرعيا “إما أن تعود أو نقتلك”، نظرت إلى بسمته الآمرة وعينيه الواثقتين، وفهمت لماذا يصورون الجلاد معصوب العينين، قلت له على الفور.
- حاضر عينىّ الاثنين، صباح النور
مازلت قادرا على العودة بسرعة لا يلحظها أحد، وبرغم الصداع والتوهان والانفجارات المتلاحقة، يعقبها الصمت الميت، فإننى مازلت قادرا على الاختباء وراء المدعو ” عبد السلام المشد”…
***
لبست قناع اللامبالاة وأخليت رأسى وصدرى وخلاياى من أى إحساس معوق وحاولت الاختباء، بدأت أقلب فى الملفات، واكتشفت أنى أستطيع، لبست نفسى وتركت القلم يتحرك على الأوراق، يجمع هنا ويطرح هناك، ويؤشر على هذه الصفحة ويشطب تلك، وبعد فترة وجدتنى قد انتهيت من هذه الأوراق، وأخذت أقلب فيها وأتعجب كيف قمت بهذا العمل دون أن أعرف حرفا أو رقما، أحسست أن مخى مازال قادرا كما كان، على شرط ألا أضبطه متلبسا بالعمل، إذ ينبغى أن أظل بعيدا عنه ولا أحاول التعرف عليه، ولا إدراك قدراته، حمدت الله أنى أستطيع أن أنسحب بين الحين والحين تاركا ورائى ذلك الجزء الفعال يهيئ فرص كسب العيش، والرد على التحيات الصباحية، وارتداء الملابس وخلعها، وعمل “زى الناس” من أكل وشرب وخلافه، …
إلى متى يدوم هذا الحل,….؟ وماذا لو فشل؟
***
اختفت الرعشة بعد بضعة أيام، وكدت أنظم عملية فض الاشتباك بين أجزائى حتى صرت قادرا على أن أواصل سعيى فى الحياة دون أن يلحظنى أحد، وفيما عدا تلك الأوقات التى تضبطنى فيها زوجتى متلبسا بالتفكير، وفيما عدا الصداع الذى ينتابنى عندما أقابل الأستاذ غريب على السلم، وفيما عدا صعوبة ما قبل النوم مع زوجتى، فيما عدا هذه المشاكل الداخلية !!! كنت أتحايل حتى لا يبدو علىّ شىء ظاهر، وحتى أنجح فى الاستمرار فى الحياة العادية، وكأنى أسرق الأيام والساعات من أصحابها، أو كأن كائنا من كوكب آخر نزل يتخفى فى ثوب إنسان ليجمع المعلومات عن هذه المخلوقات العجيبة التى تسعى فى غرور متناه لإثبات أن هذا العالم البشرى كيان حى له هدف ما.
أصابنى شىء من “الفلسفة التلقائية” التى أضفت على تفكيرى نوعا من الحكمة دون أسباب، ودون جهد، حتى أصبحت أشاهد الناس فى الأتوبيس والشارع والمكتب والبيت يؤدون أدوارهم بإتقان سطحى، وتكرار ضرورى، لزوم غياب المخرج الذى ذهب يبحث عن المؤلف الذى مات فجأة قبل أن يضع نهاية للمسرحية الكبرى، فترك المخرج فى هذا الحرج العظيم، وبدلا من أن يسدل المخرج الستار فى استسلام العاجز الذكى، ركبه العناد وأمر كل واحد أن يستمر فى دوره كما هو حتى يعود المؤلف، وهولم يعد بعد ذلك، ويبدو أنه لن يعود أبدا، الممثلون كل منهم يؤدى دوره، أو يأتى بشبيهه الذى أعده فى ليالى الشتاء أو نشوة إجازة صيف، وقام بتمرينه خلف الكواليس ليكمل نفس الدور بنفس الحركات، الضجة فى الكواليس تعلن مدى الازدحام: فالاطفال الزينة، والطلبة، وصبية الورش، وعيال الفلاحين، يتدربون على الأدوار البديلة ويستعدون للظهور على المسرح فى الوقت المناسب، كل ذلك فى انتظار المخرج الذى ذهب يبحث عن مؤلف مات فى السر قبل أن يتم الرواية.
ما هذه الحكمة التى حطت على دماغ أهلك بدون مناسبة، .. ياسى عبد السلام يا سبع الليل؟ ما أروع اللعبة الجديدة! هى مشاعرى الخاصة والله العظيم دون تأليف ولا خيال، أنا جدع، فـَهـِّيم (هل فـَهـِّيم كلمة عربية؟).
كنت أتعجب وأنا القادم من الكوكب الآخر من هذا الإخلاص الغريب والوفاء الذى يتصف به هذا الكائن البشرى، ولكن بعد أن طالت فرجتى بضعة أسابيع علمت أن المسألة ليست مجرد إخلاص، بل إن أى واحد يتوقف عن أداء دوره أو يحاول أن يسأل المخرج أو ينقد المؤلف لابد أن يُرسل فورا بأمر شيخ الممثلين ليبحث بنفسه عنه، ولا أحد يعرف مصيره لأنه لا يعود أبدا كما كان، حتى لو تاب واستغفر فإنه يعود بشكل آخر يؤدى دورا آخر، دورا ثانويا بمهارة ميتة، وحماسة فاترة، وخوف أكبر، ونظام أدق، وكل همه ألا يرسلوه ثانية إلى الخارج، .. ليبحث عن شىء لا يعرفه.
خطر ببالى بلا مناسبة أن المخرج اسمه: “حسن”، “أين حسن”؟ سخيفة.
أما أنا، فقد تعلمت بعدما جرى الذى جرى أن أرسل شبيهى الانسان يؤدى دورى على المسرح بعض الوقت مما أتاح لى أن أجلس أغلب الوقت فى مقاعد المتفرجين لابسا طاقية الإخفاء، كم كنت أتعجب منه وأعجب به وأنا أتساءل: لماذا لا أصبح إنسانا مثلهم ما دام شبيهى الانسان شاطرا هذه الشطارة؟.
ماذا لو اكتشفونى؟ لا بد أن يظنوا أنى أتيت للتجسس عليهم لصالح مواطنى من الكواكب الأخرى، أتذكر نظرات عم جمعه البسيونى وهى تهددنى: “إما أن تعود أو نقتلك، إما أن تعود أو نقتلك”، أخاف، أتبين أنه لا يستطيع أن يميز بينى وبينه، أحسن، هكذا سمحت لى أن أتظاهر بالعودة حين اهتديت إلى هذا الحل السرى المتجسـس.
أنجح فى معظم الأوقات أن أستمر راسما على وجهى الآخر بسمة الناقد الذى يتظاهر بالفهم، وأفشل أحيانا فى خداع نفسى حتى تساورنى رغبة غبية فى الذهاب للبحث عن المخرج، ورغبة أغبى فى البحث عن المؤلف، ربما تكون إشاعة موته خدعة ليس إلا، وأحيانا أخرى يبلغ غبائى أن أحاول أن أضع نهاية لهذه المسرحية، أو أن أقوم أنا شخصيا بدور المخرج الهارب الجبان الذى تركنا دون ضابط ولا نص، أو أن أكمل المسرحية وأضع النهاية بنفسى.
***
طرقت باب الأستاذ غريب دون سابق موعد، كنت قد تأخرت بعض الوقت عن ميعاد عودتى إلى البيت دون سبب، فقد تعودت فى الأيام الأخيرة أن أترك قدمى تنفصلان عن جسمى وتتصرفان بوعى خاص، أما أنا فقد كنت أنتهز الفرصة وأواصل الفرجة على هذا العرض المستمر بلا ملل، أتذكر أيام الطفولة حين كنا نختبئ، فى دورة مياه دار السينما بعد انتهاء حفلة الماتينيه، وذلك حتى نحضر حفل السواريه بدون مقابل: نفس الفيلم، نفس الأحداث، لا مفاجأة ولكن مجرد الفرجه مرتين أو ثلاثا كانت ضربا من شطارة الفلاحين التى اصطحبتها معى من القرية إلى المدينة، فى بعض دور العرض الأخرى كان مسموحا “بالعرض المستمر” دون حاجة إلى الاختباء فى دورات المياه.
حين كانت قدماى تسوقانى إلى حوارى سوق السلاح، والسيدة زينب، والمغربلين كنت ألاحظ أن التمثيل هناك من النوع “الواقعى” جدا: الأدوار مسبوكة والحركة طبيعية حتى تكاد تظن أنها ليست تمثيلا أصلا بالمقارنة بما يجرى داخل الشقق المخُكمة ووراء المكاتب الحكومية التى تتطلب بعض الفكاهات البذيئة، وأحاديث السياسة الدائرية حتى تكسر الملل من المسرحية المعادة بلا نهاية.
فى تلك الساعة المتأخرة من النهار طرقت باب الأستاذ غريب بدلا من بابنا، وأحسست بقرون استشعارى تسعى إليه تحاول البحث فى موقفه: تـرى هل هو ممثل فى مسرحية لا أعرفها أو أنه متفرج مثلى؟ أشعر أنى بإقدامى على هذه الخطوة أدخل دنيا جديدة على تماما، دنيا تختلف عن تلك التى كنت أعيشها فى حالة التنويم السابقة وعن تلك التى أحاول أن أعيشها هذه الأيام، ولو أنى أدركت أنى لا أعيش هذه الأيام ولكنى فقط، أحاول تأجيل مصيرى الذى لا أعرفه بالفرجة، والمكر، وادعاء الحكمة، واختراع نظريات جديدة،
فتح لى الأستاذ غريب الباب بعد فترة، كانت تبدو عليه آثار النعاس، يبدو أنى لم أنظر فى ساعتى لأتبين أننا قرب العصر، وقت القيلولة، نظر إلى فى دهشة برغم أن جزءا منه بدا عليه وكأنه ينتظرنى منذ عهد بعيد، مرت فترة صمت كادت تفسد على توازنى، هذا الرجل لا أستطيع أن أعامله مثل سابق علاقتنا، ما العمل؟ تـرى ما الذى جعله يختلف عنهم إلى هذا الحد؟ هل جاء من كوكب آخر غير كوكبى؟ هل له شبيه إنسانى مثلى؟ هل هو دائم الفرجة من قديم مثلما أصبحت؟ وهل هو سعيد بذلك أم شقى؟ ولماذا هذا الشحوب الحزين؟ أنا متأكد أنه كان يتفرج على فيما مضى من أيام، فهل يستطيع الآن؟ قطع علىّ تساؤلاتى بقوله:
- خيرا يا عبد السلام أفندى، تفضل.
كدت أدخل إلا أنى سمعت آخرا “فى داخله” يقول من خلال عينيه بشماتة متوسطة (أخيرا جئت!!)، رفضتُ، وملكنى عناد شائك يحفزنى أن أقبل التحدى رافضا بحزم سرى أنه” لا، … لم أحضر”، يا غريب أفندى، أنا أتمتع بالفرجة وحدى ولن أسمح لك بالفرجة علىّ بعد الآن، سوف نلعب مع بعضنا البعض، “كيكا عا العالى” كلما صعدت درجتين لتنظر من فوق، صعدت أنا أعلى درجتين لأنظر لك من فوق الفوق، أنا الآن – مثلا – استطيع أن أعرف أنك وحيد تماما، وأنك خائف مثلى، وأنك تبحث عن شىء لا تعرفه، وأنت بدورك قد تعرف عنى مثل ذلك، ولكن بلا فائدة؟ أنا لم أحضر بعد، كما أنى لن أحضر أبدا”.
لكن الذى صدر منى كان كلاما آخر يقول بأدب ليس لزجا:
- آسف لإزعاجك، ولكن النور انقطع لدينا فأردت أن أعرف هل عندكم نور أم لا، حتى أبلغ المصلحة؟ .
- دقيقة واحدة.
ذهب إلى الداخل وكأنه يلتقط أنفاسه لإكمال المبارزة، غير أنه حضر بادى الامتنان وقال:
- نعم، .. ليس عندنا نور أيضا، ..شكرا، لقد نبهتـنى قبل دخول الظلام.
- لا شكر على واجب، الناس للناس، عندى التليفون وسوف أقوم باللازم.
***
هذا عجب، والمصحف الشريف هذا عجب، جاءت هذه المرة سليمة، بل ورائعة أيضا، ليس عنده نور!! مجرد صدفة، ولكن أنا؟ من أين لى أن أعرف أنه ليس عندنا نور أيضا؟ هل هذه آخر أخبار الزلزال؟
هل كشف عنى الحجاب؟
دخلت إلى حجرتى مباشرة بعد أن تخلصت برفق من ابنتى التى تعلقت برقبتى هاتفة لمجيئى، أخذت أقلب فى بقايا الكتب التى علاها التراب فوق الصيوان، تعجبت أنى فى يوم من الأيام اقتنيت مثل هذه الكتب، أخذت أنفض عنها التراب وأعجب لأسمائها وكأنها لم تمر على من قبل، أو كأنى ودعتها منذ عهد بعيد، رفعت الحشية عن الأريكة العربى التى تستعمل مخزنا فى نفس الوقت، فتحتها، وأخذت أخرج محتوياتها من كتب وأوراق، ما هذا كله؟ هل أنا أمتلك هذه الكتب فعلا؟ متى نقلتها من بيت أمى، أرادت أن تتخلص منها ردا على زواجى، أخذت أقلب فى العناوين: “الحيوان” “سقوط الدولة الرومانية” “الوجود” “الأبله” “من هنا نبدأ”، أين ذهبت هذه الأشياء جميعا من عقلى طوال عشرين سنة، ماذا حدث لى وأين كنت طوال هذه المدة؟ كيف نسيت تماما كل شئ؟ كيف غفوت حتى نمت عشرين سنة؟ لابد أن هناك مسحوقا تضعه الحكومة فى الماء مثل الكلور يقفل مسام عقول الشباب رويدا رويدا حتى لا يفكروا الا “فيما يفيد”، ينساب هذا الغازالسائل فى خلايانا لنكف عن التساؤلات السخيفة التى تقضى على فترة من شبابنا دون مبرر، ويبدو أن خلاياى قد استجابت لهذا المطهر بطريقة قصوى حتى لم أعد استطيع- حتي- قراءة الصحف، ثم جاء هذا الزلزال ليشكك فى مفعول هذا المطهر العظيم، آه لو علمت الحكومة بتأثير هذه الزلازل على مخططاتها، إذن لطهروا جوف الأرض جميعا من كل الطاقات والحمم.
ما الذى حدث لى حتى انتهيت إلى تلك الحال قبل الزلزال؟
جاءنى شعور خاص أن شخصا ما سرقـنى، وبدلا من ضياع الوقت فى البحث عن “حسن” (المخرج) ينبغى أن أبحث عن هذا السارق لأنتقم منه أو أشكره، أو حتى أسأله عن الطريقة التى تمت بها السرقة لإعجابى الشديد ببراعته: سرقة من أحدث طرق التحايل، عملية نصب عالمية تمت وراء ظهرى، المصيبة أنها لا تتم دفعة واحدة ولكنها عملية نزيف مستمر، شىء أشبه بالاختلاس المنتظم الذى لا يـكتشف أمره إلا حين تخرب عقولنا تماما.
وأحاول أن أتذكر شيئا معينا فلا أستطيع.
أرجعت كل شىء مكانه بعد أن احتفظت ببضعة كتب قد أحتاجها فى المبارزة مع غريب، وإن لم يكن لدىّ نية قراءتها، كما أخرجت كومة من الخطابات عثرت عليها وقد علاها التراب وهى مربوطة بخيط من “الدوبارة”، وما أن قلبت فيها حتى تذكرت أنها الخطابات المتبادلة بينى وبين زوجتى فترة الخطوبة، وضعت كل ذلك على المنضدة القديمة فى ركن الحجرة وجلست بجوارها ويدى على خدى، حتى فى زواجنا كانت تحيطنا آمال وأحلام بلا حدود، كنا نتحدث كثيرا ونتحمس كثيرا وتمتلئ خطاباتنا بأفعال نابضة مثل “نقرأ، .. نحاول، … نعمل، .. نغيـِّر، .. نتألم” هذه الأفعال الخمسة كان لها بريق ونبض يدل على أنها صالحة للاستعمال، نتبادلها على الورق أو حول قرطاس ترمس على الكورنيش، ثم حلت محلها الأسماء الخمسة ” الأولاد، .. الأسعار، ..الحسد، .. الستر، .. حسن الختام”.
ماذا حدث؟ وماذا يحدث؟
كيف تنقلب الأفعال إلى أسماء؟
المصيبة أن ما حدث لى هو نفس ما حدث لسعيد عبد الراضى (شاعر اتحاد الطلبة) وعبد المهيمن المنقبادى (قائد المظاهرات) وسعاد زهران (راكبة الدراجة محطمة التقاليد) وسميحة عبد الوارث (الحالمة بالجنة على الأرض) وسناء، وفتحى، وعبد الودود، وسميه رمضان (الشابة الحاجة ذات الإيشارب والحماس لإرجاع الكون إلى أصله)، كلهم استبدلوا الأسماء الخمسة بالأفعال الخمسة، ولم يبق منهم إلا “التهامى محمود” الذى يبدو أنه احتفظ ببعض الأفعال حية فمازلت أسمع بعض تعليقاته بالصدفة على برامج الموسيقى التى لا أفهمها.
”الله يخرب بيوتكم”.
قلتها بصوت مرتفع وأنا أنظر إلى الخطابات، ولكنى لم أكن أوجه إليها السباب، ولم أكن أوجهه إلى أحد على وجه الخصوص، استمررت غارقا فى دهشتى لما يحدث ولـما حدث، هل أذهب ثانية لسؤال الأستاذ غريب عن السر؟ ولكن يبدو أنه ليس فى الأمر سر لأنها القاعدة، كما يبدو أن السؤال ينبغى ألا يقتصر على حالتى، ما الذى أعادنى ثانية إلى تلك الفترة؟ من ذا الذى يحاول أن يوقظ فى الأفعال الخمسة؟ كيف أهرب ثانية إلي”الأسماء” الساكنة المستقرة؟ كنت أعيش، وهم جميعا مازالوا يعيشون، فلمصلحة من أرجع وحدى وأفيق من خدر الأسماء لأواجه أفعالا تتحدانى وأنا لا أفعل شيئا؟ وماذا سيكون مصيرى حين أعجز عن الاستمرار فى لعب هذا الدور المزدوج؟
دخلت زوجتى على وأنا مازلت أنظر إلى الخطابات ساهما، ويبدو أنها سمعت صوتى دون تمييز، .
- هل كنت تنادى؟ .. لقد تأخرت اليوم، هل أعد الغداء؟ .
انتبهتْ إلى الكتب على المنضدة، فعلت وجهها الدهشة، ولكنها حين التفتت إلى كومة الخطابات ابتسمت ابتسامة حنون وكأنها التقت بعزيز غائب، غير أنها لم تستطع أن تتمادى فى هذه المشاعر، وكأنها خافت هى الأخرى من أن يتحرك شىء فى داخلها، نظرت إليها فى بله، فقالت فى تساؤل:
- ما الذى ذكـَّرك؟
- كنت أبحث عن أوراق خاصة،
- كنا أطفالا، مشاكل الدنيا أكبر من الآمال والكلام.
قالتها وكأنها تحاول أن تقنع نفسها بما تقول أو أن تبرر شيئا مفروضا عليها فرضا، لم أصدق أنها ما زالت تستطيع أن تحس هذه المشاعر، وحين تصورت أن هذا محتمل ارتبكتُ، ..، حاولت أن أتجاهل الموقف برمته، هل هذا محتمل؟ ارتبكت غاية الارتباك وداخلنى رعب خفى، لقد استرحت فى وحدتى ومكانى بين المتفرجين، حتى غريب أفندى ذاته لن يستطيع أن يدخل إلىّ أو يشاركنى مقعدى، ثم تأتين أنت تلوحين بهذا الذى دفناه بغير شهادة وفاة؟ إلا هذا، .. إلا هذا ياولية انت!! حذار!
”أن أنشق من داخلي”، هذا محتمل.
”أن أنسى اسمي”، هذا أمر جائز.
” أن أمضى طوال النهار وجزءا من الليل أحدث نفسي”، هو فى حدود الطبيعى.
”أن أعالج عند طبيب أمراض نساء وأطفال”، إجراء على قدر فلوسى.
أما أن أحس بأن هناك من يشاركنى فى هذه اللعبة الخاصة أو يحاول أن يعيشها معى فهذا هو الخطر الأكبر، ما طمأننى من غريب أنه من كوكب آخر، أشعر الآن بالتهديد خشية أن أجد كوكبى مسكونا بمخلوقات غيرى، والمصيبة الكبرى أن تكون زوجتى من بين هذه المخلوقات، زوجتى الصورة التى أعدمت أصلها منذ زمن سحيق ولم أقرأ نعيها إلا بعد أن زلزلت زلزالها، وأخرجت أثقالها.
زوجتى؟ نعم، تلك المرأة التى اغتالت خطيبتى (صاحبة الخطابات) تأتى الآن لتشاركنى فى تأبينها، أو لتمثل شخصيتها!! لا، لا أحتمل، سوف ألغى من عقلى ومن جسمى كل ما رأيت، كنت قد أصدرت عليها حكما بالإعدام حين ثبت أنها هى التى اغتالت الأخرى، وحين قرأت نعيها بعد الزلزال تأكدت من أن القصاص يأخذ مجراه ولو بعد حين، فلماذا تأتى الآن لتطل على فجأة من بين كومة خطابات؟ لابد أن فى الأمر خدعة،
- خدعة خدعة.
قلتها بصوت عال، وقد حسبت أنى أكلم نفسى، لكن يبدو أن زوجتى قد سمعت.
- نعم خدعة، ولكنها كانت خدعة لطيفة، كنا أطفالا وكان لابد أن ننخدع فى الألفاظ الحلوة والآمال الكبار.
الآن أستطيع أن أهدأ، رجعت الأمور إلى نصابها وتأكدت أنها حفلة تأبين، وليست طقوس إحياء الموتى، كل ما خطر ببالى أو لمحته سواء بين الخطابات أو بين ملامح وجهها هو من وحى أرواح الضحايا التى تحوم حول القتلة فى هيئة الذباب الأخضر، هذا الذباب ليس ضارا ولا يحمل إلا معنى الرمز والذكرى.
الآن أستطيع أن أرجع إلى مقعدى بين المتفرجين مرتديا طاقية الإخفاء أكمل المسرحية التى ليس لها نهاية، وأنا فى أمان أننى الكائن الوحيد فى كوكبى الكونى الخاص.
****
ملحق النشرة (2):
(برجاء عدم قراءته!!)
أكرر ما جاء فى هامش رقم (6) نشرة السبت
“وددت لو لم أكن أنا مؤلف هذه الرواية، إذن لقمت بنقدها نقدا مفصلا تحت مقولة “التفسير الأدبى للنفس” أعارض به مقولة “التفسير النفسى للأدب” (2)كما فعلت فى معظم نقدى وخاصة أعمال محفوظ وديستويفسكى
أكتب هذا الملحق ضد مقاومة هائلة، ومع ذلك أكتبه، وهو موجه للزملاء الذين آمـِلـْتُ أن أوصل إليه هذا الفن العلمى الذى أنتمى إليه، وهو الطب النفسى، أما سبب المقاومة فهو خشيتى أنه قد يمسخ النص، ولكن ما باليد حيلة، وهاكم ما خطر لى مما يحتاج إلى انتباه أو تعقيب أو حوار:
أولاً: نشرة السبت (ج 1)
(1) البداية المفاجئة دون أسباب
(2) طبيعة، وعمق، وهلامية، وتنوريات، ما يسمى “اختيار قرار المرض”
(3) المرض كاكتشاف
(4) تعدد البدايات وتذبذتها، وحدوث بعضها فى السر
(5) ارتفاع نبرة السخرية، بما تحمل من جرعات متفاوتة النقد
(6) الوعى بالطفل العابث فى الداخل (وأحيانا الخارج)
(7) تنوع التعامل مع استقبال هذا الطفل وحضوره
(8) ازدواجية الحوار (أو تعدده) معظم الوقت
(9) المريض هو الذى يكشف على الطبيب ويكاد يشخصه
(10) قراءة أفكار الطبيب وحدس انشغالاته
(11) تداعيات وذكريات الطفولة
(12) شطحات الخيال ..و … و..؟؟
ثانياً: نشرة الأحد ( ج 2)
(1) تداخل ما يبدو حلما مع ما يمكن أن يكون جنونا على حافة النوم
(2) مفاجأة تنشيط ما يشبه الإبداع ورؤية كل شىء بشكل مختلف
(3) ثقل، كل ما هو “عادى” ورفضه
(4) تماهى الذات فى كتلة البشر
(5) تداخل الأفكار، ونقلاتها حتى الطيران أحيانا
(6) حضور التناقض، خاصة الوجدانى بلا رفض جاهز
(7) صراحة الوقاحة ووقاحة الصراحة (سرا أو جهرا).
(8) تفجير المشاعر الأصلية والجديدة، وأحيانا البدائية
(9) العجز عن تسمية المشاعر
(10) الاعتراف بموت المشاعر القديمة برغم حيوية الغامض الجديد منها
(11) تشكيلات أخرى للحب.
(12) عمومية الغمـْر بالمشاعر المتنوعة معا.
(13) هلامية التفكير
(14) انفصال الذات عن كتلة المجموع
(15) استمرار تطور الجنون فى سرية دالة
(16) الفلسفة، والتفلسف والحكم والرؤية المخترقة
(17) دلالة الكوكب الخاص ورحلات الأكوان
(18) تشبيه الجارى بالتمثيل
ثالثاً: نشرة الإثنين: (ج 3)
(1) وصف العادية قبل المرض بحالة “التنويم”
(2) الفـُرْجَة المستمرة
(3) ازدواج الإدراك
(4) تنشيط الحدْس وصدقه (غالبا)
(5) التخدير السلطوى العام، ثم تعريته
(6) سرقة الذات
(7) تحول “الأفعال” إلى أسماء
(8) اللجوء إلى التحوصل بعيدا عن “الموضوع” و”الآخر” مهما كان قريبا
(9) الخوف من أى اقتراب
(10) العيش فى الكوكب الكونى الخاص
وبعد
كرهت ما أثبته هكذا فى هذا الهامش القبيح حتى كدت أمزقه،
فهل يا ترى كرهتموه مثلى؟
يا ليت
وياليتكم لا تقرأوه أصلا
ويا ليتكم توصونى ألا أعود إليه ثانية
أو لعله يفيد إشارة الأصغر للبحث وتحرّى الدقة بما يفيد تدريبه وتطور خبرته.
أنا آسف.
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.
[2] – يحيى الرخاوى : تبادل الأقنعة دراسة فى سيكولوجية النقد، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2006