الأهرام: 3-11-2003
التسامح الفاتر أم الاختلاف الخلاق؟
منذ عشر سنوات، فى مثل هذه الأيام المباركة كتبت ما يلى:”…. يأتى رمضان هذا العام…. والإسلام يترنح تحت قصف أبنائه بالإهمال والتشويه والفهم الخاطئ. يأتى الإسلام يتاوه من طعن اعدائه بالاختزال والتخويف والتشنيع وسوء التأويل، يأتى والإسلام يخفت ويتوارى بالغباء والكسل، يأتى والإسلام يختنق داخل قميص اكتاف السياسة من ناحية والوصاية بالتفسير الجامد من ناحية أخرى”
ماذا أضيف الى هذا الذى نشرته منذ عشر سنوات؟ ماذا اضيف بالذات بعد احداث11 سبتمبر ؟
وصل الأمر الى التصريح بأن الإسلام هو نهج الشيطان، وأن مستقبل العالم الحضارى الحر يتوقف على مدى نجاح قوى التقدم والاستنارة فى التخلص منه وممن يعتنقه بالمره، وفى المقابل ارتفعت اصوات منافقة جدا تتحدث ربما معتذره او متصنعه التراجع عن تسامح الاسلام، وكانهم يتواصون، وهم يتصنعون الرقة، إلا يكشفوا كل الاوراق. فماذا فعل المسلمون ازاء كل ذلك غير الدفاع الكلامي، وتقليب صفحات الماضي، وحضور الحوارات الشكلية، ثم نجد انفسنا فى النهايه نضرب تعظيم سلام، ونتعهد بان نسمع الكلام، وان نكتفى بان نستعمل اسلامنا من الظاهر أثناء العطلات، وفى اروقه المؤتمرات.!
منذ ثلاثه اسابيع تقريبا، كنت اشارك فى مؤتمر عالمى عن الدين والروحانية والصحة النفسية، عقد فى دير سانت كاترين، وكان المشاركون من أنحاء العالم بالغى الطيبة، شديدى الحماس، حسنى النيه. لكن ثمه مخاوف ساورتنى برغم عدم حضورى كل الجلسات.
خفت أن يحل ما يسمونه ”الروحانية” محل زخم ابداع الايمان، فقد كان هم المؤتمرين ان يضيفوا الى تعريف الصحة ما اسموه:” صحه الروح” (وليس فقط صحه النفس والجسد). لم ينتبه اغلبهم بالقدر الكافى الى أن الاكتفاء بمجرد اضافه لفظ جديد قد يلهينا عن ضروره البحث عن حقيقه وطبيعه جذورنا الفطريه التى ما نزلت الاديان إلا لتعمقها. ان الله سبحانه حين نبه الى ان” الروح هى من امره هو دون سواه”، كان يفتح الباب لابداعاتنا نحن بعيدا عن التمحك فى اضافه لفظ او تعديل جمله فيها كلمه” روح”، ودمتم!
خفت أن نكتفى بالقبلات والاحضان وزعم الرضا المتبادل، دون معاناه تقشف البحث فى جذور الطبيعه البشريه النابعه من اصل الحياه كما خلقها الحق تعالي، وكما تمتد الى وجهه سبحانه، الامر الذى كان وما زال للاسلام باع خطير فى تعميقه، خاصه باسهام المبدعين من متصوفية، وليس بالسجن فى المذكرات التأويلية للرموز المعجمية.
خفت أيضا أن يحل ما يسمي” التسامح”( الكلامى/الفاتر/الهلامى) محل” الاختلاف الخلاق”، وهو الاختلاف الذى يحفز الابداع والمراجعه فلا يكتفى بمجرد التفويت، والتظاهر بالقبول شعوريا او لاشعوريا ثم يظل” ما فى القلب فى القلب.
لا مفر من ادراك وممارسه معنى التوجه الضام الى وجه الحق والحقيقه كل من موقعه. هذا هو موضوع الورقه التى قدمتها للمؤتمر شامله فرضا يقول:” ان هذا النزوع الضام المتوجه الى وجه الحق تعالي، هو فطره اقرب الى الغريزه التى لا يكون الانسان انسانا الا باروائها، لهذا سميتها باسم” غريزه التوازن الضام اليه” وهو اقرب ما تصورته لمعني” الفطره السليمه”.
المساله ليست تفسيرا علميا يشوه كلا من العلم والدين معا، انا ضد كل ذلك. لا وصايه للعلم على الدين وبالتالى فلا سبيل الى تمحك الدين بالعلم، المساله هى تعدد قنوات المعرفه نحو الحقيقه.
خذ مثلا هذا الخلاف على رؤيه هلال رمضان وشوال. الفكرة التى وصلتنى من الاصرار على مباشرة الرؤية الحسية، هى محاوله تعميق علاقة ايقاعنا الحيوى بايقاع الكون الحيوى لتنشيط علاقه الجسد البشرى الرائع مع الكون بطزاجه متجدده. ان تنشيط قنوات اخرى للمعرفة- بالجسد، كما يقول “العلم المعرفى” اخيرا هو تعميق للاختلاف الخلاق بين مداخل المعرفه دون تفضيل لوسيله على الاخرى مهما بدت منطقيه مرموزه.. رمضان كريم.