اليوم السابع
الجمعة: 25-4-2014
التراث: موجود فينا “هنا والآن”
هل التراث هو مجرد ماض نحكيه ونتناقله ثم ننتقى منه ؟هل هو رواية نجترها أو نتناساها حسب مقتضى الحال ؟ هل هو تاريخ نقرؤه بفخر أو خجل حسب مقدار الصدق والكذب والحياء والمسئولية؟
يقول المعجم الوسيط التراث = الإرث، وهو مَا وُرِث ! فما هذا الذى وُرِث ، وهل ما وُرِث هذا هو حاضر(بيولوجي) قائم فى تركيبنا (الآن)، أو هو وعى ماثل أو متاح فى وجودنا الحالي، أو هو معلومات مودعة على أرفف المكتبات وفى بطون الوثائق؟ وما علاقة التراث بالتاريخ الخاص لأمة من الأمم، وهل الأوْلي، والأكثر واقعية ومواجهة ومسئولية، والأقرب إلى الطبيعة التطورية والنمائية، هو أن نتعامل مع التراث باعتباره تاريخا يـُزار، أو ملجأ نهرب إليه، أو إنجازا ماضيا نتفحص ما تبقى من قدراته؟ أم أنه حاضر نجادله وننطلق منه وبه ومعه؟
اكتفيت بأن أرفض ابتداء: أن أنساق وراء التقليد الشائع الذى يتعامل مع التراث باعتباره ماضيا يُحكى، أو مهربا يغري، أو أن أقصر التراث على ما هو مسجل تاريخا ، وأنتم تعرفون أن التاريخ على أحسن الفروض: هو وجهة نظرفى وثائق لا يمكن إغفالها، كما لا يمكن الاكتفاء بها، أما هذا الحاضر الفاعل فهو يشمل بعدين أساسيين هما: أولا: التراث كحاضر بيولوجى، مسجل فى خلايانا الحية الآن، ورثناه حيـَّا عن حى، قبل أن نرثه أبا عن جد، وثانيا: التراث كوعى شعبى مرصود فى عادات، وتقاليد، وأغان، و رقصات، وأمثلة ممتدة
باختصار: إن التاريخ الصادق الوحيد هو ما بقى حتى الآن مسجلا فى خلايانا: بيولوجيا، وكامنا وجاهزا للتنشيط والجدل، فإن صح ذلك فإن الوسيلة الوحيدة لمعايشة التراث هى مواجهته “هنا والآن”، لا الكتفاء باستدعائه، أو قراءته، وإنما لتعريته، ومخاطبته، والجدل معه وبه، فينا الآن حالا، لنتصرف، خاصة وقد انتقل البندول مؤخرا إلى الاعتراف المبدئى، دون تفصيل دقيق، أو يقين حاسم، بصحة وراثة بعض آثار أنواع معينة من التعلم ، وعلاقة الوعى الجمعى بالوعى الشخصى والبينشخصى تؤيد ذلك تماما، وقد أظهرت الدراسات الأحدث كيف يمكن أن يتكيف، ويتغير، تنظيم تركيب المخ، نتيجة لخبرات يعايشها صاحبها فى البيئة المحيطة، وخاصة تلك الخبرات الجذرية المغيرة للسلوك الأعمق، أو المرتبطة بالبقاء والتطور، ثم تدعَّم كل ذلك بالعلم المعرفى العصبى بشكل رائع. أحيت هذه الدراسات ما كان قد أهمل من نظريات نفسية، ترى الإنسان فى بعده الطولي، تركيبا هيراركيا متكاملا، يحتوى الأحدث منه الأقدم ليتكامل معه لا ليمحوه، ولا ليحل – تماما- محله، وأخيرا فقد ظهرت نظريات أحدث تجمع بين التنظيم الهيراركى للمخ تاريخا وحاضرا، وبين تعدد الذوات ، أى أن كل منا ليس ذاتا واحدة بل عدة ذوات معا، فى تبادل وجدل طول الوقت.
خلاصة القول: إن هذا ليس تنظيرا علميا أكاديميا، بل هو واقع تربوى واجتماعى وسياسىى إن التراث موجود “هنا والآن” بداخلنا قبل وبعد رصده فى كتب التاريخ أو روايات الأقدمين، هذا فضلا عن حضوره السابق الإشارة إليه فى صورة تقاليد، أو أمثال، أو أغان وممارسات شعبية ، كما أن ما نفعله الآن فى محاولة تخليق قيم جديدة، وثقافة جديدة، ودولة جديدة، إنما ينبع من هذا التاريخ الماثل فينا حالا، وهو تاريخ أروع وأعمق من البضاعة المستوردة المالئة للسوق حاليا، يترتب على ذلك أن ما نفعله لا تعود نتائجه فقط على إصلاح ما أفسده الدهر والطغيان والظلم والاستعمار، بل يمتد إلى زرع تراث جديد لأجيال قادمة
إن الجدل بين هذا التراث البيولوجى الماثل فينا-“الآن”- بكمونه الجاهز للتنشيط، وبين المعطيات الأحدث، بالأدوات العصرية الأقدر، والمعلومات المتدفقة المتجددة أبدا، هو الإبداع الحقيقى الذى يمكن أن يميز ثقافة ما من ثقافات البشر، ثقافة لها هويتها المتميزة نوعيا، والقادرة على الإسهام التضفرى مع ثقافات أخرى مواكبة، تتجادل مع تراثها الخاص والعام طول الوقت.
وعلينا أن نحسن التفرقة بين ميوعة التلفيقية الشائعة بين القديم والمعاصر، والتى تركز على الترجمة الخائبة والمتعسفة إلى لغة أحدث، أو على التسوية الهامدة التى تقتطف من القديم جزءا لتلصقه إلى جزء أحدث، أو تصيغ نفس القديم بأبجدية أكثر معاصرة إن ما يسمى قديما هو حاضر شديد الثراء، وافر العطاء، لا يظهر فى إيجابيته إلا من خلال ناتج جدله مع الواقع الآنى الحى.
وعلى ذلك فإن ما يسمى “التراث” (تقليديا: كما هو شائع فى أغلب الأحوال) وهو المسجل رموزا فى كتاب، أو معلومات فى تاريخ، أو منهج فى نظرية، لا ينبغى أن تقتصر معرفتنا به لتفيد الإلمام بتاريخنا الخاص، كما لا ينبغى أن نستعمله مهربا لفظيا مسجلا نلجأ إليه ندارى به عجزنا الحالي، بل علينا أن نتعامل معه باعتتباره القادر على إثارة ما يقابله فى تركيبنا الآني، فالواجب أن نعايشه ونحن نقرأه، لا أن نكتفى بحفظه، أو الفرجة عليه، أو حتى الفخر به.