نشرت فى روز اليوسف
26-8-2005
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
استهلال ثان:
فى محاولة التعرف علينا، وكما تعهدنا فى العدد الماضى، سوف نمضى نواصل محاولة الكشف المعرفى من خلال قراءة نقديه لنصوص الحياة حيثما وجدت، وكيفما تجلّت.
فى هذا العدد سوف تكون مصادرنا أساساً من نص أدبى، (أصداء السيرة الذاتية. محفوظ) ثم نص بشرى (حالة مريض وأحواله) مع إشارة محدودة إلى بداية التعرف على كيفية قراءة النص العلمى.
وفى انتظار نصوص القراء، للنقد والحوار، وليس لمجرد الرد والنصائح، نتعهد بأن نرجع إلى التراث أحياناً، وإلى الوعى الشعبى الآنى كما يجرى حولنا حالا، خاصة بين الشباب الثائر، والشباب الضائع أيضا، وغيرهم.
أولا: قراءة فى النص الأدبى
التفسير الأدبى للنفس
الطفل يتعرف على الموت
حزمة المشاعر وحركية الوجدان
من أصداء السيرة الذاتية: نجيب محفوظ
النص الفقرة2:
رثاء
كانت أول زيارة للموت عندنا لدى وفاة جدتى . كان الموت مازال جديدا، لا عهد لى به إلا عابرا فى الطريق، وكنت أعلم بالمأثور من الكلام أنه حتم لا مفر منه، أما عن شعورى الحقيقى فكان يراه بعيدا بعد السماء عن الأرض، هكذا انتزعنى النحيب من طمأنينتى فأدركت أنه تسلل فى غفلة منا إلى تلك الحجرة التى حكت لى أجمل الحكايات. ورأيتنى صغيرا كما رأيته عملاقا، وترددت أنفاسه فى جميع الحجرات فكل شخص تذكّره وكل شخص تحدث عنه بما قسم. وضقت بالمطاردة فلذت بحجرتىلأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء. وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء وهمست بحنان: لا تبق وحدك.
واندلعتْ فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف، متعطشة للجنون، وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف.
مقدمة القراءة
باكرا باكرا، وما زال طفلنا الشيخ ينصت إلى أصداء طفولته فيعيد إبداعها ليحكيها، كما فعل لاحقا فى مادة أحلامه، وبعد الفقرة الأولى من الأصداء التى حكى فيها عن الطفل قبل السابعة، وهو يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضى”. بعد هذه الإلماحة الهادئة فى الففقرة الأولى لكآبة الأطفال الشقية، ينقلنا طفل محفوظ فى هذه الفقرة الثانية مباشرة، وفجأة، لنواجه معه حزمة من المشاعر لنتعلم منها ماهية العواطف عند الأطفال كما ينبغى، كما هى .
نحن – الكبار- نُسقط على الأطفال مشاعرنا نحن، ونحبسهم فى خيالنا الضيق، متصورين أن هذه هى مشاعرهم وأن تلك هى حدود خيالهم.
هيا نستلهم مننص محفوظىّ غور ما هو طفل، وما هو نحن، ونحن نقرأ هذا الصدى:
القراءة
يضعنا محفوظ فجأة فى مواجهة الموت ونحن نستمع إلى أصداء وقع الفقد. الطفل يفقد جدته، فننتبه – أيضا من البداية – إلى دلالات نقلات الذاكرة الخاصة، من طفل طائر إلى شاطئ السعادة نتيجة لإطلاق حريته إثر مظاهرة ثورية عابرة (الفقرة الأولى)، إلى جدة تموت دون توقع أو تصور أو استعداد من حفيدها. لكنه ليس الفقد الذى بعده العدم، بل هو الموت، الوجه الآخر للوجود الذى يعطى للحياة معنى، هو الموت الذى تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان، كما علمنا محفوظ فى الحرافيش وغيرها: إن الوعى بالموت هو حافز الحياة، وأن أوهام الخلود على هذه الأرض هى الموت الحقيقى. الموت هنا، وفى معظم الأصداء، هو كيان حاضرا ممتلئ حركىّ.
محفوظ يعامل الموت هنا باعتباره كائنا حيا لا عهد له به إلا عابرا فى الطريق، ثم هو يحكى عن الموت إذ تسلل، ثم وهو يصيرعملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات، وفجأة ينقلب الموت شبحا يطارد الطفل شخصيا، فيجرى أمامه ليلتقى بالحياة، الجميلة – ذات الضفيرة. هذه الوصلة بين الموت والحياة هى لعبة نجيب محفوظ المفضلة.
يتبين لنا هنا-أيضا- الخيط الرفيع الذى لمحناه من البداية وهو الذى يربط بين الداخل والخارج، فإذا كان الدعاء للثورة (المظاهرات) التى أعفت طفلنا من المدرسة وارد فى الفقرة الأولى، فإن الثورة المباغته التى اندلعت فى باطنه هنا كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فَـقْـدُُُ جدته، وقد جاءت هذه الحركة (لاحظ الصفات): مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون. أى طفولة حية هذه التى يسترجعها شيخنا بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تــغـلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا (ولا يمنع أن تشتم فيها رائحة جنسية دون أن يكون كذلك كما يفهمه العامة) لتنتهى الفقرة بالالتحام بالجميلة (طفل وطفلة)، وبدلا من أن نتصور أنها لذة النجاة بسبب الهرب من الشعور بالفقد، بالموت، نفاجأ بأن طفلنا جذب الجميلة إليه ولم يرتم فى حضنها خوفا من الموت المطارِد، ومع أنه هو الذى جذبها وهو فى ثورته المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون، إلا أن الجذب كان بكل ما يموج به من حزن وخوف.
حين يتذكر الشيخ (أىْ تبدع ذاكرته) هذا المزيج الجميل الذى يجمع فيه تداخل العواطف البشرية هكذا فى نسق متفاعل يرفض الاستقطاب والاختزال، نعرف أننا أمام أصداء تتردد أكثر منها أحداث تحكى مجزأه، أو ترمز إلى مفاهيم محددة مسبقا. محفوظ يدعونا أن نعامل اللغة بطريقة متجددة، ربما هى أقرب إلى الطريقة التى نقرأ بها الشعر.
الثورة التى ذكرت فى الفقرة الأولى، ثورة المظاهرات الباعثة للحنين بالفوضى (فالأجازة) غير هذه الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطش للجنون والتى تجذب وتنجذب إلى “الآخر” بزخم الحيوية الطفلية التى لا تستبعد رائحة الجنس حيث الصدر يمتلئ بكل ما يموج فيه من حزن وخوف، حزمة من المشاعر “معا” دالة على عمق الوعى بحركية الوجدان.
هل نذكر فى عدد الجمعة الماضى كيف انتهى حلم محفوظ والمصلوب يحكى سبب صلبه نفسه؟ انتهى الحلم إلى التنبيه على تأصيل الكرامة لدى البشر ، ومن ثم تعقيب السائل أو السائلين أنه “وغلبنا الحزن والصمت“.
يمكن أن نراجع حضور لفظ الحزن هنا متفجرا من تلك الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، وكيف تواكب الحزن مع الخوف، فى حين تواكب الحزن هناك مع الصمت فى نهاية الحلم .
هل يصح، ونحن نتعلم من هذا الحدس المحفوظى المكثف، أن نستسلم لبعض الأطباء وهم يختزلون الحزن إلى ذلك الأسى الهامد دون غيره؟ نشكرهم إذْ أطلقوا على الحزن المرضى لفظ الاكتئاب دون الحزن، حتى يتركوا لنا زخم الحزن الجميل لنقرنه مرة بالصمت، ومرة بالخوف نتاجا للثورة المتسمة بالعنف المتعطشه للجنون. (لاحظ تعبير: المتعطشة للجنون).
ثم: ألا ينبهنا هذا الحشد من الوجدانات المتضفرة، المتفجرة من طفل جميل يواجه الموت بالحياة، ألا ينبهنا إلى كيف يختزل أهل العلوم النفسية، ومن ورائهم العامة، عواطف البشر إلى صفات مفهومية نقية منفصلة عن بعضها البعض أو مضادة لبعضها البعض، أو مسجونة فى لفظ يستحيل أن يحيط بنبضها وجيشانها، مهما بلغ من دقة وحبكة؟.
إن مراجعة مفهوم دور العواطف واعتمالها Processing فى إثراء الوجود البشرى، وإسهامها فى النشاط المعرفى، جنبا إلا جنب مع دور الجسد كأداة للمعرفة أيضا، تتم وتتواصل بشكل رائع متلاحق يجرى على قدم وساق فى أكثر من مجال معرفى/ علمى/ إبداعىّ عبر العالم.
هى دعوة للقارئ الكريم ألا يطمئن كثيرا وهو يكتفى بإطلاق ألفاظ تعبر عن خوفه أو حبه أو حزنه، لعله قد عرف مما تقدم يعرف أن المسألة أعمق أو أرسخ وأحيانا أجمل – مما قال.
ثانيا: قراءة فى النص البشرى (مريض)
موت الموت
(من حالة مرضية مسجلة فى لقاءات متتالية سنة 2005)
هو رجل فى منتصف العمر(40 سنة)، كان يعمل نادلا (جرسون) فى فنادق الدرجة الأولى، فى مصر وخارجها، أحضرته أخته للاستشارة والعلاج .
من نص ما قال عند الحضور:
“أنا مش عيان، أهلى مش مستحملنى، أنا بعيد عنهم وماباتكلمشى مع حد، قاعد فى الأوضه قافل على نَفسى، نِفسى أنزل للشغل أو أمارس حياتى تانى، أنا كنت با شتغل كويس وباكسب فلوس كثيرة بس الجواز ضيع كل حاجة. نومى كله قلق، ماليش نفس، ماليس نفس للأكل، مش عايز آكل معاهم، وحاسس إن دول مش أهلى، وأنا اتأكدت إن دول مش أهلى، بصيت فى بطاقتى ولقيت فصايل الدم مختلفة، أنا مش إبنهم. أنا رئيس الجمهورية، مش عارف ازاى.
وقال أيضا:
أمى طول عمرها بعيد عنى، مهتمة بالطبيخ وشغل البيت وخلاص، مالهاش دعوة بيّـا، بتقعد مع اخواتى أكتر منى، بتتكلم معاهم، بتديهم فلوس وانا لأه، أنا متأكد ‘إنها مش أمى، إن دول مش أهلى، بصيت فى البطايق، فى بطاقتى، ولقيت فصايل الدم مختلفة، أنا مش ابنهم.
ثم قال كذلك:
أنا لما لقيت نفسى منسِى رحت مْـنسّى نفسى.
كما قال
“الموت مات، مفيش موت، مفيش حاجة إسمها موت”.
ومن نص أقوال أخته “
“هو تعبان من 12 سنه إنعزل وبقى يقعد لوحده فى الأوضة ويقفل على نفسه لا يكلم حد ولا يروح الشغل. بقى يهمل فى نظافته ومابيستحماش إلا بالضغط، من حوالى 8 سنين بدأ يعمل تصرفات غريبة، والحكاية دى زادت عليه قوى من سنة يقطع قميصه، ويلبس الياقه بس، بدأ يعمل حركة بإيده يجيبها على دقنه وبعدها على صدره، ساعات يتعصب علينا ويقولنا أنا الباشا وأنا الريس وأنا صاحب القرار، من شهر بدأ يقف ويقلع ويلبس الشبشب كذا مرة حوالى ربع ساعة ويضحك مع نفسه من غير سبب.
لمحات موجزة من تاريخ حياته:
هو من أسرة من المستوى المتوسط الأدنى، أو المستوى الأدنى ، الثانى من سبعة إخوة وأخوات. لا يوجد فى الأسرة تاريخ إيجابى للمرض النفسى، الوالد بعيد منشغل بنفسه، والأم عواطفها فاترة نحوه بالذات، أو هو استقبلها كذلك، كما ذكرنا سابقا.
تخرج من معهد فندقة متوسط، وعمل أثناء الأجازات الصيفية منذ كان طالبا، كان مريضنا ناجحا فى دراسته جدا، كما كان موفقا محبوبا فى عمله حتى مرض، وقد كان يتقاضى أجرا مجزيا هنا، وفى الخارج أكثر (السعودية).
فى سن 21 خطب جارة له، لكن الخطوبة فسخت لأسباب مادية، ثم عاد فى سن 26 فخطب جارة أخرى، ثم تزوجها فى إحدى إجازاته من عمله فى السعودية ومكث معها ثلاثة أسابيع قبل أن يسافر إلى عمله. قبل سفره مباشرة أخبروه باحتمال أن زوجته حامل، وقد رجح ذلك باختبار للحمل، لكنه بعد سفره بأسابيع وصله من أهله نبأ أن الحمل ثبت أنه حمل كاذب، وأن الاختبار الأول لم يكن دقيقا، وأن الزوجة تركت بيت أهله إلى أهلها طالبة الطلاق، وتم الطلاق بترتيب ما .
لكنه حين عودته فى الأجازةالتالية عاد حاملا هدايا لزوجته وملابس ولعبا لابنه المزعوم.
وفورا:بدأ المرض بعد عودته بالصورة السالفة الذكر، وظل طول تلك السنين.
وقد عولج المريض أثناء هذه المدة أكثر من مرة بالعقاقير والجلسات، واختفت الأعراض، لكنه لم ينتظم على العقاقير أو المتابعة، ولم يرجع إلى عمله فكان ينتكس باستمرار، وما زال بعد التحسن المحدود لا يواظب على المتابعة حتى تاريخه.
القراءة
فى حدود القراءة الطبية التقليدية المألوفة يركز معظم الأطباء أساسا، وأحيانا تماما، على الوصول إلى التشخيص ابتداء. التشخيص ليس هدفا فى ذاته، هو مسألة تصنيفية تنفع فى الإداريات والإحصاءات ولشركات التأمين وأمام المحاكم، لكن تظل الحالة هى الحالة سواء شخصت كذا أو كيت. بينى و بينك: هذه الحالة بالذات سوف تأخذ نفس العقاقير تقريبا، مهما تعددت احتمالات التشخيص. (لن أذكر اسما محددا للتشخيص الأرجح، أولا: لقلة المعلومات المعروضة، وثانيا: للتأكيد على أن التشخيص لا يأتى فى المقام الأول، لأن العقاقير واحد تقريبا مع كافة التشخيصات المحتلمة كما ذكرنا).
القراءة الثانية: الأكثر جاذبية مع أنها بنفس التسطيح والمباشرة هى ما يمكن أن نسميه القراءة المسلسلاتية، نسبة إلى مسلسلات التليفزيون، وهى قراءة تبريرية تأويلية عادة. وهى تركز على البحث عن الأسباب والتفسير التأويلى، وهى تستلهم بسطحية أو اجتهاد، مفاهيم ومصطلحات التحليل النفسى عادة، وهات يا عقد، وهات يا صعبانية، وهات يا تبرير، وربما احتد حماس هذه القراءة حتى تعتبر صدمة فسخ الخطوبة بمثابة الجرح الغائر الذى مهد لصدمة الطلاق الذى نتج عنه ما نتج. مثل المسلسلات الخائبة، هذه القراءة تريح الناس عامة، لانهم يصبحون مشاهدين على مسافة، المشاهد عادة يطمئن فى استسلام إن هو استطاع أن يربط الأحداث ربطا سببيا خطيا مباشرا بشكل أو بآخر.
إذا كان التشخيص يأتى فى مرتبة متأخرة فى الأهمية، وإذا كان البحث عن سبب مباشر للحالة، يختزلها إلى مسلسل فاتر أو حتى مثير، فما هو المطلوب للغوص أكثر فى هذه الحالة فى حدود ما اقتطفناه منها ونحن نقرأها بمنهج آخر، ليس بديلا بالضرورة.
المنهج النقدى (نقترح له اسم: النقد الإكلينيكى)
نحاول من خلال هذا المنهج، أن نقترب، ونتقمص هذا الإنسان الذى يعانى، ونحن نركز فى محاولة فهم معنى الأحداث والمظاهر المرضية، دون التوقف عند أسبابها، نحاول ألا نكتفى بأن نتفرج عليها من الخارج، وألا يكون كل همنا هو الوصول إلى تشخيص ثم بذل نصائح وكتابة وصفة، نحاول ألا نمصمص الشفاه أو نصدر الأحكام الفوقية، أو نرفع حواجبنا دهشة، وإنما نبحث عن ما يقابل ما نقرأ فى الحالة ونراه فى داخلنا، لعلنا نتعلم منها، فى نفس الوقت الذى نحترمها ونساعدها إذا ما كنا فى موقع هذه المسئولية.
نعرض القراءة النقدية لهذا النص البشرى على الوجه التالى:
نبدأ بوضع فرض يفسر أغلب (وليس كل) معطيات الحالة، هذا الفرض يتيح لنا عادة أن نفهم “ماذا يقول المريض بمرضه”، أكثر من تركيزنا على ” سبب المرض كما يفعل أغلب الناس والأطباء والمعالجين. إن السبب عادة هو أمر فى الماضى، ومهما استرجعناه، فهو لا يزول بمجرد التفريغ والحكى كما تصوره المسلسلات عادة.
نضع الفرض (أكرر “الفرض”) الذى يمكن أن نصل من خلاله إلى “معنى الأعراض”، لكننا لانتمسك به كما هو، لأننا نروح نختبره بتطببيقه، وهو يتعدل باستمرار من خلال تحقيقه، أو مراجعته، أو مزيد من المعلومات.
الفرض:
هذا الرجل الطيب ولد كهلا، ثم مَرِضَ حين تذكر وفكّر فى إحياء طفله المحنط داخله، لم يعش أية طفولته بالمعنى التلقائى البسيط، لم تهتم به أمه مثل إخوته، أو هذا ما وصله . انطوى على نفسه من ناحية، ثم عوض ذلك باجتهاده تلميذا، ومثابرته فى عمله من سن مبكرة (حتى فى الإجازة الصيفية وهو تلميذ) ، وقد نجح دون توقف. كان تلميذا ناجحا، وجرسونا شاطرا، وخلاص. لم تصله رسالة أن أحدا رآه ، أن أحداً أقر وجوده، أن أحداً وقـّع على حقه فى طفولته وتلقائيته، وحين عمل، اجتهد، شقى، كسب ما يسمح له أن يتقدم للخطوبة لعل وعسى، فشلْت المحاولة وأحبط، لكن الحكاية فاتت على خير (ظاهر) ، ثم عاد و خطب وتزوج، وفجأة أشرقت طفولته له فى حمل زوجته بعد أيام من الزواج. الفرض الذى نضعه هنا يقول (من عمق وعىٍ غير ظاهر):
“إن مشروع الطفل فى رحم زوجته لم يكن ابنه القادم، بل كان طفله من داخله، طفله الذى أجهض من قديم داخله فظل كامنا محنطا حتى تحرك فى رحم زوجته”.
فى مجتمعنا بوجه خاص، كثيرا ما نتعامل مع أطفالنا الذين نلدهم باعتبارهم أطفالنا الداخليين نحن، أطفالنا داخلنا، هذا فى حد ذاته إلغاء لوجود أطفالنا الحقيقيين خارجنا، وهو استعمال بشع لهم فى نفس الوقت.كما أننا نشوه أنفسنا بدورنا حين نُحْرَم بذلك من فرصة تكاملنا مع طفلنا الداخلى وغيره من ذوات متجادلة، المهم ، حين وصل صاحبنا نبأ أن الحمل كان كاذبا، وأن زوجته هجرت البيت وطلبت الطلاق، لم يقبل هذا الواقع المفاجئ المر، لم يستطع أن يحترم إلا بعضه فطلق زوجته واقعا، لكنه – فى خياله – لم يكن قد طلق إلا زوجته ولم يطلق “أم طفله”، وكأنه شقها اثنتين، فأحضر لأم طفله الخيالية التى مازالت على ذمته، أحضر لها الهدايا عند عودته، كما أحضر ملابس ولعب طفله المزعوم، وابتدأ المرض ليعلن به ومن خلاله:
(1) إن أهله، وبالذات أمه ليست أمه، الأم لا تكون أما إلا إذا امتد الحبل السرى العاطفى بينها وبين وليدها بعد الولادة، هذا التواصل العاطفى يقوم بالدور الذى كان يقوم به الحبل السرى الطبيعى داخل الرحم. الاعتراف يأتى أولا من الأم حين تعترف بوليدها كيانا منفصلا عنها، وفى نفس الوقت تستمر تواصل عطاءها له وحمايتها إياه حتى تحقق الولادة النفسية التى قد لا تتم فى بلدنا إلا بعد عشرات السنين، وربما لا تتم أبدا. حين يفتقد الطفل فالرجل هذا الحبل السرى، يعلن، حالة كونه مريضا، أن أمه ليست أمه.
(2) كسرت صلابة الرجل، لم ينفعه تفوق الدراسة، ولا نجاح العمل، ولا جمع النقود، عوّض كل ذلك بشطح مرضّى متماد حتى عين نفسه أنه “صاحب القرار” قرار خلق عالمه الخاص والاحتفاظ بطفل لم يوجد أبدا، وبما أن صاحب القرار عندنا واحد عادة وهو الرئيس، فقد عين نفسه رئيسا للجمهورية (هذا أضمن حل، من يستطيع أن ينتزع طفل رئيس الجمهورية) “أنا رئيس الجمهورية” ، وبأمانة شديدة يضيف أنه “ومش عارف ازاى”.
(3) نأتى إلى ما يستحق وقفة أعمق وأكثر دلالة، وقفة تربط ما بين الحدس الذى وصف حالة جلد النفس بالمرض أو بالحزن أو بالعزوف عن الحياة، جلد الذات انتقاما من جلد الآخرين لها، شىء أشبه بالتقمص بالمعتدى، نقرأ ذلك فى قول صاحبنا:
1- “أنا لما لقيت نفسى مّنسى رحت منسّى نفسى”.
فى نص شعرى سابق (سر اللعبة 1972) جاء مثل هذا المعنى تحديدا
فكما اغتلتم أمسى .. ألغيتُ غدى
يا سادة:
ماذا يتبقى إن فُصِلتْ روحى عن جسدى الثائر؟
يا سادة:
لم تختبئون وراء اللفظ الداعر؟
إذ لو صدق الزعم
فلماذا أترك هملا؟
أين الحب المزعوم إذا لم ينقذ روحى طفلا؟
افتقر مريضنا الحب بدءا من ضمور الحبل السرى الذى يصل بينه وبين أمه، ثم بينه وبين أهله، فلم تنقذ روحه طفلا، وحين بعث هذا الطفل الداخلى من تابوته ليتحرك فى رحم زوجته، ثبت أنه وهم (حمل كاذب)، لكن كان الأوان قد فات، فتمسك الخيال المريض بالطفل المزعوم، ثم تصادم الخيال مع الواقع، فكانت الكسرة، فالتفسخ ، فتوقف الزمن.
2- المقتطف الأصعب هو ما نختم به قراءة هذه الحالة ، وهو المقتطف الذى يقول فيه صاحبنا:
“الموت مات، مفيش موت، مفيش حاجة إسمها موت“.
من السهل أن يتعجب الشخص العادى من هذا القول ويعتبره تخريقا، ومن المألوف أن يسارع الطبيب بتسميته باسم عرض ما، لكن حين نحترم عمق هذا القول يمكن أن نقرأ فيه عدة أبعاد:
1- فى قراءتنا لصدى فقرة “رثاء” من سيرة أصداء محفوظ حالا قرأنا تعبيراً يقول “الموت الذى تتفجر منه الحياة فى معظم الأحيان” ، هذا بعض ما علمنا إياه محفوظ فى الحرافيش بالذات نكرر: إن الوعى بالموت – على أى مستوى من مستويات الشعور وليس بالضرورة فى بؤرة الشعور الواعى- هو الدافع المحدد لزخم دفق الحياة المتجدد، علّمنا محفوظ أيضا فى الحرافيش أن أوهام الخلود على هذه الأرض هى الموت الحقيقى (خاصة شخصية جلال صاحب الجلالة). حين يقول مريضنا هنا أن الموت مات ، نقرأ قوله هذا انطلاقا من قراءتنا لمحفوظ وليس لكتب الطب التقليدى أو كتب الفسيولوجيا، فهو إذ يعلن أن الموت مات إنما يعلن أنه أصبح خالد لا يسرى عليه موت (وهو الموت المحفوظى الحقيقى) موت، أى أنه يعلن أنه بموت الموت، تلاشت الحياة.
2- هذا القول نفسه يؤكد أن ابنه الزعوم الذى أجهض من خلال إعلان حمل كاذب، ما زال حيا فى خياله، لأنه: “مفيش حاجة إسمها موت”.
3- نفس القول يمكن أن نقرأه ونحن نبحث عما حدث لبعد الزمن عند صاحبنا. فى مثل هذا المرض، تتوقف حركية الزمن تماما، يتجمد الوجود عند لحظة بذاتها ليس لها ما بعدها. وهذا يفسر جزئيا طول وقفته معاقا لا يعمل، وإزمان مرضه، ومعاودة نكساته طوال هذه السنوات.
4- نرجع إلى الوصلة بين الأدب والشعر والمرض النفسى، فأقتطف شعرا من ديوان آخر ديوان “البيت الزجاجى والثعبان”، كتب سنة 1980 لعله يواكب هذه الرؤية اللاحقة لما هو موت، كما عبر عنه صاحبنا سنة 2005.
ونعَـى الناعى
أن الإنسان الميت مات
من زمنٍ مات
والدفنة سرا
خلف ظهور القتله
لا يحمل نعش الميت قاتلُهُ
-2-
الميت مات
لكن شهادة دفنه
لم تختم بعد
إذْ يقضى العصر الملتاث
أن التوقيع يتم بخط الميت
……
-3-
وبرغم الفحص وتأكيد المشرحة الثلاجة
- غرفة نوم العذراء المومس-
يملأ وجه الميت أحشاء الحارة
يعلن وسط الجمع الحاشد:
لن أتركها إلا حيا.
………..
هل فى تلك الصورة، بجهد ناقد، ما يوازى قول صاحبنا أن “الموت مات”؟
ثالثا: نحو قراءة فى النص العلمى
لا نتصور أن الخطأ والخلط واردان فقط عند القارئ العادى وهو يقرأ بعض الأخبار ، أو المعلومات، أو الاكتشافات العلمية فى الصحف اليومية. كثير من المختصين يخطئون أيضا حين يستسلمون للحروف المطبوعة، حتى فى أحكم المجلات العلمية إذا هم قرأوها كنصًّ مقدس، دون أن ينتبهوا إلى ضرورة القراءة النقدية.
كما حاولنا أن نتعرف على الإنسان من نص أدبى، ثم رحنا نتعرف على بعض ما هيته من نص بشرى تمزق وتوقف (المريض)، سنحاول أن نعلم ونتعلم أن نقرأ النص العلمى نفسه قراءة نقدية.
لكن المساحة لا تسمح هذا العدد، فليكن مدخلا يعلن حركية التحديث فى العلوم النفسية، كما يشير إلى سرعة إيقاعها، لعل هذا وذاك يؤكد التزامنا فى هذه الصفحة بتعدد النصوص حتى تتكامل.
النص من كتاب صدر سنة 2001 وهو كتاب يتناول تجليا آخر من تجليات علم النفس تحت إسم “علم النفس الثقافى للذات الإنسانية The Cultural Psychology of Self لكن ثمة عنوان فرعى ثان يضيف أنه حول: المكان، والأخلاقيات والفن فى عالم الإنسان”.
يتصور أغلب الناس أن العلوم النفسية عامة، وعلم النفس خاصة، هى قاصرة على الشائع عن التحليل النفسى، وأحيانا حول الطب النفسى، وبرغم تزايد الاهتمام بما يسمى علم النفس الاجتماعى وعلم النفس السلوكى، وعلم النفس الإنسانى، إلا أن الأمر لم يقتصر على ذلك، فالأحدث وربما الأكثر إحاطة هو علم النفس المعرفى، وهو تنوّع يحتاج إلى إطلالات مستقلة. كل ذلك يحتاح أن يتعرف عليه القارئ العادى، ليس باعتباره معلومات رشيقة، وإنما ضمن دعوة لتوسيع الوعى وتحريكه، بدلا من التوقف عند التبرير التحليلى المسلسلاتى، أو التطبيب الميكنى.
النص الذى سنشير إلى بعضه آملين إلى أن نعود للاقتطاف منه فى أسابيع قادمة هو تعريف شديد الإيجاز بهذا الاختراق الجديد بما يسمى ” علم النفس الثقافى”.
علم النفسى الثقافى هذا يؤكد على أن الذات لا توجد إلا وهى متموضعة فى المكان، ثم انطلاقا من “مكانها فى العالم” تكتشف ذاتها فى حركتها مع ما حولها. إن علاقتنا بالوجود “فى المكان”، وبالوعى بالزمن بما هو ، وبكونه (الزمن) مكان مرن جدّا (أيضا)، هى علاقة ضعيفة للغاية بعد أن طغت العقلنة على المعرفة، وطغت المعلومات المرموزة على الخبرة المعاشة .
نقتطف من مقدمة الكتاب ما يلى:
“أن تعرف من أنت، وكيف أنت، هو الناتج الطبيعى من معرفتك “أين أنت”، إن هذا الكتاب هو سلسلسة من الانطباعات حول تيمة “الذاتية” فى علاقتها بـ”الموقع”، ومن ثم طريق التواجد والانتقال فى داخل عوالم البشر.
إن كلمة “موقع” نادرا ما تظهر فى فهارس كتب علم النفس مع أنها تبدو لى قادرة تماما على تنظيم كثير من التفكير المعاصر “الفلسفى والنفسى الجمالى”
(انتهى المقتطف – مترجما – بحروفه)
قراءة محدودة
فكرة “الهنا والآن” أصبحت أساسية فى معظم الممارسات العلاجية النفسية وخاصة فى كافة أنواع العلاج النفسى الجمعى، وإلى حد ما العلاج السلوكى المعرفى. إننا نفهم بشكل عملى أثناء الممارسة ما نعنيه بالتركيز على “الآن” (أنظر الفقرة السابقة: فى نقد النص البشرى المريض)، لكننا لا نحيط بشكل واضح بفكرة “الهنا”. هذا المدخل من علم النفس الثقافى الذى يبدأ من “الذات فى المكان” يكمل الصورة بما يدعونا إلى أن نعود، إليه لاحقا (لضيق المساحة هذه المرة).
إلى أن نفعل، ندعو من شاء من القراء أن ينظر إلى نفسه وفى نفسه وسط ما يحيط به فعلا – من ناس وأشياء- الآن حالا.
ثم يعود ينظر إلى نفسه وفى نفسه – كما اعتاد – منفصلا عن كل ما حوله إلا من تبادل ألفاظ تصل أو لا تصل.
ثم نلتقى تفصيلا، فى أسبوع لاحق، يا حبذا من خلال نصوص حية.