نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 25-2-2015
السنة الثامنة
العدد: 2735
التحدى…! (1)
فى هذه الأيام، ونحن نعيش أكبر تحديات البقاء، ونشرُفُ بأنبل آلام الفقد، علينا أن نستلهم كل نبضة إبداع جنبا إلى جنب مع الوفاء لكل قطرة دم، ونمضى لا يوقفنا شىء، ولا يهزنا خطب.
كما قال لى يوسف إدريس: إن المبدع هو مثل “الناضورجى” الذى يجلس على أعلى موقع في السفينه، يرصد الحركة فى البحر أو المحيط، فإذا لاحت له سفن القرصان، أنذر القبطان فورا ليتخذ الاستعداد اللازم للمواجهة أو للهرب، ما يراه المبدع بحدْسه هو كاشف لما يجرى تحت السطح، وهو أيضا إنذار مبكر قبل الكارثة .
التحدى لن يقتصر على معركة الجيش مع الخونة والمرتزقة فى سينا، وإنما هو ممتد فى كل مجال، طول الوقت، سوف أقصر الحديث اليوم على مجال الانتخابات البرلمانية القادمة –كمثال- حتى لا تلهينا معركة عن أخرى.
عدت إلى محفوظ أقرأ فقرة 32 من أصداء السيرة بعنوان التحدى، يقول:
“فى غمار جدل سياسى سأل أحد النواب وزيرا: هل تستطيع أن تدلنى على شخص طاهر لم يلوث؟. فأجاب الوزير متحديا: إليك – على سبيل المثال لا الحصر- الأطفال والمعتوهين والمجانين، فالدنيا مازالت بخير”.
برغم إجابة الوزير الجاهزة وهو يقرر – متحديا!!- استحالة الحفاظ على البراءة الطاهرة إلا من مثل هذه الفئات (الأطفال والمعتوهين والمجانين)، إلا أن تحديه كان مهزوزا حين قدم لإجابته بأنها: “على سبيل المثال لا الحصر”، وهكذا ترك لنا محفوظ الباب مفتوحا، لنبحث عن فرصتنا أن نعيش دون أن نتلوث، وفى نفس الوقت لا ندرج مع هذه الفئات ، فكيف ذلك؟
محفوظ، وقبل الهنا بسنة، ينصت إلى أصدائه، ويبلغنا إياها لنفيق، فهو لا يقرّر واقعا فقط (سنة 1992)، وإنما هو يلقى فى وجهنا بقفازِ التحدى الآخر، لنقبله طول الوقت على مر الأزمنة والأنظمة:
“…. تلك هى المسألة الصعبة:
أن نعطى للطفل الحكمة والنضج،
دون مساسٍ ببراءته بطهارته بحلاوة صدقه،
أن نصبح ناسا بسطاءْ، لكن فى قوة،
أن ننسج من خيط الطيبة درع القدرة،
لكن فلنحذر دوما من غدر الشر المتحفز بالانسان الطيب.”.
إذا لم ننجح فى حل تلك المسألة الصعبة، وأصررنا على مجرد التحلى بالطهارة دون تلوث: فعلينا أن نقبل إما أن نظل أطفالا عاجزين، أو معتوهين نظيفين، أو فلنجـَنّ فلا مسئولية، وبهذه التنويعات تستمر “الدنيا بخير” كما يراها الوزراء، وكأنهم “يهددوننا” بأننا إذا نحن تحركنا بعيدا عن هذه الاختيارات، فسوف نتلوث (مثلهم) بكل هذا الخير العميم !!!.
وتكتمل الصورة فى أحلام فترة النقاهة بعد عشر سنوات، فنقرأ حلم 113:
“أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسى باعتبارى سكرتيره البرلمانى ولكنه لم يفهم كلمة من كلامى، فحاولت شرح عملى ولكنه نهرنى بحدة وأمر بنقلى من وظيفتى، وهكذا بدأت المعاناة فى حياتى، ثم شاء القدر أن يجمع بينى وبين الوزير فى مكان غير متوقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولى أخذت أذكـّره بلقائنا الأول وما جرى فيه حتى تذكر، وتأسف، واعتذر، وانتهزت فرصة وجودنا فى مكان واحد كى أشرح له عمل السكرتير البرلمانى”.
ما زلنا فى جو البرلمان، وفى حين كان الحوار فى الصدى بين أحد النواب وبين الوزير، جاء هذا الحوار هنا بين السكرتير البرلمانى والوزير، من أجمل الإبداع هنا تعمد التجهيل لحقيقة نوعية عمل ماهو “سكرتير برلمانى”، تجهيل يحفزك للبحث عن سر شفرة (سيم) الجارى، وقد تشم رائحة بها ما يشير إلى أن المهمة الحقيقية لهذه السكرتارية البرلمانية قد تكون ممارسة أساليب التحايل، والتستر، والتلاعب، وترتيبات الصفقات، وتعمية بعض المعلومات، وتسريب أخرى، وألاعيب الإعلام..إلخ، فإما أن هذا السكرتير كان سوف يشرح للوزير كل ذلك، وهى أمور للتنفيذ لا للشرح، وإما أنه كان مبتدئا طيبا طاهرا يريد أن يثبت إلمامه بمهام منصبه التى تصور أنها تحقيق التواصل الإيجابى بين الوزير وبين البرلمان، وهو مالا يهم مثل هذا الوزير طبعا، وفى الحالين فقد أثبت هذا الشخص أنه لا يصلح لعمله، فكان الفصل.
لكن يبدو أن فصله قد علـّمه الدرس جيدا فتحصن بما يجب أن يتحصن به، ويبدو أنه نجح باستثناء بعض الثغرات، هنا وهناك، ثم لابد أن هذه الثغرات، هى التى أدت به إلى السجن، وهكذا يصدق تنبؤ الأصداء بندرة من يسلم من هذا الجو الملوث، حتى لو حسنت نيته فى البداية، أما ما انتهى بالوزير إلى نفس المصير بالسجن، فهو غير واضح، هل هى الثورة أم العدل أم القصاص أم كل ذلك، يترك لنا محفوظ الباب مفتوحا لنبدع التلقى فنتعلم، نتعلم ماذا؟
نتعلم أننا ونحن نحاول أن نحافظ على طهارتنا لا ينبغى أن نكتفى بأن نلتحف بطيبة عاجزة، أو طفولة مثالية أو طهارة براقة لم تُختبر.
واجهنى هذا التحدى فى عملى مع من جاء ذكرهم فى الصدى، ووجدتنى قد قبلت معهم التحدى حتى ظهر فى القصيدة السابقة قائلا:
“حتى لا تخدعنى كلمات الشعر،
أو يضحكَ منى مَنْ جمعوا أحجار القصر القبر،
أو يسحقَ عظمى وقع الأقدام المتسابقة العجـْلَى
أقسمتُ بليلٍ ألا أضعف…، ألا أنسى..”
التحدى يفرِض على من يقبله أن يكتسب مقاليد القوة والقدرة دون أن تصبح هدفا فى ذاتها، فهى ليست إلا وسيلة يحافظ بها على طهارته، ويدافع بها عن مبادئه فى نفس الوقت:
“…وأخذت العهد،
غاصت قدماىَ بطين الأرض،
وامتدت عنقى فوق سحاب الغد،
هذّبت أظافر عدوانى لتكون سلاحا أمضّى،
ولبستُ الثوب الأسمر،
ولصقتُ اللافتة الفخمة،
وتحايلتُ على الصنعة،
وتخايلتُ طويلا كالسادة وسط الأروقةِ المزدانةِ برموز الطبقهْ..
،.. هأنذا أتقنتُ اللغة الأخرى، حتى يُسمع لى،
فى سوق الأعداد وعند ولى الأمر،…صرتُ الأقوى
لكنى أبدا لم أنسَ: فالأنفع يبقى !
والزبـَد يطير بلا مأوى.
حتى دون كيشوت، حين تقمصتـُه، لم يصلنى شطحه الخيالى أو جنونه، بل صلابته وتحديه، ووضعت له نهاية أخرى غير التى ذكرنا بها د. جلال أمين (الأهرام 29-9)، فقلت على لسانه:
ذى صرختى: ،سوط اللهيب النور رعد القارعة،
…..يا ويحكم منها بداخلكم.، نعم !… ليستْ ‘أنا’
بل ‘نحن’ فى عمق الوجود
بل واهب الطين الحياة
بل سر أصل الكون، كل الكل
نبض الله فى جنباتنا
ليست أنا.….،
سيفى خشب ؟؟!
لكن لؤلؤة الحياة بداخلى لا تنكسر،
وبرغم واقعنا الغبي،
ينمو البشر… ،
فى ملعبي.
[1] – كتب هذا المقال للأهرام بعد أن طلب منى الكتابة كل أسبوع، وفوجئت أنهم لم ينشروه، وأبلغت أنه غير صالح للنشر لأنه ليس مقالا سياسيا!!! فتوقفت عن الاستمرار معهم تماما، واعتذرت عن دعوتهم.