نشرت فى مجلة سطور
عدد أبريل – 2000
نبذة: نقد لغلبة التفكير التجريدى البحثى (والتفكير المعقلن من منظور حسابات وتاريخ التطور، ثم تشويه الدين بتفسيره بهذا التفكير المحدود دون غيره من أدوات المعرفة، ثم من منظور الدراسات اللغوية، فالمدارس النفسية وأخيرا من منطلق بيولوجى لتفسير جذور التدين ويخلص المقال ليس إلى رفض التفكير المعقلن (والتجريدى) وإنما إلى ضرورة الانتباه إلى عدم الاقتصار عليه وعدم السماح له أن يصبح وصيا على غيره من أنواع التفكير الأخرى ويناهل المعرفة وأدوات الوعى، وقد يتم ذلك بالتبادل بعض الوقت ربما سعيا إلى تخليق جدلى محتمل قادم.
التاريخ والبيولوجيا فى مواجهة التفكير المعقلن
القيادة بالتبادل
ينبه الدكتور يحيى الرخاوى فى هذا المقال إلى الخطأ الفادح الذى يرتكبه الإنسان نتيجة لترجيحه “التفكير المعقلن” على جوانب وأشكال أخرى من التفكير، والذى يؤثر بالسلب على مسار تطوره بالكامل، مشيرا إلى أن “هذا الترجيح يجعلنا نقوم بتنظيم حياتنا تبعا لما يصل إلينا من معلومات نتعرف عليها أساسا من خلال عمل هذا لانشاط المرجح “التفكير المعقلن” فيما يمكن تلافى مثل هذا الخطأ الفادح بإعادة الاعتبار للأشكال الأخرى من التفكير، ويورد ذلك فى نقاط محددة كالتالى….
أولا: اقترن لفظ التفكير – حديثا – بلفظ العقل. فى الوقت الذى أخذ فيه لفظ العقل قدرا من الاحترام والتقديس بما بستحق وما لا يستحق، وقد تم ذلك بتبرير مناسب، ألا وهو محاولة مواجهة الخرافة والتخلف، إلا أنه كان من بين النتائج التى ترتبت على هذا التقديس أن اختزلت أو استبعدت طرائف ومناهل المعرفة الأخرى (التى لا تتفق مع التعريف المحدود لما هو “عقل” أو ما هو “تفكير”).
ثانيا: شاع بين علماء النفس تعريف للتفكير بأنه “حل المشاكل” Problem Solving، وعلى الرغم من أن حل المشاكل قد يمتد إلى أعماق أخرى تتجاوز ما يتواتر إلى الذهن لأول وهلة، إلى أن ذلك المعنى المباشر لما هو “حل للمشاكل”، ظل يعتبر مرجعا عند أغلب المشتغلين بعلم النفس، كلما ذكرت كلمة “التفكير”، حتى كاد يقتصر على ما يشبه ألغاز الشطرنج أو أحاجى الحاسوب.
ثالثا: اقترنت كلمة التفكير بما يشبه المقابلة مع ما هو انفعالى أو عاطفى أو حتى وجداني، فزاد هذا المنطق الاستقطابى (التفكير، ضد = فى مقابل، الانفعال) زاد من فصل التفكير عن كلية الوجود.
رابعا: استقلت كلمة التفكير عن كل من الوعى والثقافة، ولا أعنى بالاستقلال هنا: الانفصال، وإنما المقصود هو أن الكلمة أصبحت تصف ظاهرة أكثر تحديدا، وأكثر قابلية للدراسة التجزيئية المنظمة عن كل من كلمتى الوعى والثقافة. إلا أن هذا الاستقلال تمادى حتى أصبح تفضيلا وتفوقا.
خامسا: ترادفت كلمة التفكير، فى كثير من الأحيان مع، ظاهرة العقلنة (أو الذهننة Intellectualization) والتى اختلطت بدورها بلفظ التفكير العقلي، فى حين أن العقلنة ليست إلا حيلة دفاعية تستعمل المنطق المعقلن كمهرب بعيدا عن التواجد البصيرى المشتمل.
سادسا: تفاقم سوء فهم عبارة ديكارت “أنا أفكر فأنا موجود”، إلى اختزال الوجود إلى ما هو تفكير، إلى ما هو عقل كما شاع عنه، وتضمن ذلك استبعاد “ما ليس كذلك”. وقد انتبهت إلى هذه المغالطة يوما وأنا أحاور مريضا فصاميا (حتى أننى تقمصته احتراما فكتبت فى كتابى “حكمة المجانين (1972) . أنا أفكر فأنا غير موجود، ثم أضفت من عندي: لا تفكر، ولكن: استعمل التفكير !!!)
سابعا: استعملت كلمة التفكير كمرادف لكلمة المعرفة cognition، فاختزلت كلمة المعرفة إلى ما هو تفكير منطقى عقلانى خطي4، مع أن المعرفة أشمل وأكمل.
وبعد
فإننى سوف أكتفى بهذا القدر من مظاهر إشكالة مفهو ما هو تفكير، وأستطيع أن أطمئن إلى كفايتها للتنبيه إلى ضرورة مراجعة الموقف برمته، ذلك أن المسألة ليست مجرد ترادف خاطئ، أو تدخل عفوى ملتبس، وإنما وراء هذا الخلط والتداخل احتمال خطإ منظم جسيم قد تترتب عليه تداعيات منذرة. ذلك أننا إذا أهملنا “ما ليس كذلك” (ما ليس تفكيرا كما نتصوره)، أو تصورنا أن “ما ليس كذلك” يقوم بوظائف أقل أهمية فى تشكيل وعينا وتوجيه مستقبلنا نكون قد وقعنا فى خطأ تطورى مهدد للنوع البشرى بأكمله. وأضرب لذلك مثالا شائعا : إن من بعض مظاهر هذا الاختزال أو الاستبعاد (بحسن نية، أو سوء حسابات) هو أن نقصر استعمال الدين والتدين – مثلا- باعتباره نوعا من النشاط الطيب الذى يمارس بعض الوقت (فى عطلة نهاية الأسبوع مثلا، أو قبل النوم وبعد الأكل !!) ليفيد فى جعل قلوبنا بيضاء !!! (نحب بعضنا البعض فى بله كاذب)، دون أن نستلهم من تاريخ النزوع الدينى والمعرفة الإيمانية معرفة تساهم فى الحفاظ على بقائنا، وتطوير وجودنا.
ومثال آخر: حين نستعمل الإبداع الفنى ليدغدغ الجمال، ويريح البال، ويفرغ الطاقة (التطهير)، دون أن ندرك دوره المعرفى وخطورته فى تشكيل الوعي، ودفع عجلة التطور إلى الأرقى والأكمل وجودا وإحاطة.
الفرض:
والفرض الذى أطرحه فى هذه المداخلة يقول:
إن ثم خطأ تطورى يتعرض له الجنس البشرى نتيجة لترجيحه نشاط جزء من تركيبه على سائر الأنشطة الأخري، ذلك أن هذا الترجيح يجعلنا نقوم بتنظيم حياتنا تبعا لما يصل إلينا من معلومات نتعرف عليها أساسا أو تماما من خلال عمل هذا النشاط المميز (المسمى التفكير)، على حساب استبعاد، أو التهوين من شأن، الجارى على مستويات أخرى من جدل حيوى مع الطبيعة الداخلية والخارجية من ناحية، ومع التاريخ والمستقبل من ناحية أخري.
وفيما يلى بعض هذه المنطلقات، بما تحمل من إنذارات، وما تحفز من مراجعات.
أولا: من منظور تاريخى
1) من منطلق حسابات وتاريخ التطور:
تاريخ الإنسان ليس تاريخ التفكير، وإنما هو “تاريخ التلاؤم مع المحيط” مستعملا كل إمكاناته البقائية والتطورية، بما فى ذلك – مؤخرا – “بيولوجية التفكير”، فإذا كان تقدير عمر الكون يتراوح من 9 إلى 20 بليون (ألف مليون سنة)، وعمر الأرض يقدر من 4 إلى 6 بليون سنة.، وعمر الحياة على الأرض من 1 إلى 2 بليون سنة، فإن عمر الإنسان يدور حول 600000 سنة فقط، وبالتالى فإن حسابات التطور التى تجرى بمقاييس عقل الإنسان وحده، وحاجاته، وتوجهاته، ثم تحاول التخطيط لمستقبله ولا تضع فى اعتبارها تاريخ الحياة قبله ومعه، هى حسابات تحتاج إلى وقفة فمواجهة.
وبالنسبة لما هو إنسان فإنه يمكن إرجاع جذور السلوك التدينى إلى حوالى 100000 سنة وذلك قبل نشأة اللغة التى يقدر عمرها بحوالى 100000 سنة، فى حين لم يمض على أكثر الديانات المعاصرة انتشارا (أو أشهرها بالنسبة لنا) سوى ألفان، وألف ونصف من الأعوام بالنسبة لكل من الديانتين المسيحية والإسلام على التوالي، أما عن عمر العلوم الحديثة التى تحاول مؤخرا صياغة مستقبلنا وحدها (تعسفا) فهو لا يزيد عن قرن (إلى قرن ونصف) على أحدث الافتراضات، وقد تسارعت إنجازات ما يسمى العلم الحديث (وهو مرتبط ومقترن غالبا مع الشائع عن العقل والتفكير) فى الأربعة عقود الأخيرة بما لا يقارن بتاريخ إنجازات العلوم المعروفة طوال التاريخ.
ب) مثال من تطبيق فكر صحيح (الفكر الماركسي)
منذ أوائل هذا القرن (باعتبار سنة 2000 هى آخر سنة فيه) حتى قرب أواخره، جرت تجربة محددة لتطبيق إنجاز رائع للعقل البشرى فيما يتعلق بالتفسير المادى للتاريخ، وما يترتب على ذلك من احتمالات تطبيق العدل وإطلاق مسار تطور الإنسان، ولايستطيع حكم عدل أن ينكر، مهما بلغ، تحيزه، أن هذا التفكير هو صواب فى صواب بدرجة تقترب من الكمال، من أول تفكير ماركس الباكر حتى تفكير المجددين المحدثين من الشيوعيين المخلصين، وقد شمل هذا التفكير بعض المراجعات الحصيفة التى حذرت من، حتى ألغت، دور الدين، (مغفة ارتباط النزوع التدينى بالتاريخ الحيوى المرتبط بالحاجة إلى الأدمان)، كما استهان هذا الفكر بدور الحافز الشخصى للتملك (مغقلا ارتباط ذلك بالتاريخ الحيوى أيضا الناتج عن التهديد بالموت جوعا والمرتبط باللا أمان الأساسى فى الوجود) إلى آخر مثل ذلك.
ثم إن هذا التفكير السليم جدا (والذى ما زال سليما) قد طبق بكل حماس، وقتل، وإخلاص فى واقع الإنسان لعدة عقود، فى أكثر من موقع جغرافي، وقد فشل للأسف فشلا خطيرا، وقيل فى تفسير ذلك كلام كثير كان من أهمه مراجعة الفرق بين النظرية والتطبيق، ومع كل هذا الفشل، لا يستطيع إنسان أن يدعى أنه تفكير خاطئ أو فاسد، فهو لم يرجح ظلم الإنسان لأخيه الانسان أو يجمل استعمال إنسان لإنسان آخر كأداه لرفاهيته، أو يبرر الاستهلاك للاستهلاك أو لمجرد التميز، أو يدعو إلى الاغتراب، أو يتجاهل الإبداع، لم بفعل أيا من هذا بل نادى بعكسه الجميل، ومع ذلك فقد فشل وسيفشل، كما سيفشل التفكير اللاحق الذى حل محله شامتا وهو يعلن ببلاهة صادقة: نهاية التاريخ، أو حتمية سيادة السوق، أو تمادى صراع الحضارات، نعم سوف يفشل حتما مادام لم يضع – هو الآخر – فى اعتباره تاريخ تطور الإنسان ووسائل تكيفه قبل، وبعد، ومع ما يسمى : “التفكير”.
ثانيا: من منظور تفسير الدين بالعقل (بالتفكير)
إن فشل التفكير الماركسى على أرض الواقع، والفشل المنتظر للتفكير العولمى التسويقى المنتظر هو دليل على أن إغفال التاريخ الحيوي، أو على أحسن الفروض التهوين من دوره، هو كارثة تطورية بكل معنى الكلمة، ولتوضيح بعض ذلك نضرب مثلا واضحا لإهمال تاريخ النزوع الدينى مثلا عبر 300 ألف سنة واختزاله لحساب التفكير المعقلن الحديث تحت ما يسمى تفسير الدين بالعلم (أو بالعقل). بلغ من سذاجة بعض المتدينين، وحرص البعض الاخر على دينهم فى لهفة دالة على شعور بالخجل أو النقص من كونهم متدينين، أن اندفعوا يبررون تدينهم بما يتصورونه عقلا أو تعقلا أو علما، وذلك بمحاولة تفسير الدين جملة وتفصيلا بما أسموه عقلا، وهو ما ظهر أنه مرادف عندهم لإعمال التفكير المنطقى أحادى البعد، أو تقديس العلم الشائع المتاح المحدود المنهج. فانتشر ما يسمى التفسير العقلى للدين، (والمتجسد مؤخرا فيما يسمي: التفسير العلمى للقرآن، كمثال) حدث ذلك بعد أن شاع أن ما لا يوافق العلم، مما نضطر للتمسك به، لا بد أن يحشر حشرا فيما هو أبجدية العلم “المتاح”، كما لابد أن يقرأ من خلال نص التفكير المعقلن. وقد ترتب على ذلك أن اختصر الدين إلى قشور العلم. هذا موقف لا يضيف شيئا إلى الدين حتى لو أعلن أسبقية الدين فى بعض الرؤى الحدسية، ولا يأخذ شيئا من الدين، لا من تاريخه ولا من خصوصيته، ولا من وظيفته.
ثالثا: من منطلق الدراسات اللغوية والنقدية
إن المتابع للتطورات الأحدث فى علوم اللغة وعلوم النقد (الأدبي) لابد أن يطمئن إلى صحوة الوعى البشرى قليلا أو كثيرا، لما يتهدده من خلال تضييق مفهوم العقل واختزال مفهوم التفكير، وتكفى هنا الإشارة إلى الإضافات التى أضافتها دراسات سيميولوجيا اللغة، وكذلك الحركة التفكيكية فى النقد الأدبي، حتى نطمئن إلى يقظة الوعى البشرى إلى ما يحيط به من مخاطر الاختزال والاستسهال، إذا ما استسلم للحاضر الواضح تحت أى اسم براق، حتى لو كان هذا الاسم هو “العقل”، أو التفكير المعقلن.
رابعا: من منظور المدارس النفسية
حتى فرويد الذى أضاف برؤيته إلى فهم ما هو إنسان إضافة عملاقة من حيث تأكيده على تضاؤل دور العقل الواعى أمام سطوة اللاوعي، حتى فرويد انتهى إلى حتم وصاية الوعى المفكر (العمليات الثانوية Secondary Processes) على حركة اللاوعى الدوافعى (العمليات الأولية primary Processes )، فكادت تتوارى عبقرية اكتشاف لغة الحلم التصويرية والكلية والتكثيفية فى محاولاته الحتمية لترجمة الحلم وتفسيره الرمزى التعسفي. وظل الأمر كذلك حسب قول فرويد “حيثما تكون الـ ” هى : يكون الـ “أنا”، حتى نبه سيلفانو أريتى إلى أن التفكير الإبداعى إنما يتم بالتوليف بين هذه العمليات جميعا بما أسماه “الولاف السحرى “The majic synthesis” وهو ما يعادل ما أسماه ” العمليات الثالثوية” Tertiary processes وبهذا أضاف أريتى نوعا من التفكير الذى ليس منطقيا أرسطيا من ناحية وليس عشوائيا خرافيا من ناحية أخري، بل إبداعا متميزا.
- الأشباح والكائنات النورانية الأخرى حقيقة، تصنعها “نيورونات” الفص الصدغى الأسفل بالمخ!
- ترجيح أحد أشكال التفكير على ما عداها يعطل جوانب أساسية فى حياة الإنسان ويؤثر بالسلب على رؤيته للغاية من الحياة
ثم تتعدد المدارس الموازية لتؤكد على تعدد الذوات (بوجه خاص مدرسة التحليل التفاعلاتى لرائدها إريك بيرن) كما تؤكد على حوق كل “ذات” فى القيادة بالتبادل مع الذات اليافعة المبرمجة عقلانيا (= الذات “اليافع” الواقعي) فى هارمونية محسوبة واتساق مناسب، وبالتالى تفتح هذه المدرسة الباب لفهم مشروعية التفكير الطفلى (عند الناضج) والتفكير الحكيم (عند الطفل) كأمثلة كما أن هذه المدرسة تشير إلى أن مسار النضج المستمر إنما يتوجه إلى “الولاف الأعلي” بين الذوات إلى ما أسماه الناضج المتكامل Integrated Adult، وقد اعترف إريك بيرن أن هذا المفهوم غامض بالنسبة له، ذلك لأنه غاية أكثر منه واقعا ماثلا، ولأنه حالة من التكوين المستمر، أما نوع تفكير هذه الذات “الناضج فى تكامل” (كما عدلت اسمه) فهو أقرب إلى العمليات الثالثوية (الإبداعية) التى أشرنا إليها فى فكر سيلفانو أريتي.
وأخيرا فإن المدرسة المسماة “علم النفس عبر الشخصية” تؤكد على نوع من التفكير التجاوزي، فى مرحلة تجاوز تحقيق الذات إلى ما هو عبرها نحو الامتداد فى الكون الأعظم، مما يفتح الآفاق لتفكير أعلى لا يخضع لمنظومة وصاية “التفكير العقلاني” بالمفهوم الغالب.
خامسا: من منطلق بيولوجي
تستعمل كلمة بيولوجى – فى الأغلب – استعمالا مختزلا باعتبار أنها مرتبطة أساسا بالكيمياء الحيوية والمحسوسات الفيزيقية المتعينة، إلى أن استعمالها الأصح والأشمل هو أنها تتعلق بما هو حيوى (تطورى تكاملي) ومن هذا المنطلق توجد مداخل كثيرة تطمئن القاريء إلى أن فريقا من العلماء والمبدعين والعارفين لم يستسلم للاخترال الشائع لما هو تفكير باعتباره المصدر الأساسى للمعرفة، فراح يفتح الباب لتأصيل فهم المسار الحيوى للحياة برمتها، وبالذات للنزوع الديني.
وأكتفى هنا بثلاث أمثلة ذات دلالة
أولا: الأسس التطورية النيورو- بيولوجية للتدين
لم تنكر – حسما – نظرية التطور دور الدين فى الحفاظ على فكرة الانتقاء “الطبيعي، فالشاذع أن داروين وحده هو صاحب هذه النظرية، والزعم الغالب هو أنه كان أكثر ميلا إلى انكار الدين ونفى الخالق بتأكيده على الطبيعة التكيفية الانقائية لمسار الحياة، إلا أنه لم يكن وحده صاحب كشف نظرية التطور الانتقائية التكيفية، ففى نفس العام (1871) شاركه فى الكشف “ولاس” (المنسى والمهضوم حقه) الذى كان يرى أن ثمة إعدادا مسبقا مسلسلا للتكيف يجهز لصلاحية البقاء للحفاظ على الأنواع الأرقي، وبالتالى أن ثمة معد لذلك (الله) وهذا قد يعنى أن الجهاز العصبى أو أى تنظيم حيوى فى الدماغ البشرى هو مهيأ من قديم لتلقى هذا الإعداد والتواصل مع هذه القوة الأعلي، وعلى ذلك فإن هؤلاء المتبقين للبقاء – من وجهة نظر “ولاس” – مجهز عندهم الدنا DNA لإظهار السمات اللازمة لاستمرار التكيف والتطور فى بيئة وظروف جديدة ومتجددة تسمح بظهور أنواع متطورة أرقي. وفى المقابل فإن الأنواع التى حرمت من هذه الاستعدادات لا تستطيع أن تكمل فى ظل نفس الظروف، وعلى ذلك فإنها تتوقف أو تنقرض.، وعلى الرغم من أننى لست متحمسا لمثل هذه التأويلات تبريرا للدين أو دفاعا عن التطور، إلا أننى أوردت هذا الرأى الآخر لنظرية التطور لأظهر كيف أن العلماء لا يتوقفون عند تفسيرات منطقية متعجلة، وأن احترامهم لحدس الجموع من ناحية، وللتاريخ من ناحية أخرى يجعلهم يحاولون إضافة ما – إضافة تبدو متعسفة أحيانا ومنطقية أحيانا أخرى – وذلك فى محاولة المواءمة بين رؤى ومعلومات نظرياتهم الأولية وما يغلب عند الناس ويؤيدة التاريخ.
وقد حاول بعض العلماء ربط بعض ما لاحظوه من سلوك الحيوانات باعتباره الجذور الأولية للنزوع التديني، فلاحظوا أن الأفيال والذئاب والشمبانزى تمارس نوعا من الطقوس المنتظمة بشكل جماعى أثناء العواصف والرعود، وهذا يكاد يشيه ما يقوم به بعض البدائيين فى مثل هذه الظروف، كما أن هذه الفيلة والذئاب والشمبانزى تدفن جثث موتاها، أو بقايا هياكلهم كما يفعل الإنسان.
كذلك درس فريق ثالث سلوك بعض أنواع الإنسان الأول (البليوليثيك) الذى عاش فى أوربا والشرق الأوسط من ثلاثمائة ألف سنة قبل الميلاد، حيث ترك لنا ما يشير إلى أنهم كانوا يدفنون موتاهم فى وضع النوم مما يشير إلى احتمال إيمانهم بالحياة الآخرة، كما كانوا يضعون حولهم قرون الماعز فى شكل دائرة ومعها بعض جلود الحيوانات، وبعض الأدوات الحجرية والزهور. (مما امتد وتعمق فى طقوس الخلود عند قدماء المصريين). وعلى ذلك فمن المحتمل أن هؤلاء البشر الأول (300.000 سنة ق.م.) كان عندهم عواطف ومشاعر قوية وشديدة تجاه ما هو روح مطلقة أعلي، وما هو الحياة بعد الموت، وما يصاحب ذلك من آمال ومخاوفتتعلق بهذه المعتقدات. على أن أحدا من العلماء لم يستطيع أن يحدد اللحظة التى يمكن أن نتصور أن الإنسان أصبح فيها على وعى بوجود الله، (أو الروح الأعظم).
ثانيا: محاولة تحديد المخ الحوفى Limbic Brain كمركز أساسى للخبرة الدينية
لم يستبعد العلماء احتمال وجود شبكة نيورونية قادرة على استقبال الأنماط والأشكال الهندسية المرتبطة ارتباطا شديدا باللغة الدينية الكلية (والفنية لاحقا)، وهذه الشبكة لها محطات فى الفص الصدغى الأسفل، وفى اللوزة، وفى الحوفية، والمهيد – وحيث أن هذه النيورونات لها استجابات متعددة الأنماط فإنه يمكن أن يشمل ذلك بعض الوجدانات المتعلقة بالتدين، ومن الممكن أن تتمازج الأشكال الهندسية الرمزية مع الوجوه فيما يشبه الخبرة الصوفية العاطفية (التدينية) بشكل أو بآخر.
وعلى هذا الأساس، فقد حاولوا تفسير المستوى النيورونى لإدراك الملائكة والأرواح والأشباح بأنه يحدث من مدخلات من مختلف النيورونات فى مختلف أجهزة الدماغ كل منها يضيف بعض المميزات لما ينتج من إدراكات عاطفية (سمعية بصرية دينية).
ويذكر يونج (1964) ما يتعلق بهذا الاحتمال حين يقرر أنه بغض النظر عن الثقافة (البيئة المحيطة) والزمن، فإن الهنود الأمريكيون الحمر والأفريقيين، والكرومانيين، والمصريين، والمسيحيين المحدثين، كل هؤلاء يرون الصليب بشكل متواتر راسخ فى خبرتهم الصوفية، وبعزون ذلك إلى خبرة كونية أو روحية فائقة الدلالة. وحديثا: فإن الأبحاث النيوروفسيولوجية أثبتت أنه توجد نيورونات تطلق دفعاتها انتقائيا إلى أشكال بصرية هندسية تشبه الصليب أو المثلثات (الأهرامات) والوجوه، وهذه النيورونات باسم نيورونات الصليب، كما تسمى أيضا النيورونات الباحثة عن المعالم، حيث أنها يمكن أن تتعرف على الوجوه، والأشكال الهندسية وتستجيب بشكل دينى لذلك. وقد خلصت هذه الدراسات إلى احتمال أن يكون المخ الحوفى Limibic Brain هو الموقع المسئول عن الخبرات الدينية”، بالإضافة إلى مسئوليته عن بعض تلك الخبرات التى وصفها بعض من استعاد الحياة بعد أن عد ميتا بشكل أو بآخر، ومن هذه المحاولات والفروض والاجتهادات التأويلية يتنامى الحديث عن أمخاخ متعددة وليس مخا واحدا من بينها مخ القشرة الأحدث، والمخ الحوفى (الوجدانى التديني) وغيرهما.
ثالثا: تعدد الأمخاخ (الأدمغة) وتعدد التفكير
إن التحدى الذى تواجهه هذه المداخلة لا يقتصر على رفض ترجيح أحد أشكال التفكير على ما عداها فحسب، أو ترجيح عمل مخ أحدث على مخ أقدم، وإنما هو ينبه أساسا إلى خطورة إنكار فاعلية دور المخ الأقدام فى كلية عمل الوعى البشرى الأحدث، وتأثير ذلك فى مسار تطوره، ذلك أن الأقدم لا يكون أقدم إلا إذا انفصل عن الأحدث واستقل وساد بصفة عشوائية (كما هو الحال فى الجنون) أما إذا كان المخ الأقدم كامنا فاعلا متبادلا متناغما مع الأحدث تطورا، فإنه لا يصبح الأقدم، وإنما يصبح المتضمن فى الأحدث الكلي، وليس الأحدث المغترب.
ثم إن الخطأ الذى ترتب على الإعلاء من التفكير المعقلن لم يقتصر على استبعاد النشاط الأقدم بعد فصله تعسفيا ليصبح أقدم فعلا، بل إنه راح يستبعد نصف المخ الكروى الذى أسماه متنحيا مع أنه منظومة دماغية مواكبة فى مسار التطور لمنظومة النصف الكروى الذى سمى طاغيا (والذى أصبح مؤخرا النصف القاهر)، إن النصف (المخ/ الدماغ) المتنحى يعتبر عضوا مستقلا بل إنه يعتبر كيانا متكاملا بشكل أو بآخر، وقد أدت الدراسات لكل نصف (مخ) على حدة، بالقدر الذى سمحت به الأدوات والفرص المتاحة، إلى التقرير أنه حتى ما يسمى بالمخ الأحدث المتمثل فى النصفين الكرويين (= القشرة)، ليس مخا واحدا، والأهم من ذلك أن كلا من النصفين (المخين) يفكر بطريقة مختلفة عن النصف (المخ) الآخر. يقول وكسلر (1980): إنه من المسائل التى شغلت فسيولوجيا الأعصاب طويلا: الأحقية النسبية لفحص نصفى الدماغ على مستويات متباينة. وقد قام بوجن قبل ذلك (1969) بفحص الفروق النوعية لعمل نصفى المخ سواء على المستوى التجريبى (فى الشمبانزي)، أو بالملاحظة الانتقائية فى الإنسان لبعض الحالات التى أصيب فيها أحد نصفى المخ دون الآخر، أو التى أجريت لها عمليات فصل النصفين الكرويين بشق الجسم المندمل (فى حالة الصرع) أو بإزالته فى بعض حالات الأورام. وقد انتهت معظم الأبحاث إلى أن كلا من النصفين الكرويين له عمل مختلف نوعيا عن الآخر، كما ثبت أن تركيب كل من النصفين بالتشريح الدقيق بالفحص المجهرى الإلكترونى يشير إلى اختلاف تركيبى أيضا، وكذلك فإن المخ غير الطاغى (الأيمن فى الشخص الأيمن) متخصص أكثر فى النشاط البصري، التصويرى المكانى وأيضا فى التفكير التربيطي، فى حين أن المخ الطاغى فى منطقة بروكا. وأخيرا فإنه يبدو كذلك أن الاستجابة العاطفية فى كل مخ عن الآخر. وعلى ذلك فإن استعمال كلمة “طاغ” و”متنح” فى وصف كل من النصفين الكرويين هو استعمال قديم وخاطئ ويدل على طغيان غير مشروع وتحيز من جانب المنظرين إلى ما يعرفونه من تفكير عقلانى على حساب تهميش ما يعيشونه من تمازج خبراتى أشمل، ولهذا اقترحت أن يسمى النصف الطاغى بالمخ الترميزى أو المنطقي، فى حين يسمى النصف المتنحى بالمخ التركيبى أو التصويري.
تفاؤل حذر وخلاصة:
على الرغم مما حفلت به هذه المداخلة من نقد وتحذيرات ومخاوف، فإن الوعى البشري، بخبرته وحدسه وحساباته وإبداعاته ومعلوماته جميعا قد أدرك بشكل ما خطورة هذا الانحراف فى مسار الإنسان، وتصورى أن ما يجرى من استدراك وتعميق وتوسيع للمنهج وابتداع لغات أقدر على الإحاطة بالظاهرة البشرية فى كل مجال، هو مبشر بخير يمكن أن ينقذ الإنسان من التهديد القادم، اللهم إلا إذا بلغ عمى الساسة، والأصوليين من المتدينين والعلمانيين والتنويريين جميعا، مبلغا يحول دون أن تنقذ هذه الاستدراكات المعرفيه الرائعة الإنسان من الوصابة التعسفية التى تفرضها أخر عشرين قرن من الزمان على ستمائة ألف سنة من التاريخ، وقد يتمادى هذا العمى يخطإ تطورى عشوائى وارد، كما قد يأخذ دفعه وتبريره، بشكل خفي، من جشع الماليين الجدد الذين احتفظوا من التاريخ بعدم الأمان المتواصل الذى يبرر ما يجمعون، دون السعى إلى توفير الأمان من واقع الامتداد فى الكون والتواصل مع البشر.
ثم أختم هذه المداخلة بعرض بعض ما يدعو إلى هذا التفاؤل الحذر
فعلى مستوى المنهج (العلمي) يجتهد العلماء فى تدارك اختزال الإنسان إلى عقل ظاهر مفكر، بالاهتمام أكثر فأكثر بتوسيع المنهج من خلال العلوم الجديدة مثل علوم الشواش والتركيبية، وأيضا من خلال إحياء المناهج الحكائية القديمة، واحترام دلالات وآثار وضرورة الثفافة الشفاهية بشكل معاصر يمكن تحديثه، وأيضا من خلال توثيق الوصلة بين مناهل المعرفة المختلفة سعيا إلى تكامل معرفى أشمل.
وعلى مستوى العلوم الإنسانية تتمادى محاولات التخلص من الشعور بالنقص أمام منهج ما سمى يوما بـ “العلوم المنظبطة” بما هو جدير أن يسمح للعلوم الإنسانية بالانطلاق بمنهجها الخاص إلى التصالح الحقيقى مع المعارف الإيمانية والتوجه الدينى والحدس الشعبي، وكل النشاطات التى يمكن أن تندرج تحت “ما ليس كذلك”. وأيضا لتعميق النظر فى وعى الناس مباشرة أثناء إبداعاتهم اليومية العامة بما فى ذلك إبداعات التدين والرقص والغناء والعمل أيضا.
وعلى مستوى الإضافات الإبداعية فى الأدب والشعر والتشكيل وسائر النشاطات التصويرية والجمالية الكلية، فإنها تستعيد موقعها كمصدر أساسى ينهل منه الكائن البشرى معارف كلية تصحح مساره الخطى المختزل، وبالتالى فهى لابد أن تساهم فى رسم خطاه المستقبلية.
وأخيرا وليس آخرا فقد يكون فى احترام تاريخ النزوع الدينى ودوره الإيجابى فى مسيرة التطور البشرى ما يعفى العلماء المتدينين من اختزاله إلى ما يعرفون، وأيضا ما ينقذ الدين من رجالاته الذين يصرون على تقزيمه فى ألفاظ معاجمهم، وأيضا على تبريره بظاهر عقولهم، مع أن وظيفته التطورية، وحتى النفعية الحالية، تبدو أعرق وأقدر من كل هذه الوصايات اللاحقة.
****
هوامش
(1) لم أتطرق إلى دور الجسد فى التفكير، وهو دور أساسى تناولته فى مداخلة سابقة (مراجعات فى لغات المعرفة: دار المعارف: سلسلة إقرأ 620,. القاهرة سنة 1997 ص 104-126).
(2) المعلومات الخاصة بالتفسير النيوروبيولوجى للنزوع الدينى مقتطفة من محاضرة للدكتور مصطفى رياض الأستاذ المساعد للطب النفسى كلية طب قصر العيني، ألقاها فى الندوة الشهرية لجمعية الطب النفسى التطورى بمستشفى دار المقطم للصحة النفسية ندوتا: أغسطس، سبتمبر سنة 1999