الأهرام: 20/9/2004
البقاء لله وهارمونية التسبيح
كنت أكتب مقالا بعنوان ” التنافس لإبداع حلول أقدر على استيعاب طاقة العدوان” كان ذلك بناء على طلب كريم من إبن عزيز مسئول عن مجلة ثقافية متميزة، أن أطور تفصيلا ما جاء فى مقالى الأخير فى الأهرام بعنوان “قراءات أخرى للنجاح والفشل” حيث أنه قد وصل للبعض، وكأننى قد أكون ضد التنافس الرياضى برغم روعته، حتى إذا كنا نحن الفائزين فى هذه اللعبة أو تلك. فى نفس الوقت كنت أهم بالذهاب لتسجيل حلقة فى برنامج “سر اللعبة” لقناة النيل الثقافية يوم الأربعاء الماضى وكان الموضوع هو “لعبة التنافس”، ربما اخترته لنفس السبب (توضيح مقال الأهرام)، وإذا بزميل فاضل يتصل بى ليبلغنى نبأ رحيل الأخ الكريم المرحوم أ. د.عادل صادق؟! شعرت بثقل يكاد يغوص بى فى مقعدى حتى تساءلت كيف يمكن أن أذهب للتسجيل، بعد دقائق، بسيقان من رصاص وقلب مفعم بكل تلك المشاعر التى لم تقتصر على فجيعة المفاجأة، وصدمة الفقد؟
نظرت فى الأوراق أمامى قبل أن أطويها فإذا بها تساؤلات أخرى عن حقيقة الصراعات التى يعيش فيها العالم الآن وعلاقتها بقانون “البقاء”: صراع الحضارات، صراع السوق، الصراع العرقى، محاور الخير والشر (لكلٍّ حقيقته!) ..إلخ. تساءلت من جديد: ماذا نعلّم أطفالنا ليكونوا أحسن؟ أحسن مِنْ مَن؟ أحسن من ماذا؟ لماذا؟ لمن البقاء فعلا؟
دق جرس الهاتف من جديد فإذا بإحدى بناتى (طالباتى) تعزينى فى فقد الزميل الكريم وهى تجهش بالبكاء حتى لم تكمل المكالمة، كان من بين ما قالت ذلك التعبير الشائع الذى لم أفهم معناه أبدا “البقية فى حياتك”، رددت بشكل آلى “حياتك الباقية”. وضعت السماعة وأنا أتساءل عن معنى ما اعتدنا أن نررده بصدق فى مثل هذه المناسبات: أى بقية تلك التى نتحدث عنها؟ ما هذا؟ وكيف أن حياتها -حياة ابنتى تلك- هى الباقية؟ قفزت إلى وعيى مواساة أخرى أقرب إلى نفسى حين نذكر أهل الفقيد – وأنفسنا- “أن الله سبحانه استرد وديعته”. نحن ودائع لأجل، ولكل أجل كتاب، حتى إذا جاء أجلنا لا نستأخر ساعة ولا نستقدم.
رجعت إلى المسودة فوجدت التحدى يحتد من جديد وهو يهز قانون البقاء الحيوى الأشهر. ألا يحتاج هذا القانون الداروينى إلى أن نطالب بتعديله مثلما نطالب بتعديل قانون معاشات أساتذة الجامعات؟ لمن البقاء فعلا بين البشر عبر العالم؟ البقاء للأقوى أم للأشطر أم للأمضى سلاحا؟ أم للأخبث مخابرات؟ أم للأحذق إعلاما؟ وجدتنى أرد بتلقائية دون تفكير أن “البقاء لله”.
هل هى كلمات عابرة ثم ننساها كما ننسى الحزن والعظة والحكمة بعد كل فقد عزيز أو غير عزيز؟ ألم يئن الأوان أن نتعمق فهم تلك الكلمات القليلة الرائعة لعلنا ندرك من واقع إبداع حلول جديدة، تليق بتاريخ الإنسان الرائع، فهما جديدا لها يصبرنا على فقد أعزائنا ويقربنا من معنى أعمق لحياتنا، ونحن نواصل السعى لنتصاعد بهارمونية التسبيح وهو يقربنا بشرا من بعضنا البعض، إذْ نتوجه إلى الحق سبحانه وتعالى بدلا من تصارعنا حتى تُبيد كل فرقة الأخرى بلا وعى أو بوعى أعمى، وبشكل لا تمارسه الحيوانات من النوع الواحد حفاظا على بقائها؟
حين نتعلم من فقد عزيز، وظلم قاهر متغطرس، وغباء إرهابى، وبلادة مستغل، كيف أن البقاء لله، تصبح التعزية بردا وسلاما على أهل الفقيد ومحبيه، وعلينا.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. واغفر لنا وله.