نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 3-6-2015
السنة الثامنة
العدد: 2833
التراث الشعبى حضور فى الوعى؟ أم ديكور للحكى؟(1)
كيف تجمع التراث الشعبى عبر التاريخ، وكيف يشكل الوعى الشعبى حالا؟
الثقافة تنبع من الناس، مما هم، لتصب فيهم، هى عملية حركية مستمرة أكثر منها تسجيل معرفى معلوماتيى. والتراث الشعبى هو ذخيرة الأمة، وما تبقى منه ومازال يسرى فينا، حتى دون أن ندرى، هو ما يندرج تحت ما يسمى الآن بالتوارث الثقافى فى مقابل الوراثة البيولوجية (الميمات فى مقابل الجينات).
التراث الشعبى المستعاد، غير الوعى الشعبى المـعاش، رغم ارتباطهما الوثيق.
العلاقة بالتراث الشعبى لا ينبغى أن تقتصر على تكرار أو جمع الأمثلة العامية، أو على تحديث الأغانى الشعبية، أو على إحياء الرقص الشعبى، وإنما ينبغى أن تمتد إلى تعميق واستلهام وتنمية ما يثبت صلاحيته من العادات والتقاليد والطقوس المنتقلة من جيل إلى جيل. ليس للتراث الشعبى فاعلية حقيقية (سلبية أو إيجابية) إلا إذا أصبح وعيا شعبيا خاصا وعاما.
إذا لم ننتبه إلى حقيقة تحويل التراث الشعبى إلى وعى شعبى (يتجلى فى الفرد مثلما يتجلى فى الجماعة) فإننا نكون قد قطعنا التواصل مع امتدادنا، نكون قد نزعنا الجذر من تربته ونحن نتصور أننا نقوم بتصويره للذكرى أو للزينة، فيضمر وتموت الشجرة.
إن الاكتفاء باستعمال التراث فى الاحتفالات، والشعارات، والزينة هو إهانة للأصل، هو بمثابة من يستعمل صور أجداده للزينة، يعلقها فى حجرات الاستقبال بدلا من أن يستلهم حكمتهم ويحمل مسئولية تحقيق آمالهم فينا، وفى البشر.
إن ما نعنيه بتعبير ”الوعى الشعبى” (دون التراث الشعبى) هو إشارة إلى ممارسات تجرى حاليا، وهى ممارسات إيجابية، وسلبية. الوعى الشعبى هو التعبير المباشر عن ماهية الناس فى لحظة بذاتها، ومن ثم فإننا حين نريد أن نتعرف على أنفسنا امتدادا فى جذورنا، علينا أن نفحص الفروع والثمار الظاهرة، ولا نكتفى بالحفر حول الجذور، إن ما يميزنا الآن، ليس جذورنا المختفية تحت الأرض، وإنما ناتج هذه الجذور من فروع جافة أو ظليلة، من أواق متساقطة أو زاهية، من كرم شهى أو حصرم حامض.
من يريد أن يعيد تشكيل وعى ناسه “هنا والآن”، وفى نفس الوقت لا يريد أن يتشكل من خلال قيم مستوردة أو مناهج مغتربة، عليه أن يلم بماهية ناسه الآن، بأن يبحث ابتداء عن المنهج المناسب، للنظر فى تراث شعبه ونفسه، ومن ثــم فى وعى شعبه ونفسه.
خطر أى خطر أن نعتمد على ملء الاستمارات المترجمة المليئة بالأسئلة المغلقة النهاية “نعم-لا”، لنتعرف من خلالها على “من نكون”، “من نحن”، . هذا تسطيح وعبث (إن صحت النوايا)، وهو تشويه وتضليل (إن سمحنا للتفكير التآمرى أن يأخذ نصيبه) !!.
إن التعرف على وعى ناسنا “الآن” لا يأتى من خلال ما يسمونه قياسات الرأى العام، ولا هو يعتمد على نتائج الانتخابات التى تجرى تحت مسمى الديمقراطية بأساليب أصبحت من الالتواء والتضليل والانتقائية بحيث أهدرت مصداقية الديمقراطية والحرية جميعا، إننا نتعرف على الوعى من خلال النظر فى لغته الجديدة، الدالة والعابثة معا، من أغنيته الهابطة والراقية على حد سواء، إن تعالى العلماء والباحثين على نبض الشارع وقياسه بمقاييس المكاتب الأكاديمية قد يرسم لنا صورة لا تمثلنا: إما شائهة أو مزورة.
إن تقديس العلم منفصلا عن الناس هو من مخاطر الانغلاق المعقلن. المعلومات التى تصلنا موجزة مركزة من مراكزالأبحاث، أو عبر وسائل الإعلام، بل فى مناهج التعليم، لا تصبح لها قيمة حقيقية فاعلة إلا إذا تعمقنا نتائجها حالة كونها تتفاعل مع مصادر أخرى للمعارف مثل التقاليد، والدين الصحيح، والدين الشعبى، والحدس الشعبى الصادق والكاذب معا. و كل ما يجرى فعلا من الناس بين الناس على أرض الواقع.
المطلوب ونحن نتكلم عن العلم وعصر العلم وضرورة العلم ألا نستسلم لما يختزل وجودنا ننفذ برنامجا ليس من صنعنا، نحن لا نقلل من قيمة العلم، لكننا نذكـر بأن العلم ومعلوماته ليس إلا أحد مصادر المعرفة. وبالتالى لا ينبغى أن يكون هو المقياس والمرجع لكل المنظومات المعرفية الأخرى. إن العلم لا يقيس إلا نفسه، لكنه يتفاعل مع كل مصادر المعرفة بكل لغاتها ليصيغ الوعى المعرفى الأشمل بما يميز الثقافات المختلفة من واقع جذورها الغائرة فى التاريخ وثمارها المهجنة بالواقع الجارى.
زاد الاهتمام هذه الأيام بإعادة النظر فى مناهج العلوم الإنسانية لتضع فى اعتبارها احترام الوعى الشعبى كمصهر للمعرفة يمكن أن يخرج بنتائج وتعقيبات لها مصداقيتها فى ذاتها، وأيضا ليعيد للمعلومات الحكائية “قيمتها واحترامها.
إن الناس عامة ”تحكى” معرفة حقيقية، وما يمارسونه هو إضافة هامة وليس مجرد تنفيذ مبرمج. إن وعى الناس مصهر للمعرفة وليس إناء للغرف. علينا أن نحترم المعرفة الممارسة (دون تقديس) وألا نقيسها بغير مقاييسها. إن ممارسات الناس فى المناسبات، وطقوسهم فى المعاملات، وتغير لغتهم وتحديث أغانيهم، وتطوير رقصهم، كل ذلك يحمل من الدلالات والمعارف ما يمكن أن يلهمنا مناهج تكشف لنا عن هويتنا ونحن نعيد صياغتها، فنحمى أنفسنا من الانسياق على مسارات غامضة، بمناهج مختزلة: بعضها مشبوه المصدر، والآخر غير صالح للاستعمال الآدمى إلا فى موطنه الأصلى، إن صلح أصلا.
[1] – نشرت فى جريدة الوطن: 14/2/2001