نشرت فى مجلة سطور
عدد يونيو 2004
التكاثر: رعبا من الموت جوعا
“أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ”
مدخل:
تساءلت، ومازلت أتساءل، عن: ما الذى يدفع شخصا ما (دون استثناء نفسى) أن يجمع أكثر من حاجته للأكل والشرب والسكن وبعض الترفية الممكن فى الزمن المتاح، بالإضافة لما يتـيسر له من إمكانية بعض الفعل الحر فى مساحة مناسبة مهما ضاقت.؟
جاءتنى بعض الإجابات المنطقية (من داخلى وخارجى)، وكان أغلبها فى حدود المعقول. كانت معظم الإجابات تدور حول أن الجمع هو بهدف التأمين ضد حوادث الزمن و مفاجآته. قد يكون ذلك مقبولا فى حدود أن يجمع هذا الشخص ضعف ما يحتاج، أو بضعة أضعاف ما يحتاج أو مائة ضعف ما يحتاج. ليكن! لكن ما الذى يجعله يجمع أكثر من ذلك: ألف ضعف، وألف ألف ضعف، ثم أكثر فأكثر وأكثر، مما أعجز عن مجرد تخيل أصفاره على الورق؟
من عمق معين يصعب الفصل بين البحث عن الغذاء و الحرص على توفيره لإرواء غريزة الجوع، وبين البحث عن الأمن. إن عدم الثقة الأساسى Basic mistrust يمثل الجذر الأعمق لكثير من السلوك الاغترابى المتعلق بالجمع المتمادى بغير نهاية.
من الخبرة المهنية والتقمص:
بدأ انتباهى إلى هذا الاحتمال أثناء تأملى فى ظاهرةٍ يصاب بها المريض الوسواسي، نسميها غالبا الجمع التكرارى القهرى، كما يصاب المريض الفصامى بعَرَض مواز نسميه عرض “التخزين” Hoarding. المريض الوسواسى المصاب بهذا العَرَض لا يكف عن الجمع والتخزين لنوع معين من الأشياء، مع أنه يوقن أنها لا لزوم لها، وأنه لا يحتاجها، وأنه لن يستعملها، وقد يكون ما يجمع نوعا واحدا يركز عليه، وقد يكون أكثر من نوع. مثل هذا المريض يعرف جيدا خطأ وشذوذ ما يفعل، لكن بصيرته لا تنفعه فى أن يمتنع عن هذا الفعل القهرى مهما قاوم، فهو دائما أبدا يعجز عن إيقافه. المريض الفصامى تتجلى فيه ما يكافئ هذه الظاهرة، ولكن دون بصيرة ودون مقاومة. الفصامى المصاب بهذا العرض قد يجمع كل شئ دون تمييز، ودون سبب واضح، ودون فائدة عادة، فهو قد يجمع غطاء زجاجة كوكاكولا، مع فردة حذاء قديمة، مع فازة ثمينة، مع صفحات ممزقة من صحيفة مهملة، مع صندوق بلاستك فارغ، مع قطعة جبن جافة. ثم إنه – خاصة إذا كان من نوع الفصامى المتفسخ – قد يجمع كل ذلك ويخزنه بطريقة عشوائية فوضوية تمتد من تحت السرير إلى فوق الصوان، ومن وراء الباب إلى جوار المدفأة. المهم أن هذا الفصامى قد يصاب بهياج عارم إذا ما اقترب أحد من حجرته مثلا للتخلص من بعض ما يشوهها، أو حتى مما تعفن فيها، وهو قد يثور نفس الثورة إذا ما حاول أحدهم مجرد تغيير موضع شىء مما جمعه وخزّنه.
فى كثير من هذه الحالات نكتشف عمق “عدم الأمان”، نكتشف عدم الثقة والرعب المتجدد أبدا، رعبا كامناً لحوحاًًً ليس من عدوِّ مهاجمٍ بذاته، وإنما هو خوف من نفاد ما يملك من زاد (أو ما يعادله)، مما يترتب عليه تصوره أنه إذا ما نقص ما عنده أى نقصان، ولو كان رمزيا، فهو الهلاك، ومن ثَمَّ تتقِد بداخله معايشة باطنية، تنذره طول الوقت “من الموت جوعا!!”.
هل يمكن أن يكون وراء الاستحواذ على السلطة وجمع المال بلا نهاية، نفس الرعب من الموت جوعا، تماما مثل الوسواسى أو الفصامى؟
من لحظة إشراق خاطفة:
ذات لحظة، وبدون سبب، وبلا أزمة خاصة، ضبطت نفسى متلبسا بهذا الخوف (من الموت جوعا). كان ذلك خلال إحدى أسفارى الطويلة البعيدةَ. أتاحت لى هذه اللحظة آنذاك أن أرجح أن هذه المسألة كامنة داخل أعماق الإنسان، بغض النظر عن تجلياتها الصريحة أو الرمزية فى حالات المرض. ربما كان هذا الخاطر هو الذى جعلنى أُفْرِدُ فصلاَ بأكمله باسم “الجوع” فى الترحال الثالث من ترحالاتي، (ما بين السيرة الذاتية وأدب الرحلات) [1].
رجعت إلى هذا الفصل وأنا أكتب هذا المقال فإذا بى قد جمعت فيه كثيرا مما نضح منى وتسَمّى باسم “الجوع” مباشرة أو مجازا، خاصة ما تمثل لى شعرا مثل:
…. “أنا ما طرقُت البابَ إلا بعدَ أنْ نادَتْكِ كُّل خلايا جوعى.
جوعى إلى عينٍ ترانى،
جوعى إلى أمّى تهَدْهِدُنِى،
جوعى إلى بِنْتِى تزّملنى تدثرنى” …
اكتشفت أننى قبل ذلك بسنوات طويلة خاطبت ابنى الأكبر فى نهاية قصيدة إليه قائلا:
.. “أعذرنى ولدى أتضوُر جوعاًً مَّتهَماًً بالبطنة” … [2]
وفى موقع آخر وجدتنى أقول بالعامية (ديوان: أغوار النفس) [3]
… ”من كُـتْر ما انَا عطشانْ باخاْف أشرْب كِدَهْ من غير حسابْ،
لكنْ كمانْ:
مش قادر اقول لاَّهْ، وانا نِفْسِى فى نِدْعةْ مَيّهْ من بحر الحنان،
يا هلترى:
أحسن أموتْ من العطش
ولاّ أموت من الغَرقْ ؟”
من هذا المنطلق المهنى والشخصي، مع تنويعات تجليات الجوع الذى لا يرتوى والذى يخشى أن يرتوى فى نفس الوقت، تجرأت أن أراجع مسألة “عدم الأمان” هذه، واحتمال اتصالها بغريزة الجوع، ومن ثم بضلال “الرعب من الموت جوعا” لعل هذا أو ذاك أو كليهما يفسر لى بعض ما غَمُضَ من ظاهرة التكاثر الاغترابى، الذى يتميز به سلوك معظم أصحاب المال المتزايد طول الوقت على حساب حرمان الأفقر فالأفقر من الحد الأدنى مما يشبع نفس الغريزة.
كيف وصل الأمر بالبشر إلى هذا التناقض الصارخ المهدد لأقصى الطرفين؟
مراجعة
رحت أراجع تطور الغرائز على الوجه التالي:
الغرائز هى الأصل، حافظتْْ وتحافظ على الحياة (حتى قبل أن تتميز إلى غرائز نوعية محددة). ثم إنه حين اكتسب الإنسان الوعى ثم تزين بالعقل، لم يتنكر لغرائزه بشكل عام، وإن كان قد تعامل معها بشكل آخر، وبآليات أخرى. لا يصل نشاط غريزة ما -عادة- إلى الوعى البشرى إلا إذا لم يشبع. يتجلى هذا النشاط فى الوعى بشكل مباشر: الشعور بالجوع مثلا، كما قد تتجلى آثاره وبدائله بما يشير إلى كيف أن الغريزة قد تتحور، وتتخفى، أو تزاح، وتستبدل كما أنها قد تُشَوَّه وتنحرف…إلخ
ثم إن البعض يتصور أنه يمكنهم أن ينكروا بعض الغرائز مثلما ينكر بعض غلاة المتطهرين من الرهبان وغيرهم نشاط غريزة الجنس ربما من منطلق أخلاقى أو دينى. حتى حاول بعض هؤلاء المنكرين أن يقصروا وظيفتها على التناسل دون التواصل. حدث مثل ذلك وأكثر لغريزة العدوان حين أنكر بعض الاجتماعيين أن يكون العدوان غريزة أصلا، باعتبار أن الإنسان يمارس العدوان جملة وتفصيلا لظروف لاحقة مكتسبة، وهم بذلك ينكرون دور العدوان تاريخا فى الحفاظ على البقاء فضلا عن دوره المحتمل فى الإبداع [4] مثل هذا الإنكار نادرا ما ينجح بشكل عام.
إن ما يحدث أكثر فى نفس اتجاه اضطراب التعامل مع غرائزنا، وهو ما يخص هذا المقال عن الجوع وتجلياته المباشرة والمجازية، هو أن الغريزة قد تنفصل عن غايتها البسيطة الأولية، أى تفصل عن فعل إشباعها، فتنقطع دائرة “النداء فالاستجابة” فتظل الغريزة نشطة أبدا فى دائرة مفرغة، مما يترتب عنه ما أسميته “الوجود المثقوب” الذى لا يُملأ أبدا مهما وضع فيه (وهو ما يقابل التعبير الشائع: “شرب الماء المالح”):
… “يتلمظ بالداخل غول الأخذ،
فأنا جوعان مذ كنت،
بل إنى لم أوجد بعد.
…….
من فرط الجوع التهم الطفل الطفل،
فإذا ما أطلقتُ سعارى بعد فوات الوقت،
ملكنى الخوف عليكم،
فلقد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر دون شبع“
…..
”يا من تغرينى بحنان صادق فلتحذر،
…. إذ فى الداخل: وحشٌ سلبْى متحفز،
فى صورة طفل جوعان…”. [5] [6]
هذا القطع لدائرة “الاحتياج/الإشباع” يحدث فيترتب عليه مضاعفات مباشرة وصريحة مثلما يحدث من تكرار العلاقات الجنسية والعاطفية، دون أن تترك إشباعا يغنى عن مواصلة تكرارها اللحوح (ظاهرة الدونجوانية)، ومثلما يحدث بالنسبة لغريزة الجوع حين لا يوقفها الشبع أبدا، ومن ثم مضاعفات فرط البدانة ..إلخ .
وقد تمتد تجليات هذا القطع (بين النداء والإشباع) إلى معظم عمليات الأخذ والجمع للاحتواء بالداخل (الالتهام الاستحواذى).
يترتب على هذا القطع غير الطبيعى استثارة غريزة الخوف، وبالذات الخوف من الهلاك، ومن ثم يتحرك دافع البحث عن الأمان، الذى لا يتحقق أبدا، ما دامت الدائرة قد انقطعت.
يتجلى هذا السلوك فى أبلغ صوره فى مجالى جمع الثروة، والاستحواذ على السلطة، كما قد يظهر فى مجال الحب والشوفان وغير ذلك.
الفرض:
الفرض الذى أقدمه فى هذه الاطروحة هو أن ظاهرة التخزين التراكمى أوالتكاثر (التى تكمن وراء الرأسمالية المغتربة مثلا) يمكن أن تـفسر كالتالى:
1- إن ثم ضلالا لا شعوريا عند هؤلاء يهددهم “بالموت جوعا”.
2- يتبع ذلك رعب لا ينتهى من احتمال الهلاك إذا لم يواصل الإشباع بلا توقف.
3- يتم نتيجة لذلك الفصل بين غريزة الجوع وبين إشباعها، مما يجعل أى مكسب أو أى جمع أو تخزين لا يؤدى وظيفته الحقيقية لسد الحاجة، وبالتالى لا يقلل من الرعب الدائم خوفا من الهلاك
اغتراب مُهْلِكَّ هنا، وهلاكْ وارد هناك:
لو صح هذا الفرض الذى وضعناه لتفسير الخلل الذى يصيب غريزة الجوع بما هي، والذى يتجلى فى سلوك الالتهام والتخزين والتكاثر على المستوى الفردى، لو صح أن هذا الفصل بين الغريزة وإروائها لا يسمح بالتوقف للنظر فيما جُـمِعَ أو تَرَاكَمَ فلم يحقق الشبع أبدا، فإن وظيفة هذه الغريزة تخرج عن نطاق تاريخها لخدمة البقاء، بقاء الفرد أولا ثم بقاء النوع عامة، لتعمل بلا انقطاع بشكل مباشر وغير مباشر فى كل اتجاه، بلا جدوي، بل بمضاعفات متزايدة.
إن نتاج هذا السعار التخزينى المتمادى يتم على حساب حرمان إشباع نفس الغريزة (الجوع) بالحد الأدنى من احتياجاتها عند مجاميع أكثر فأكثر من البشر (عشرات الملايين المتزايدة) مما يترتب عليه ما نعرف من فقرٍ فمجاعةٍ فموتٍٍ الأصغر فالأصغر جوعا وهزالا.
الوعى الإنسانى بحركية الغرائز وتطورها:
إن التطور الطبيعى للغرائز يتم – أو ينبغى أن يتم – فى اتجاه معاكس تماما:
مع اكتساب الإنسان مستويات أرقى فأرقى من الوعي، ومع ارتقاء الغرائز وهى تتكامل مع بعضها، يختلف حضور الغرائز فى الوعى بما يترتب عليه اختلاف التعامل معها على مستوى أرقى كما يلى:
1- تتطور وظيفة بعض الغرائز حتى تتجاوز وظيفتها الأصلية دون إلغائها، فتصبح وظيفة كثير من الغرائز، إن لم يكن كلها، موجهة “لحفظ النوعية” التى تميز ما هو “إنسان” جنبا إلى جنب مع “حفظ بقاء النوع”. (هذا غير التسامى الفرويدي)
فى بحث سابق [7] للكاتب بيـّن كيف تطورت وظيفة الجنس من التناسل إلى التواصل، وفى بحث أسبق (4) وضع الكاتب فرضا لاحتمال الارتقاء بغريزة العدوان ذاتها (وليس على حسابها أو تساميا بها) إلى الإسهام فى حركية الإبداع.
2- تتكامل الغرائز مع بعضها البعض فيتوارى التناقض الظاهر تدريجيا وباطراد، فلا يعود العدوان بالضرورة ضد الجنس مثلا، (يظهر بعض ذلك فى تجليات المجاز فى الإبداع عامة، والشعر خاصة).
3- يتوسع مفهوم ونشاط ما هو غريزة حتى يمكن أن يتصف سلوك أرقى بأنه غريزة – وأن يعامل نفس المعاملة من حيث الوعى به، وآليات تحويره واحتمالات مضاعفات سوء استعماله .. (مثلا: الحديث عن غريزة النزوع إلى التناسق مع الوعى الكونى: غريزة الإيمان). [8]
4- يصبح الوعى بنشاط الغرائز جزءا من الوعى الإنسانى الأرقي، فلا يعود مجرد دراية ومعرفة، بل يصبح إشباعه تحريكا لحيويته لا إطفاء لنشاطه، إذْ يتجلى حضورا حركيا خلاقا بما هو فى ذاته (أنظر بعد)
الوعى بالجوع ويقين العطش:
الفرض المقدم فى هذه الأطروحة يقول بأن الوعى بالغرائز على هذا المستوى الأرقى المشار إليه فى نهاية الفقرة السابقة، هو بديل عن عقلنتها من ناحية، كما أنه يبدو وسيلة لاستبقاء حركيتها الأرقى التى قد تغنى عن ملاحقة الاقتصار على إروائها، ناهيك عن إطلاق سعارها إلى مالا نهاية (نتيجة لانفصالها السابق عن فعل إشباعها مما سبق الإشارة إليه).
فى دراسة نقدية لرواية إدوار الخراط “يقين العطش” [9] تناول الكاتب مناقشة هذا الاحتمال بالتفصيل حيث قام بوضع فروض متلاحقة عن “العطش” الذى تناولته الرواية باعتباره: “جوعا إلى العلاقة بالآخر كموضوع حقيقى” وليس مجرد ميكانزم ذاتى يصبح المحبوب من خلاله مجرد مجال لإسقاط احتياج المحب. وقد تم تناول هذا الفرض لتوضيح كيف أن “العطش إلى الآخر” (الممتد حتى موضوعية المطلق) هو دافع موجود “ليبقي” وليس فقط “ليرتوى”،
استشهد إدوار الخراط ابتداء فى تصدير روايته تلك بقول الجنيد … “أما من مات على العطش فهو أفضل منهم يقيناًً” (أفضل من رجال مشوا على الماء) قرأ الناقد، كاتب هذا المقال، مقولة الجنيد باعتبار أن من “مات على العطش هو من عاش بالعطش”.
فكيف يمكن أن نعيش بالجوع والعطش، بدلا من أن نخاف طول الوقت من الهلاك من فرط الحرمان من إشباع أى منهما؟ وبدلا من الوقوع فى دائرة مغلقة نتيجة لانفصال الإشباع عن الوعى وعن نشاط احتياج الغريزة ذاتها؟
مستويات الوعى بالغريزة:
بعد أن بينا كيف أن الغريزة تعمل لا شعوريا أساسا. فى الإنسان، نحدد من جديد ما يميز مستويات الوعي، بنشاط أى غريزة، فنفترض لذلك ثلاثة مستويات :
المستوى الأول: الشعور بإلحاحها طلبا لإروائها (مثلا: الشعور بالجوع طلبا للأكل)، أو تمهيدا لإرجاء إشباعها للفرصة المناسبة.
المستوى الثانى: الشعور بنشاطها الأعم غير المتعلق بإروائها لذاتها مما يترتب عليه احتمال عقلنتها أو إزاحتها (مجازا أو إبدالا أو كليهما) لتشمل الجوع إلى ما لا يؤكل مثل الجوع إلى الشوفان، أو الجوع إلى الحب، أو الجوع إلى الآخر، أو الجوع إلى المعرفة، أو الجوع إلى الحرية .إلخ
المستوى الثالث: الشعور بحركيتها الغامضة المتجددة إذ تشارك فى حركية غيرها من الغرائز بعد أن تتقارب معاً نحو التكامل، وهذا يوظّفَ للحيوية والإبداع ضمن الاشباع الذى لا يطفئ نشاط الغريزة فى الوعى أبداً.
الوعى بحركية الغريزة ليس إلحاحا لاشباعها:
هذا المستوى الأخير هو ما أريد التأكيد على وظيفته فى هذه الأطروحة
إن هذا النوع من الوعى بحركية الغريزة، غير الموظف مباشرة لتحقيق إشباعها، وفى نفس الوقت متجاوزا لعقلنتها، هو إعلان عن طور أرقى من التكامل البشرى حيث أنه يحقق كلا مما يلي:
1- إظهار كيف أن الغريزة عند البشر لا تنشط فقط لمجرد إشباعها بما هى (أى بما تعلن عن طلبه)
2- إن الوعى بحركية غريزةٍٍ ما، لا ينفصل عن الوعى بحركية غرائز أخرى تنشط معها، دون طلب الإرواء المباشر والفورى.
3- إن الوعى بنشاط الغريزة دون الإلزام بإروائها حالا، بالطريقة المختزلة، قد يحول دون آلية انفصالها عن إشباعها، (وهو ما أشرنا إلى أنه ما يكمن وراء كل من ضلال الخوف من الموت جوعا، وما يترتب عليه من سعار التكاثر الاغترابى).
4- إن احتواء نشاط الغرائز معا، يُنَشِّط التوجه الضام، فى حركية التكامل، فى اتجاه نهاية مفتوحة نحو المطلق.
5- إن مثل هذا التكامل قد يتناسب مع الفرض الخاص بأن النزوع إلى التناغم مع الكون الأعظم (راجع مقولة الجنيد عن “الموت على العطش”) هو غريزة تكاملية جيدة.
الخلاصة:
* إن قبول هذا الفرض يجعل تعاملنا مع غرائزنا أرقى وأكثر تناسبا مع مرحلة تطور الإنسان المأمولة، حيث لا يصبح الجنس مثلا- هو ممارسة مغتربة لذية فحسب أو مسألة معقلنة بديلة، بل يصبح الوعى بالجنس هو إعلان لتوجه نشاط الوعى البشرى نحو قبوله فى توجه إبداعى يسمح بممارسته محتويا ومتجاوزا معا كلا من التناسل واللذة والإبداع والتكامل.
* على نفس القياس يمكن تصور أن الجوع، إذا ما عومل على نفس المستوي، فإن ضلالات الخوف من الموت جوعا المصاحبة لعدم الأمان تقل بشكل أو بآخر مما يترتب عليه الحد من سعار التكاثر، ومن ثم فرص الإرواء لنفس الغريزة، لمن حرموا حتى من إروائها البدائى المتواضع.
* إن حل هذا النوع من الوجود المثقوب (شرب الماء المالح) نتيجة لفصل غريزة الجوع عن فعل إروائها، هو لصالح “المغترِب التكاثرى” (صاحب السلطة أو المال، الذى لايشبع) بقدر ما هو لصالح المحروم المهدد بالهلاك، نتيجة للحرمان الأولي.
* إن هذه النقلة لتوظيف الرقى بالغرائز من خلال الوعى الفائق بأبعاد حركيتها فى ذاتها، إذا ما تعمق سلوكيا لصالح النوع البشرى (الهالك اغترابا، والمهدد بالموت جوعا، معا) يمكن أن يصير مْنطَبَعا بيولوجيا مبرمَجَاً يعمل لحفظ النوع، ضد ما يهدده من تمادى كل من الاغتراب والمجاعة جميعا.
وبعـد
ربما كان ذلك فى عمق تصور الكاتب قبل أن يتجسد له هذا التنظير، حين تقمص أحد هؤلاء المتكاثرين (أو لعله كان هو) قائلا:
أخاف ألتهمْ،
حسبتُ أن الثقبَ سوف يلتئمْْ،
أزِاحُم الأعدادَ أنتقمْ،
تعلو جبال موج الرعب والنهمْ،
أغوص فى غيابة الظلام والعدم،
أدوس أشلاء الأجنهْ،
أرتطمْ.
تخثَّـر الوعىُ المغلفُ بالغباءِ والندمْ.
تمزَّق النغمْ.
“ثم لعله استطاع من رعب من هذه الرؤية الأسبق، التى كتبها منذ عشرين عاما، أن يتجاوزها إلى ما يناسب رحلته الطويلة، فكان هذا الفرض وهذا المقال”.
[1] – الترحال الثالث الفصل الثانى “الجوع” ص: 40-72
[2] – ديوان البيت الزجاجى والثعبان الحاجة والغربان ص 58
[3] – ديوان أغوار النفس (بالعامية) (1978) قصيدة ‘الترعة سابت فى الغيطان’ ص130
[4] – الإبداع والعدوان (الإنسان والتطور) عدد يوليو ص: 49-80 (1980)
[5] – ديوان سر اللعبة (1978) جلد بالمقلوب ص60
[6] – دراسة فى علم السيكوباثولوجى (1979) ص299 – 306
[7] – الوظيفة الجنسية: من التكاثر إلى التواصل (كتاب الثقافة العلمية) ص: 105- 130
[8] – الأسس البيولوجية للدين والإيمان (قراءة فى الفطرة البشرية) محاضرة ألقيت فى المجلس الأعلى للثقافة يوم 18/5/2004
[9] – استحالة الممكن وإمكانية المستحيل، يقين العطش لإدوارد الخراط. دراسة قدم الكاتب موجزها فى الجمعية المصرية للنقد الأدبى سنة 1996.