الوفد: 1/8/2002
التفسير السياسى لظاهرة الحجاب
لا أظن أن انتشار ظاهرة الحجاب بهذا الإجماع مؤخرا هو دليل على تحسن حالة التدين فى مصر، خاصة بين الشباب (هل لاحظت أن أم إحدى المتفوقات فى الثانوية العامة كانت سافرة، وابنتها الفاضلة محجبة؟). لا أحد يرفض، أو يتحفظ على نزوع جماعى إلى التمسك بالاحتشام بين الصغيرات. لكن هل الأمر هو كذلك تماما، أو: فقط؟
هذا المقال لا ينقاش شرعية أو أبدية أو نصية التوصية برداء معين للمسلمات خاصة، إن لهذا الأمر جذورا ممتدة إلى ما قبل الإسلام بمراحل، ثم إن الاختلاف حوله، من حيث تفسير النص، أو تعسف التطبيق، هو خارج عن محور المقال.
بين ألعاب السياسة وقهر السلطة
أخشى ما أخشاه أن يضيع جوهر الإسلام الحنيف الذى أنزله الله على عبده محمد عليه الصلاة والسلام بين ألعاب السياسة، وقهر السلطة الدينية، والتربص الأمريكى / الإسرائيلي. لقد تصدى المستشار أ. محمد سعيد العشماوى لتفسير ظاهرة الحجاب تفسيرا سياسيا يقول:’..الحجاب – بالمفهوم الدارج حالا- (هو) شعار سياسى وليس فرضا دينيا ورد على سبيل الجزم والقطع واليقين والدوام، فى القرآن الكريم أو فى السنة النبوية، لقد فرضته جماعات الإسلام السياسي- أصلا- لتميز بعض السيدات والفتيات العضويات تحت لوائهم عن غيرهن من المسلمات وغير المسلمات،…’ .
كما نشر – مؤخرا- المبدع المسلم المؤمن الشاب (!!) ‘جمال البنا’، ما يؤيد ذلك. لكننى أتصور أن المسألة تجاوزت كل هذه المناقشات بشكل يجعل الدخول فى تفاصيلها هو من باب الاغتراب الذى نـجر إليه، فنتحمس له، حتى نجد أنفسنا بعيدا عن بؤرة مشاكلنا، ‘وجوهر وجودنا. بل وعن فهم أعمق لظاهرة اجتماعية وسياسية، وإن تكلمت بلغة دينية’.
المعنى السياسى للحجاب
سواء كان الحجاب ساترا أم لباس رأس، سواء كان الخمار موجودا قبل الإسلام وليس له علاقة بنص شرعى وأن كل المطلوب هو أن يرخى على الصدر لا أن يسقط إلى الظهر فيظهر الصدر، وسواء كانت الزينة الظاهرة المسموح بها’.. ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها’ هى كذا أو كيت، فإن الحجاب نفسه ليس دليلا على عودة إلى الدين الحنيف كما أنزله الله إكمالا لرسالاته، لتعميرالأرض، وتحرير الإنسان. الإسلام أكبر من ذلك حتى لو تضمنه، وما يسمى الإسلام السياسى استغل ذلك، ولم يدع إليه. وهو ليس مسئولا عنه.
جوهر الإيمان
إن ما ينبغى الاهتمام به ، حتى لا نفقد ثروتنا الإيمانية مثلما فقدنا ثروتنا الاقتصادية والتعليمية، هو أن نحسن النظر لموقع جوهر الإسلام وما آل إليه من اختزال، واستعمال، وخلط، وتشويه. إن المطروح على الساحة الآن مما يطلق عليه ‘إسلام’ هو مختلف ومتنوع باختلاف التاريخ، والجغرافيا، والثقافة، والممارسة. فيما يلى موجز لذلك فيه بعض ما عرضته فى موقع آخر، ورغم إيجازه ، فقد يكون لازما لتوضيح ما أريد من تحديد موقع ظاهرة الحجاب وعلاقتها بأى إسلام نتكلم عنه، وبالسياسة أيضا.
أولا: الإسلام التوحيد الحرية، هو الإسلام بلا وصاية لسلطة دينية رسمية، أو سلطة تفسيرية سلفية جامدة، مع التأكيد على بساطة التعاليم ومباشرة العلاقة بالكون وخالقه . إن عمق التوحيد فى هذا الإسلام الأصل هو الذى يولد حركية الحرية، ويؤكد كرامة البشر ومساواتهم. وهو لا يقفل بابه عليه تماما. ولا يتجاوز العبادات.
ثانيا : الإسلام التقليدى السلطوى السلفى المحدود. وهو الإسلام الذى تنتهى حدوده عند ألفاظ المعاجم ، وفتاوى وتفسير السلف. فيظل وصيا حتى على النص الإلهى الذى يأمرنا ألا نخر أمام ألفاظه كأنها أصنام جامدة ‘والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا’ صدق الله العظيم.
ثالثا: الإسلام الوطنى الشعبي: وهو الإسلام الغالب فى الممارسة التى تلتحم بالأرض الموجود عليها، وبثقافة ناسها، فيتجادل الإسلام مع هذا وذاك ومع التاريخ الخاص بهذه المجموعة من المسلمين، ليـفرز لنا إسلاما له طابعه المحلى الخاص، وهو وإن لم يخرج -غالبا- عن القواعد الجوهرية لما هو إسلام تقليدى إلا أن هذا النوع بالذات يمكن أن يحتوى مواطنين يدينون بأديان أخري، لكنهم يمارسون الإسلام المعيش بالعادات والتقاليد ونوع العلاقات والمواقف بشكل لا يمكن تمييزه عمن يعتنقون الدين الإسلامي، وهذا أقرب ما يكون إلى حال مصر منذ عقود، وربما أهل فلسطين الآن.
رابعا: الإسلام السياسي، وهو إسلام غير ما أطلقنا عليه الإسلام السلطوي. إن ما يسمى الإسلام السياسى يكاد يصبح وسيلة لغيره لا متميزا فى ذاته. إن أصحاب هذا النشاط يقومون باستعمال ظاهر الإسلام لأغراض سياسية تؤدى إلى تحريك المجاميع لتمكين مجموعة منهم من السلطة. إن هذا الاستعمال للإسلام لا يفرض الحجاب على فئة من النساء ليميزهن، لكنه قد يلتقط حاجة الناس إلى هوية، وإلى تقرير ذواتهم ، ليكسب بها موقعا سياسيا، ومتى ولى السلطة، فإنه قد يكشف عن حقيقة انتمائه.
خامسا: الإسلام الاستقطابى الأعمي: هذا التوجه هو من أقبح التوجهات التى تشوه الإسلام لأنه توجه ينفى الآخر كما يستثير أن ينفيه الآخر، و هذا هو ما يركز عليه خصوم الإسلام تبريرا لمصارعته، ثم تشويهه أو تهميشه.
سادسا: الإسلام الإبداعي: (الصوفي/ الوجودي/ النقدي/ الاجتهادي/ المعايشي) هذه الصورة للإسلام يندر الحديث عنها بقدر ما يصعب توصيفها، مع أنها هى الصورة الأقرب إلى أصل الإسلام وكل الأديان. ويرجع ذلك إلى أن هذا النوع هو متجاوز للتفاصيل دون التخلى عن الأساسيات أو العبادات، ومع ذلك فإن المؤسسات، والتفسيرات الجامدة تقف له بالمرصاد.
إلى أى إسلام ينتمى الحجاب؟ :
بعد هذا الاجتهاد المتواضع، لنا أن نتساءل: إلى أى إسلام تنتمى ظاهرة الحجاب كما انتشرت أخيرا فى مصر؟ إن أكثر ما نحتاجه فى مسيرتنا الحضارية هو أن نمارس الإسلام لصالح البشر، كل البشر، دون أن نفقد التميز، وربما الريادة إذا كنا نستحقها.
بغض النظر عن من هو الذى على صواب فى هذا الحوار الدائر حول مشروعية الحجاب أو حتميته، دعونا نطرح سؤالا ليحاول كل واحد الإجابة عليه وهو مسئول أمام الحق تعالى : إلى أى مدى يساهم هذا الخلاف، وهذا الرداء فى تنمية ما يعد به الإسلام حضاريا؟
الخلاصة
(1) إن من أبسط حقوق الإنسان هو أن يلبس ما يشاء، ويخلع ما يشاء، فى حدود الآداب العامة لثقافة بذاتها، والمرأة فى ذلك ليست استثناء.
(2) من الناحية الشرعية البحتة: إن الأرجح أنه لا يوجد نص معين يأمر حسما ودائما بزى معين (حسب اجتهاد المستشار محمد سعيدالعشماوي، وجمال البنا وآخرين)، وحتى الاجتهادات المخالفة لذلك، هى اجتهادات تأويلية، شخصية، تاريخية، قابلة للنقض، وثوابها ووزرها على من تصدى لها، سواء بما أنتجت من تسيب فى الملبس، أو بما تسببت من انغلاق فى الفكر والمظهر معا، على حساب الإبداع والحرية.
(3) إن الاكتفاء بارتداء الحجاب بديلا عن الغوص فى ‘غائية ‘ ديننا الحنيف، ونبض إبداعه، هو حيلة هروبية سوف يحاسبنا الله عليها، حتى لو كان الذى فعل ذلك غير واع بما يفعله، فمعنى أن تشهد جلودنا علينا هو أن الله سيحاسبنا على ما وعينابه وما لم نع ، ولو ألقى كل منا معاذيره، فهو على نفسه بصيرة. ومن يعطل مسيرة الإبداع والحرية فسوف يلقى ربه وهو فى مأزق شديد الحرج حتما.
(4) إن الإسلام السياسى لم يفرض شيئا على المحجبات، ولكنه انتبه إلى غلب الناس وحاجتهم إلى هـوية، وإلى احترام، فركز على استعمال هذا الرمز ليستقطب هؤلاء الحيارى إليه، واعدا إياهم بجنة ما على الأرض فضلا عن التلويح بجنة السماء. هذا من ألف باء لعبة السياسة ولا ضير على من يستعمله (واسألوا السيد دبليو بوش كيف استعان بالأصولية الإنجيلية المتشددة وباليهودية قبل الصهيونية).
وبعد
إن أخطر ما فى ظاهرة انتشار الحجاب هكذا، وعند الشباب خاصة، لا يكمن فى استعمالاته السياسية (شعوريا ولا شعوريا)، أو فى سطحية من يرتديه بعيدا عن جوهر الإسلام، لكن الخطر الحقيقى هو أن يكون هذا الانتشار علامة دالة على توقفنا عن الإبداع، وعجزنا عن تجديد استلهام النص الإلهى بما نصلح به حياتنا الآن.
إننا حين نتنازل عن قراءة الأصل، مستسلمين لفتاوى السلطة المتجمدة فسوف نسأل بنص الآية الكريمة لماذا اتبعنا حرفيا فتاوى البشر – أيا كانوا – مع أن النص الإلهى بين أيدينا جميعا على سواء. إننى حين أقرأ الآية الكريمة ‘..إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا، ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب، وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا’ أتصور أن من حق مفتى الديار نفسه أن يتبرأ أمام الله فى الآخرة مما أفتى به ومن من أفتى لهم- برغم حسن نيته واجتهاده -، وذلك حين يكتشف أمام الله سبحانه أن ما أفتى به قد أوقف عقل مسلم عن العمل. حينذاك لن يكون لمن اتبع الفتوى مغمضا كرة ليتبرأ ممن أفتى له كما تبرأ المفتى الفاضل منه.
خاتمة
دعونا نعترف بمناسبة الاحتفالات اليوليوية الجارية أن الفراغ السياسى الذى بدأ منذ 1952، والذى مازال قائما هو المسئول الأول عن أى سلوك فاتر، أو مغترب، أو سطحى لجأ وسوف يلجأ إليه الناس، مثل الحجاب.
إن الدولة إذا ظلت لا تلتفت إلى دلالة مثل هذه الظواهر، ولا إلى احتمال تجمد ووصاية السلطات الدينية التقليدية إذا تجمدت، ولا إلى حاجة الناس إلى هوية، ولا إلى افتقاد الناس للاحترام، ولا إلى تهميش الناس بعيدا عن المشاركة السياسية، إنها إن تمادت فى كل هذا، فإنها تجنى على نفسها، وعلى الدين، وعلى الناس، على حد سواء.