نبذة: اقتحام جديد يعرى دور شركات الدواء فى التركيز على المكسب كل من العلم والمرضى بل وبرمجة أدمغة الأطباء الأصغر والأكبر على حد سواء.
الأهرام: 12-01-2004
الجريمة الأخطر…..
فرحت فرحا معتدلا حين أصدر سيادة المستشار النائب العام أمرا بمنع النشر فى الاتهام الموجه إلى الزميل مدير معهد القلب حتى تتبين الأمور. علمنا رجال القضاء الأفاضل أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته.
المسألة التى أثارتها هذه القضية هى أخطر وأكبر من التحقيق مع زميل أو توقيفه. نـذكر ابتداء أن شركات الدواء العملاقة (انضم إليها مؤخرا شركات المعدات الطبية وشركات أدوات وأجهزة الفحوص المعقدة) جنبا إلى جنب مع شركات السلاح هى التى تحكم العالم سياسيا: (حربا واقتصادا!!) وليس فقط صحيا!!. ليكن، وليتول هذا الأمر الجلل رجال السياسة والحرب والمقاومة الشعبية التقليدية والحديثة (عبر الإنترنت). إلا أن لهذه المسألة نفسها حضورا أعم وأخطر فى مجال الطب والتطبيب خاصة فى العالم الأفقر (لم يعد الفقر قاصرا على العالم الثالث أو الجنوبي).
إن مثل هذا الحادث – دون دليل مادى مباشر عادة – يحدث كل يوم فى كل مجال من مجالات تسويق الطب وتدريس الطب وتحديث الطب وعلمنة الطب. يتم ذلك بنعومة ذكية وخبث متسحب تحت عنوان المؤتمرات، والسفريات، والهدايا البسيطة فالثمينة حتى الإيداع فى الخارج لكل من يقبل أو يتغافل عن الثمن الذى يدفعه المرضي. وخزانة الدولة والتأمين الصحى والعلم الحقيقي، والشرف المهنى وغير المهني، فى مقابل ذلك.
الأخطر من هذا أن تدريس الطب والبحث فيه، بل وتقسيمات الأمراض وترتيب إعطاء الأدوية (الخوارزمية) أصبحت مبرمجة لصالح الشركات، وليس لصالح المرضى أو الصحة أو الحق أو النفع.
الطب تاريخا وإنسانيا هو ممارسة واقعية إمبريقية من واقع حال المريض واستجابته، هو فن اللأم، هو مداواة ومواساة، هو ما ينفع المريض فعلا. انقلب الطب بفضل الجشع المادى للشركات بمشاركة بعض الأطباء وأساتذتهم تحت ستار الأرقام، والإحصاءات الخادعة، والفروض المخلخلة إلى أن يصبح فحوصا لا لزوم لها، وأبحاثا تصدر من على مكاتب علماء الشركات الذين يعرفون الأرقام والإحصاء والأسعار أكثر من معرفتهم المرضى والآلام والإعاقة والفقر.
استلزم لتحقيق هذه النقلة أن تمارس الشركات رشوة عامة منظمة ناعمة تسمح – مثلا – لدواء بمئات الجنيهات أن يحل محل دواء بأقل من عشرة جنيهات، له نفس الفاعلية أو أقل، وذلك بوقف إنتاج الدواء الرخيص بدعوى الاستجابة لتعليمات الحكومة بعدم رفع السعر رحمة بالمريض فتكون النتيجة ألا يجد المريض الفقير الدواء الأرخص (حتى لو تضاعف ثمنه) تحت زعم أن الشركات غير مستعدة للخسارة. (لكنها مستعدة للذبح بأدوية جديدة ليست أحسن.)
علمنا رجال المباحث الجنائية أن كمية المخدرات التى تدخل البلاد تحسب بأنها عشرة أضعاف ما يضبط منها، وتقديرى – قياسا- أن كمية الرشاوى الخفية للأطباء هى عشرات الأضعاف ما يضبط فعلا، هذا ناهيك عن الجريمة الأخطر وهى تدريب طلبة الطب والأطباء وبرمجة أمخاخهم على أن تصب كل جهودهم فى خزائن هذه الشركات لا فى صحة الناس، ولا فى إنتاجهم، ولا فى إبداعهم.
المحنة عالمية وليست خاصة بمصر أو البلاد الأفقر، أو معهد القلب. ومن المحتمل أن الذى يقع فى قبضة القانون هو الأقل دربة فى أسرار الصفقات، وليس بالضرورة الأكثر تربحا أو أفحش ارتشاء.