نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 21-10-2014
السنة الثامنة
العدد: 2608
الثلاثاء الحرّ:
أنا والكتب وبرتراند رسل.. والسـعادة (1)
كثيرا ما أتوقف لأراجع نفسى وسط زحام وإلحاح ما ينتظرنى:أى موضوع هو أولى بالوقت والقلم، فتتكاثر علىّ المسائل والأفكار، تذكـّرنى بخراش وهو يصيد الغزلان:”تكاثرت الظباءُ على خراشٍ، فما يدرى خراشٌ ما يصيد” ! أمد يدى إلى أقرب كتاب من مكتبتى التى تقع أغلبها خلف مكتبى، أحيانا أمد يدى دون أن أنظر ورائى، وأمسك بالكتاب الذى نجح أن يقفز إليها: انجليزى، عربى، نفسى، شعر، طب، فسلفة، مكتبة الأسرة، أى حاجة، أتصفح الكتاب فأجد به “آثارعدوانى” على صفحاته بالحوار والشجار، والاحتجاج، وعلامات التعجب، وعلامات الاستفهام، والداوئر التى تحيط بعض الفقرات، وأحيانا بعض الجمل، أو بعض الكلمات، فأعرف أننى زرت هذا الكتاب يوما ما، وإلا ما لحقتْ به كل هذه الإصابات والكدمات، والزخارف والحليات.
الكتب التى مازالت صفحاتها تزهو بعذريتها تُبْلِغُنى رسائل أكثر تحدّياً: إذا كنتُ هكذا لم ألمسها فلماذا اشتريْتُها؟ ولماذا احتفظتُ بها فى مكتبتى؟ لأعود إليها!؟ متى بالله علىّ؟ أقلّب فى هذه الكتب العذراء فأعرف لماذا اقتنيتها، وأحيانا أتذكر يوم اشتريتها أيام أن كنت أشترى كتبى بنفسى، ومؤخرا قد أتذكر متى كلفت بعض مساعدىّ بالبحث عنها وشرائها، طيب ماذا فعلت بها بعد اقتنائها؟ ها هى تقبع ساكنة منسية بين مئات الكتب دون أن تعبر حتى شريط ذاكرتى وليس بها أى أثر من آثار عدوانى، فأذهب إلى المحتوى فأكتشف فصولا كنت ممستعدا أن أدفع جزءاً من عمرى لأعرف ماذا بها تفصيلا، ويدفعنى دافعى الأول أن أرجع إلى متن أحد هذه الفصول، فأفاجأ أنها هى التى كنت أريد أن ألم بموضوعها حين اقتنيت الكتاب، والمصيبة الأكبر حين أكتشف أن بها مواضيع، أكون شخصيا وصلت فيها مؤخرا إلى فرض أو نظرية تصورت أنها جديدة وأصيلة، وأننى بذلك قد أصبحت مبدعا أضيف إلى المعرفة أو إلى العلم إضافة جديدة غير مسبوقة، وإذا بهذا الفصل الذى عثرت عليه فى هذا الكتاب قد تناولها هى هى من قديم، بأروع وأدق مما اكتشفُتُه أنا بينى وبين نفسى مؤخرا، أخجل من جهلى، وأحمد الله أننى لم أسارع بنشر أفكارى هذه حتى لا تبدو أنها سرقة بشكل أو بآخر، ثم أعود أفخر أننى وصلت بنفسى إلى ما سبق أن وصل إليه هؤلاء الرواد الثقاة، يتكرر ذلك معى حتى تطمئننى فكرة خطرت لى أسميتها: “المصداقية بالاتفاق الطولى”، أو “التاريخى” بمعنى أن إعادة اكتشاف نفس النظرية ولو بعد عشرات السنين هو فى حد ذاته نوع من إثبات مصداقيتها(وأيضا:هو إثبات لجهل اللاحق مثلى بجهود وأفكار من سبقوه)، بل إنه قد تحدث هذه المصداقية بطريقة عرْضية لا تاريخية، جعلتنى أفترض أن الأفكار ربما يكون لها استقلالها، ومدة حملها، وتوقيت ولادتها فى عقل بشرى قادر على حملها بحقها، وهى هكذا قد تظهر فى نفس الوقت فى وعى عالمين أو مبدعين بعيدين عن بعضهما، يحدث ذلك حين يكتشف عالمان مختلفان نظرية ما فى نفس الوقت تقريبا، وأكتفى هنا بالإشارة إلى نظرية الأصل الفسيولوجى للانفعال التى اكتشفها “وليام جيمس”الأمريكى فى نفس الوقت الذى كشف عنها “كارل لانج الدانماركى 1884 – 1885، وتقوم معركة تنتهى بالاتفاق على تسميتها باسمهما معا، ولا تنتهى المعركة حتى سميت النظرية باسميهما معا، ومثال أشهر عن نظرية داروين “أصل الأنواع”، فقد اكتشفها تشارلز داروين و”ألفرد راسل ولاس” فى نفس التاريخ 1859م .
ثم زاد عدد “الظباء” حين أصبح لى حاسوب له أزرار ومخازن داخلية وخارجية، وإذا بالبحث فيها يمثل لى ما هو أكثر مصادمة وإرعابا، حيث أننى كثيرا ما أكتشف أننى كتبت فى هذا الموضوع (الفلانى) كتابا كاملا، أو فصلا فى كتاب أو فهرساً كاملاً لعناصر كتاب، ثم أكتشف أننى نسيت كل ذلك تماما، وأنه لولا أن الحاسوب قد سجله واحتفظ به لأقسمت أننى لم أخطّ فيه حرفا، ومن البديهى أن أجد فى هذه الكتب والفصول والفهارس إجابات لأسئلة كنت أحسب أننى لم أحسم الإجابة عليها، أو فروضا كان ينبغى أن أتعهدها لمحاولة إثباتها، هذا غير المفأجات غير السارة (لأول وهلة) التى تفاجئنى وانا أبحث فى حاسوبى حين أجد عنوانا رائعا على وجه الوثيقة أو الملف، ثم أفتحه فإذا به يحوى موضوعا آخر تماما ليس له أدنى علاقة بالعنوان، وقد لا أجد المحتوى الخاص بالعنوان أصلاً !! والعجيب أنه كثيرا ما أكتشف هذا الموضوع الآخر الذى اخْتَبَأَ وراء العنوان الزائف هو جديرا بالنظر، وإعادة النظر ، فيخطر لى خاطر طيب وأنا أسأل نفسى لو أن فرويد العظيم) وليس العبد لله” الأىْ كلام”) أو هيجل مثلا كانت عند أى منهما فرصة تسجيل أفكاره وآرائه بمثل هذه الفورية، وهذه التلقائية، وهذه الكثافة إذن لتركوا لنا من الثراء والإضافة ما هو أكثر مما تركوا، ربما عشرات المرات.
الكتاب الذى وقع فى يدى مؤخرا، بمحض الصدفة هو كتاب “انتصار السعادة”لبرتراند رسل، وأنا اكره كلمة السعادة هذه وأتحفظ على استعمالها الطبى والتخديرى والطفولى والعشوائى، بعد أن شوهتها شركات الأدوية لتصبح كأنها حبوب تباع وتشترى، وقد كتبت نقداً لكتاب لخصه المرحوم أ.د. أحمد مستجير فى مجلة وجهات نظر، بعنوان “علم اسمه السعادة”، وقد رفضت أغلب ما جاء فيه وحادثت المرحوم أ.د. مستجير فى ذلك بحب يعرفه، وقد تقبل باحترام تحذيرى من ترويج عقار لشركة بذاتها) ذكر د.مستجير اسم العقار فى المقال بحسن نية).
تساءلت وأنا أقلب كتاب برتراند رسل كيف يكتب رجل أحبه وهو بهذا الحجم والعظمة كتابا بهذا العنوان “انتصار السعادة”؟ لكننى مع المضى فى تصفح تخطيطى وتهميشى له، تذكرت كيف وصلتنى رسالته وكأنه يتحدى حذرى من كلمة السعادة، وكأنه خطط مع سبق الإصرار والترصد لينصرها علىّ شخصيا، أعود أتصفح الكتاب من جديد، وإذا بى أكتشف أنه من الكتب التى قرأتها بعنف، حتى أن الاعتداء ظهر بألوان أقلام مختلفة، بدأت بالأسود والأزرق، ثم سالت الدماء بالأحمر العادى، والأحمر دم الغزال، لم أصدق وواصلت التقليب حتى وصلت إلى آخر صفحة فوجدت أنه قام باللازم، وكذلك فعلت أنا به ما تيسر.
صالحنى هذا الكتاب الجاد الطيب على نوع آخر من السعادة غيرالسعادة الرخوة، والسعادة الكسول، والسعادة التى تـُنسى صاحبها تعاسة المحرومين وانسحاق المظلومين، والسعادة المجانية، لكن برتراند رسل قال كلاما عن سعادة أخرى :إنسانية وجميلة ومسئولة.
[1] – نشر هذا المقال فى الأهرام الجمعة : 17 أكتوبر 2014