الأهرام: 27 / 12 / 2004
التعايش التكافلى وقبول الآخر
هل يمكن حقا أن يقبل أحدنا الآخر بصدق كاف؟ وهل ثمة مستويات لذلك ؟
كنت أقرأ كتاب ليندا شيفرد عن الوجه الأنثوى للعلم ترجمة د. يمنى الخولى حين فوجئت بأحداث الفتنة الأخيرة يثيرها بعض المتحمسين والجهلة والمغرضين والأغبياء. فىنقدها لقانون “البقاء للأقوى” من منطلق حسبوه داروينيا، نبهت المؤلفة كيف أن ثمة قوانين أخرى للبقاء، ربما أهم، قوانين تعلن أن الطبيعة تدعو إلى، وتبارك، التعاون بين الأحياء (نباتا وحيوانا وبكتريا وخلايا..إلخ) ليبقوا جنبا إلى جنب وليس على حساب بعضهم البعض. أوردت المؤلفة أمثلة كثيرة تثبت أن “التعايش التكافلى” يمتد على طيف كل الأحياء من أجناس مختلفة: شاملة البكتريا و النبات مرورا بالخلايا ذاتها. أشارت إلى الوظيفة الإيجابية للبكتريا التى تعيش فى أمعاء البقر، ثم إلى التكافل بين بعض الأعشاب (الزائدة أو المتهمة بالإضرار) وبين الذرة حيث أثبتت التجارب أن تشذيب الأعشاب التى تنبت فى صفوف الذرة بدلا من اقتلاعها يفيد النبات إذ تفرز تلك العشبة مركبات مميتة للبكتيريا التى تدمر الذرة، وبدلا من أن تدخل العشبة منافسة للذرة تقوم بالسيطرة على الآفات. ثم تصل المؤلفة إلى قمة التحدى حين تتساءل:” من كان يصدق أن إبراء خلايا السرطان يمكن أن يبرئ المريض؟” وتعرض نموذجا غريبا لبحث يثبت نجاح مواجهة سرطان لوكيميا طلائع الخلايا النخاعية الحادة بأن نسمح للخلايا الخبيثة أن تنمو حتى النضج – باستعمال أحماض الريتانويات التى تجعل هذه الخلايا تواصل نموها حتى تموت موتا طبيعيا بعد مدة حياة عادية، لتحل محلها خلايا سوية فتية قادرة على النمو الطبيعى .
هل نحن البشر أدنى من كل هذا؟ لقد أثبتنا أن عدواننا على بعضنا البعض (مثل قتل مئات الآلاف، من الأبرياء الذين لايتصارعون أصلا، وعن بعد !!) هو أبشع من عدوان الحيوانات التى لا يقتل فيها النوع آخرا من نفس نوعه إلا فى ظروف نادرة خاصة، وفى مواجهة معلنة وجها لوجه. إن القانون الأرقى، الذى علينا أن نتعلمه من الأحياء الأدنى، يقول: إن الأقوى يحتاج إلى الأضعف مثل أو أكثر من احتياج الأضعف له. يترتب على ذلك أن “قبول الآخر” ليس منحة من الأقوى للأضعف، ولا من الاكثرية للأقلية، لكنه مصلحة بقائية لكليهما.
يوم الأربعاء الماضى اخترت أن تكون مهمة تحريك الوعى فى برنامج “سر اللعبة”(قناة النيل الثقافية) هى كشف مستويات هذه المقولة “قبول الآخر”.اللعبة تدعو المشارك أن يكمل جملا ناقصة كيفما اتفق، وبأدنى قدر من التفكير المتمعن، هاكم ثلاث لعبات – بعد نقلها إلى الفصحى- وللقارئ أن يلعبها بنفسه قبل أن يكمل المقال: (1) القبول الحقيقى للآخر هو أن أتمسك بموقفى وأسمح له أن يتمسك بموقفه، ومع ذلك …..(أكمِل من فضلك) (2) أنا لكى أقبل رأى أو عقيدة غيرى، علىّ أن أضع نفسى مكانه تماما، وساعتها قد أخاف أن …..( أكمِل من فضلك)… (3) يا عم! دع كل واحد يتخيل انه يقبل الآخر، أليس ذلك افضل من .. …..( أكمِل من فضلك)..إلخ.
من خلال الاستجابات المختلفة اكتشفنا من خبرة الألعاب المعاشة ثلاث مستويات لقبول الآخر: (ا) التفويت المتبادل (سيب وانا اسيب) (ب) الصفقات المتكافئة (إقبل عيوبى، أقبل نقصك) (جـ) الجدل الخلاّق (نتلاحم بصدق، ونتعرى بوعى، ونحن نعانى فرحين آلام النمو معا، حتى يخرج منا سويا موقف جديد، أو خَـلق جديد، يجمعنا فى وحدة أكبر، لننقسم أرقى، ثم نتجادل، وهكذا).
****
ألا يحتاج الأمر أن نعمق حقيقة موقفنا من واقع واقعنا، بدلا من الاكتفاء بترديد الشعارات، وتبادل الأحضان والقبلات، والذى فى القلب فى القلب؟