اليوم السابع
8-5-2014
الثورة تبدأ فينا أطفالا، فلنتعهدها إلى غايتها
كان عنوان نقدى لرواية “حديث الصباح والمساء”، هو: “جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين من الزمان” (العدد الخامس “دورية محفوظ” ديسمبر 2012 )، تناولتُ فيه الفروق بين أدب المقاومة، وأدب التحريض، وبينتُ كيف أن فعل الإبداع هو ثورة فى ذاته، وذكرت كيف وصلنى دائما أن أدب محفوظ يتميز بحيوية دافقة ممتدة بأصالة عميقة، عبر ذراعَىْ “الإيقاع الحيوى” أصل الحياة، ومن ثَمَّ كنت – ومازلت– أرى كيف أن موقف محفوظ مما هو ثورة أعمق وأشمل كثيرا مما يسمى أدب المقاومة، الإبداع الحقيقى هو ثورة كاملة، فهو عملية تشمل ما هو إقدام فتفكيك يصل أحيانا إلى حد التحطيم الذى تلحقه آليات الإبداع فإعادة التشكيل فالتخليق.
كذلك الثورة المتكاملة، فهى إبداع جماعى، هكذا نتعلم من أى أدب أصيل ومن أدب محفوظ خاصة.
اكتشفت فى نقدى لأصداء السيرة الذاتية لمحفوظ أن ذكر الثورة جاء فى أول فقرتين فى الأصداء، قفزتْ إلىّ الصور التى علمنا فيها محفوظ كيف تنشأ الثورة فى وعى الناس منذ الطفولة فى مجتمع سليم، رحت أقارن ذلك بما أكتب فيه وأتكلم عنه هذه الأيام وأنا أشير إلى ذلك الفراغ المطلق الذى ملأ أطفالنا فشبابنا عبر عشرات السنين القريبة، فجعل نفَسَ شبابنا الأحدث بهذا القِصَر، كما جعل أداءهم فى الـ”محلك سرْ” هكذا، مما يحتاج إلى تصحيح وملء وتشكيل وعى يستحقونه وتسحقه مصر الجميلة.
تعالوا نستمع إلى بعض أ صداء محفوظ، وكيف وُلدت بذور الثورة باكرا باكرا فى وجدانه.
الفقرة الأولى: – دعاء:
“دعوتُ للثورة، وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقى شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا،غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطيء السعادة ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!”
جاء فى نقدى لهذه الفقرة:
تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضي”، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المُحْكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه إلى سجن النظام “المدرسة”، فتنقذه المظاهرات من هذا وذاك، لتطير به إلى “شاطيء السعادة” داعيا للثورة بطول البقاء، وكأن الثورة ارتبطت عنده طفلا بالمظاهرات وتوقف الدراسة ، إلى الاكتمال بالسعادة وإعادة الولادة !!!
لكن فى الفقرة التالية مباشرة (رقم 2) بعنوان” :رثاء” يأتى ذكر الثورة بشكل آخر تماما، فبعد مفاجأة زيارة الموت لبيتهم – وهو بعد طفل- ليخطف منه جدته: إذا به ينسحب بعيدا عن أنفاسه التى تتردد فى جميع الحجرات ليجمع نفسه، يقول نصًّا:
“…فلذتُ بحجرتى لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء”، … وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان : لا تبق وحدك، واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف…”
الثورة هنا غير الثورة “المظاهرات” التى أعفته من المدرسة ودعا لها كما ورد فى الفقرة الأولى، هذه الثورة الأخرى التى اندلعت “فى باطنه” كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقدُجدته، فكانت “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”.
هذا طفل وذاك هو نفس الطفل ربما فى نفس السن، انظر كيف يحضران فى وعى المبدع بمعانٍ متكاملة تعطى للفظ “الثورة” حقه من النبض، والحيوية، والعمق، والخطر، والفرحة، والحنين للفوضى، وهى هى المعانى التى قد تصف مرحلة فى الإبداع بأنواعه، بما فى ذلك الإبداع الجماعى المسمى “الثورة”.
من يا تـُرى ممن يتصدى الآن لحمل المسئولية يستطيع أن يمسك بعصا المايستروا لنكمل معا لحن “الثورة البعث” وهو يبادر بضبط إيقاع وأداء أفراد الأوركسترا جميعا، نبدع معا حياتنا الجديدة انطلاقا من ذلك الوعى الثورى الفائق إلى وجه الحق تعالى، مشاركة فى إرساء دعائم صرح حضارة إنسانية حقيقية، تشارك فيها مصر بما يليق بتاريخ هذا الشعب العظيم؟
دعونا نبدأ معا فورا ، عاملين فاعلين طول الوقت، مستقلين غير منفصلين طول الدهر، حتى لو افتقرنا إلى بذور وجذورالثورة أطفالا،
فالطفرة واردة لو أننا تعهدنا إعادة الولادة إلى غايتها، ونحن ندعو:
“ربنا يولّى من يصلح”.