نشرت فى الدستور
30/4/1997
التهجير الجماعى
أنا لا أحب مثل هذه المعارك: أحمد فؤاد نجم أمام نجيب شهاب الدين، فى وزن الخفيف الثقيل (وليس خفيف الثقيل !!) ومع ذلك أتتبعها، على الأقل لأخجل من نفسى لأنى لا أعرف الشاعر نجيب شهاب الدين بالقدر الذى شهد له به حتى خصمه، وقد تعودت أن أقدم على ما لا أحب – وهذا من فضائل تدريبات التعتعة – فاكتشف أنه ليس من حقى ألا أحب ما لا أعرف، فهأنذا أقرأ اللب واللب الآخر (على وزن الرأى والرأى الآخر) حتى أتعثر فى كلام نجيب شهاب الدين وهو يقول ” (الدستور 2/4/ 1997) بعد حرب 1973 كان السادات قد استطاع أن يسحب البساط من تحت أقدام كل معارضيه، … فانفضت أمور كثيرة كان من بينها ظاهرة” إمام ونجم” ثم يقول كان المولد الوطنى قد انفض وكان الجمهور قد هاجر فأتوقف فاغرا وعيى حتى الجمود، وحين تبدأ الحركة (التعتعة) أتلفت باحثاًً عن الجمهور المصرى فأتحقق من كلام شهاب الدين فأجد الجمهور المصرى وقد هاجر فعلاًً بفعل فاعل، أعنى أنهم قد هجروه.
لم يهاجر الجمهور المصرى منذ سحب السادات البساط من تحت أقدامه بعد أن لعبها بذكاء الفلاح المصرى إبن البلد الحدق والذى عادة ما يتمادى فى الحداقة حتى يندب من كثرة ثقته بزئبقيته، بل هاجر الجمهور المصرى منذ تفضل ناصر الأعظم وضباطه العظام بحمل مسئولياتنا عنا جملة وتفصيلا: بالمعنى الريفى القائل “خل عنك” ويبدو أننا رددنا عليه بالرد الريفى التقليدى “لا خلا ولا عدم”، ومع ذلك رحنا نتفرج على ناصر القادر الظافر، ونقع تحت تأثير نظراته العميقة، وكلماته المفيقة، وأحلامه العريقة،الخ وهكذا ظل الجمهور فى ظل الناصرية مقيما على العهد، وطنيا على أمل، فلم يهاجر، و لكن يبدو أن كل هذا كان تمهيدا للهجرة الجماعية الحالية، كان الجمهور حاضراً فى كل أنواع الهتاف والصياح والأمل فى القومية والبكاء فى الجنازه والحسرة على الماضى والحلم التراثى، والخيبة البليغة، لكنه لم يكن حاضراً لا فى المشاركة فى الرأى، ولا فى التفكير للمستقبل، ولا فى إرساء العدل، ولا فى الحوار الحقيقى، وحين جاء السادات وعملها قلنا “الله نور”… “يمكن !!”، لكنه – قام أيضا عنا بكل العمل، صحيح نحن الذين حاربنا و إنتصرنا، لكنه هو الذى قرر وبادر وعاهد، صحيح أن ذلك كله عاد لنا بأرضنا شبرا شبرا لكننا ظللنا فى موقع المتفرج فاغر الفاه، أو المغيظ المندهش مخرج اللسان، ثم توالت الهجرة واضطردالتهجير: تهجير العمالة المهانة إلى بلاد الخليج والمغرب، وتهجير العمالة المغامرة (طرزان) إلى أوربا، وتهجير العلماء، إلى بلاد تقدر العلماء، وتهجير أجنة الأثرياء ليولدوا فى أمريكا ليحصلوا على الجنسية من بدرى، وكل هذا هو التهجير الظاهر فحسب، أما التهجير الأخطر فهو تهجير عقول المثقفين، إلى ندوات “طق الحنك” وتهجير حماس المتدينين إلى قراءة دلائل الخيرات، أو قتل الأبرياءأيهما أذهل، أضف إلى ذلك الهجرة الداخلية إلى دويلات صغيرة مستقلة ذات سيادة تسمى: القطاع الخاص، ثم إلى مستوطنات سكنية (لاحظ كلمة مستوطنات) مغلقة على أصحابها متعددى الجنسية على جانبى أى طريق صحراوى (واسمها الدلع “كمباوند”) مستوطنات بقصورها وفيلاتها وبحيراتها.
ثم خذ عندك الهجرة بالمنظرة الدوارة بلا محتوى: فى متاهات استمناء البحث العلمى الزائف، وحوار الصم فى مجالس المجالس.
ولمزيد من التعتعة نقول: إذا أردت أن تقيس حضور (أو إقامة) جمهور ما فى بلد ما، وكان هذا البلد الــ “ما” هو بلد يعيش حكما عسكرياً بيروقراطياً تكنوقراطياً (على أحسن الأحوال) رغم الانتخاب والمحليات والثعلب فات فات، وفى إيده سبع قرارات، فلا تنظر فى نسبة حضور الانتخابات أو عدد مقاعد نواب الحزب الوطنى أو عدد صحف المعارضة أو أرقام بيانات الحكومة أو حتى قياسات الرأى العام المزعومة، ولكن إبحث عن ما يدور فى المقاهى البلدى ونوادى الشباب، وعلى مصاطب المقابر، وفى أسواق المواشى، ومطاعم المصانع و كافتريات و دورات مياة دور السينما، وأجمع المواضيع التى يتكلم فيها ويناقشها الناس، وانظر فى المواقف التى يتخذونها، وفى الأحلام التى تخطر على بالهم، فإذا لم تجد غير النكات الجنسية أو السياسية والكلام الدائرى، ثم العزوف عن المشاركة فى أى إنتخاب أو نقابة أو جماعة أو جمعية، فصدق نجيب شهاب الدين – رغم ما يقوله فيه أحمد فؤاد نجم – واعلم: “أن الجمهور المصرى قد هاجر” بالسلامة، أو غير ذلك.